استشكال ” واقع تدريس الفلسفة ” في المرحلة الثانوية: تساؤلات حول الواقع والمآلات
- استشكال ” واقع تدريس الفلسفة ” في المرحلة الثانوية: تساؤلات حول الواقع والمآلات
- عبد الوهاب البراهمي
قد لا نختلف كثيرا في الإقرار بأن واقع تدريس الفلسفة في تونس تحديدا وربما في مواقع أخرى، واقع ”صعب“ من وجوه عدّة بل قد نذهب إلى القول بأن هناك ”أزمة“ ، وقد لا تعوزنا القرائن للتدليل على هذا . فبين رهانات تدريس الفلسفة في المعاهد الثانوية وبين حاصل تدريسها لدى التلاميذ الذي تشهد به نتائج امتحان الباكالوريا لهذه المادة وبين أثرها الفعلي في معيش التلميذ وفي المجتمع عموما بون شاسع يؤكّد أننا أبعد ما يكون عن تحقيق أهداف درس الفلسفة. لهذا نفهم ما يعيشه القائمون على هذا الشأن من قلق وحيرة إزاء هذا الواقع الذي يشهد بعزوف ملحوظ من قبل المتعلّمين عن الانشغال بالتفلسف والاهتمام بالدرس بل والسخرية منه أحيانا واعتبار ما يميّز“ تجريد النصوص الفلسفية ومواضيع الاختبار“ أمرا غير محتمل. وتكشف أوراق التحارير أثناء السنة الدراسية وفي الباكالوريا عن ضعف في التحصيل ، وتعطي الانطباع ” بعقم ” الجهد المبذول بل ولامعنى” تدريس الفلسفة“، خاصّة إذا ما تبيّن لنا من خلال إصلاح التحارير بأن التلاميذ في الغالب-وبعد جهد سنة كاملة- لا يملكون الأدوات التي تخوّل لهم مجابهة مستوى ” تجريد صياغات الاختبارات“ و لا يستندون في معالجاتهم لها على النص الفلسفي ولا على البرهان …بل إنّك لتجد التحارير خالية من الحسّ الفلسفي ومن الجهد الذاتي في التفكير المنظّم والنقدي ، لتكون مليئة بالأحكام المتسرعة والآراء بل والانطباعات الشخصية … في ضرب من القول لا يملك شيئا من سمات الفلسفي ، كأنما هو حديث ” نفس“ أو كلام ناتج عن تداعي حرّ ومدوّن بطريقة خالية من الإحكام المنهجي إلا من صورة مشوّهة لبناء منطقي للخطاب . الأمر الذي يجعل عملية إصلاح هذه التحارير ضربا من التمرين الشاق المضني و“المؤلم“ أحيانا خاصّة إذا ما كان المطلوب أن لا تكون الأعداد المسندة متدنية جدّا . لقد باتت مهمّة المدرس ، مدرس الفلسفة بالذات، مهمّة شاقّة أكثر من أي وقت مضى بل إنّي أكاد أقول بان المدرس يجد نفسه رغم الجهد المبذول من قبله وممن يرافقونه في مهمته، أمام استحالة تدريس الفلسفة . وقد يجد البعض في هذا مبالغة وتشاؤما لا مبرر له ولكن إذا ما نظرنا إلى موقع المادة في المنظومة التعليمية وجدنا أن تدريسها لا يشكّل أولوية في التعليم الثانوي مقارنة بالعلوم والتقنيات( الضوارب وعدد ساعات الدرس تشهد بذلك ، وارتفاع ضارب المادة في شعبة الآداب حالة لا يقاس عليها ولا تشهد بتقدير مخصوص لمادة الفلسفة إذا كان عدد تلاميذ الآداب ضئيل بالنسبة إلى تلاميذ الشعب العلمية وهم الجمهور الغالب الذي يتوجه إليه درس الفلسفة ؛ وهو الجمهور الذي لا يجد حرجا في السؤال بسخرية عن موجبات تدريسه الفلسفة والنفع منه مما قد يحرج المدرس ويحمله أحياناعلى تبرير وجوده في القسم ومشروعية ما يفعل ..و لعل ذلك يعبّر عن منزلة هشة للفلسفة في معيشنا اليومي وعن صورة عنها تسيء تقدير قيمتها وتعتبرها ضربا من الترف الفكري لا يعني إلا فئة من الناس.
وبالرغم من أنّ تدريس الفلسفة في تونس أمر مُمَؤْسس وله تاريخه الخاص وهو من المعالم المهمّة في تاريخ المنظومة التعليمية، إلا أنه لا يرقى إلى الخيار المميّز . فالفلسفة مجرد مادة من الموادّ تدرس ويمتحن فيها التلميذ في الباكالوريا؛ بل إنّ تاريخ تدريس هذه المادة يشهد بتراجع منزلتها ففي السبعينات من القرن العشرين مثلا كانت الفلسفة تدرس للشعب العلمية بضارب 4 قبل أن تصبح اليوم بضارب 1.5. إنّ هذا التراجع مرتبط بالواقع الاجتماعي والسياسي والتربوي وبما يحدده من قرارات سلطوية، في علاقة بتطور المجتمع وتطوّر حاجياته وتأثره بالظرف العالمي . ذلك أن واقع تدريس الفلسفة في بلدان أخرى عربية وحتى غربية ليس بأفضل مما هو عليه في تونس بل إن خيار تدريس الفلسفة في المرحلة الثانوية خاصة، بعض ما يميّز بلدنا حينما نعلم أن أغلب البلدان العربية لم تنخرط في هذا الخيار لأسباب سياسية وثقافية… وان تدريس الفلسفة في بعض البلدان الغربية يقتصر على المنطق والأخلاق .ورغم أن تدريس الفلسفة في تونس قد شهد تطوّرا نوعيا ملحوظا إن على صعيد البرامج والكتب المدرسية منذ 2006 ، أي بعد المراجعة الهامة للبرامج وتأليف جيل جديد من الكتب المدرسية حاولت استيعاب التحوّلات البيداغوجية والتربوية، متأثرة أيضا بالتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية في المحيط العربي والعالمي ومستفيدة بالتجارب السابقة في تدريس الفلسفة في تونس وغيرها، وهذا فضلا عن قرار تدريس الفلسفة في الثالثة ثانوي لسائر الشعب . ورغم أن هذه المراجعة أفضت – والحق يقال – إلى صياغة برامج للفلسفة متميّزة( على ما فيها من علاّت) يشهد بتميّزها أهل الاختصاص من تونس وبلدان عربية لها تقاليد في تدريس المادة والتميز فيه مثل المغرب ، فإنّ هذا الانجاز لم يؤت بثمرته المرجوّة بعدُ، ليستمرّ الوضع على علاته محيّرا يحملنا على التساؤل:
لماذا لا يرقى تدريس الفلسفة إلى مستوى ما يُتطلع إليه من الرهانات؟ ما الذي يحول دون ذلك ؟ هل يعود الأمر إلى المنشغلين بالشأن الفلسفي تدريسا وإشرافا أم إلى الظروف المحيطة بهم ؟ هل يمكن أن تكمن العلة في الفلسفة ذاتها كمادة مدرسة أم فيمن أوكلت له مهمّة تدريسها ومراقبتها أو مرافقتها وبناء التصورات ووضع الآليات التي تسمح بذلك أم في الجمهور الذي يقصده درس الفلسفة أم في طرائق تدريس المادة …؟ هل يمكن ردّ أزمة ”تدريس الفلسفة“ إلى أزمة ”هوية“ مردّها التناقض بين انتظارات التلاميذ من درس الفلسفة بناء على خصوصية معيشهم واهتماماتهم وطبيعة البرامج الرسمية ومحتوياتها والتمارين المدرسية التي تبدو غير قادرة على تلبية هذه الانتظارات؟ أم تكمن العلّة في جعل الفلسفة مادة تعليمية و تدريسها مَمؤسَس، في حين أنها فكر حر يتمرد على ضوابط المؤسسة؟ ولكن هل يعني هذا أن تنظيم تدريس الفلسفة يتعارض بالضرورة مع قيمة حرية المدرس ؟ هل أن مَؤسَسة تدريس الفلسفة يتعارض مع حقيقة أن تدريس الفلسفة هو- دون غيره – فعل فلسفي يشترط الحريّة ، حرية المدرس في كيفية التدريس وفيما يدرّس وإمكان توفّر فرصة للتفكير الحرّ ؟ ولكن كيف يمكن لمدرس الفلسفة أن يترك لشانه ( يدرّس ما يشاء وكيفما يشاء) في أمر يتعلق ببناء الإنسان فكرا وسلوكا، أمرا يتصل بالناشئة ويخص مصير الجماعة؟ ثمّ كيف يكون حرا بلا ضوابط وهو في إطار مؤسسة موضوع مراقبة سلطوية ؟ ألا يكون من الضروريّ ان يوجد مقرّر يضبط محتويات التدريس ومقاصده ورهاناته بل وحتى كيفية الوصول إليها؟ ولكن كيف نكون إزاء الفلسفي حقّا الذي لا يتولّد إلا بالرغبة والحرية إذا كان فعل التدريس موجّها ومقيّدا بضوابط ومراقبا بسلطة بيداغوجية وعلمية ؟ لماذا لا يكون تدريس الفلسفة على نحو ” مغاير ” لما هو عليه : تدريس لا يرتبط بضوابط التقييم الجزائي وفي إطار مغاير شبيها بتدريس الفنون ، من رسم وموسيقى … للتلميذ فيها هامش حرية في التمرين والتدريب بمعنى أن يكون العمل في “ورشات ” خاصة وحرّة يختار فيها المتعلم الموضوعات في ضوء اهتماماته بمساعدة مرشد أو معاون ؟
ولكن هل يعني هذا أن تدريس الفلسفة لا يكون بحقّ إلا خارج النظام ؟ ألم يمتنع سبينوزا عن تدريس الفلسفة بدعوى أن ذلك يحد من حريته في حين قبل هيجل ذلك ولم يمنعه تدريس الفلسفة عن فعل التفلسف بل إنتاج موسوعة العلوم الفلسفية بطلب من تلاميذه لتوضيح محتوى دروسه وتيسير فهمها وهو أمر يقدره هيجل ويمدح القائمين عليه من المدرسين في المعاهد لأنهم كما يقول“ يجعلون من المجرد والذهني أمرا قابلا للفهم ” ؟ ألا تحتاج الفلسفة وهي على قدر كبير من التجريد والعقلانية إلى وسطاء ييّسرون فهمها وتعلّمها ؟ ولكن هل معنى ذلك أن مشاكل تدريس المادة تردّ إلى فعل الوساطة هذا والذي يتكفل به المدرس، وأن معالجة وضع الفلسفة يكون بمعالجة فعل التدريس ذاته منهجا ومحتوى، بمعنى إصلاح ديداكتيك الفلسفة ؟ ولكن ماذا يمكن لمدرس اجتهد في تنويع أساليب تدريسه للمادة والتزم بنصائح الديداكتيين والمشرفين البيداغوجيين أن يفعل – كما يقول أفلاطون- مع متقبل ( هو التلميذ) لايملك الرغبة في الفهم، في التفلسف؟ ألا يحيل هذا فعل التدريس ، تدريس الفلسفة إلى فعل مستحيل حقا ،أو إلى فعل صوري بالنظر إلى كونه فعلا علائقيّا يتضمن رسالة بين باث ومتقبل؟ هل تكفي رغبة المدرس وحماسته لمهمته لتحقيق رهانات درس الفلسفة ؟ أليس فعل التدريس علائقي ومركب يقتضي أيضا استعداد المتعلّم وتهيئه لفعل التعلّم؟ ماذا عن استعدادات المتلقي لدرس في العقلانية الصارمة والمجردة ؟ كيف له أن يقبل عليه إقبال”المحب“ ( وفق ما يعنيه التفلسف) وهو نقيض ميله الطبيعي، لم ينشأ عليه، فضلا عن أن الأمر على قدر من التجريد و“الصعوبة“ يعسر استيعابه برغم جهد المدرس في تبسيطه ؟ ألا يكون من الضروريّ – والحال هذه- تحسيس المتعلم أوّلا بضرورة وخطورة فعل التفلسف وترغيبه في الاشتغال عليه؟ ولكن كيف يمكن أن نولّد دافعية ورغبة لدى متعلّم تجعله يقبل على درس الفلسفة إذا ما كان المدرس ذاته لا يملك ما يكفي من الدافعية والرغبة في تدريس الفلسفة ، فأنى له أن ينجح في خلق هذا الدافعية لدى المتلقي فضلا عن نقص في تكوينه لا يسمح له بتكريس آليات التحفيز والترغيب ؟ ألا يعني هذا أن فعل التدريس للفلسفة يقتضي أن يكون للمدرس، لا الكفايات المؤهلة للفعل التدريس فحسب بل اقتناعا شخصيا بضرورة هذا الأمر وإيمانا به ورغبة في إنجازه أيضا ؟ ولكن أي ضرورة نعني لديه تحمله على هذا الععل وما أساس هذه الرغبة فيها : هل ضرورةً أساسها الحاجة المادية، مما يجعل التدريس مجرد مهنة يتعاطاها المدرس بقصد تلبية حاجياته الأمر الذي يجعله مجرد موظّف يؤدي مهمته بقدر ما يتيسر له ذلك، أم ضرورة أساسها حاجة فكرية أو شغف خاص بالفلسفة وتدريسها ومطلب ثقافي وحضاري ، تجعل من مدرس الفلسفة في منزلة خاصة يحمل على عاتقه مهمّة خطيرة : المساهمة في بناء الإنسان المنشود؟ ولكن لو سلمنا بوجاهة هذا السؤال ألا يقتضي ذلك النظر في مدى تأهيل المدرس – في مجال اختصاصه في الجامعة ثم مراكز التكوين العلمي والبيداغوجي- إلى الاضطلاع بهذه المهمّة؟ هل يسمح تدريس الفلسفة في الجامعة بإنتاج مدرس قادر على أداءها؟ أم أن واقع تدريس الفلسفة في الجامعة ، واقع ”معلول“ يلقي بظلال ”علله“ على وضع تدريس الفلسفة في الثانوي ؛ مما يعني أن البدء بإصلاح الدرس(درس الفلسفة) يكون بالبدء في إصلاحه في التعليم العالي ، في قسم الفلسفة، إذا ما ربطنا تدريس الفلسفة بمدى امتلاك المدرس مؤهلات ذلك؟ وهل تسمح مراكز التكوين فعلا بتكوين متين يؤهل المدرس حقا للقيام بمهمته وتيسيرها وهي لا تتوفّر غالبا عل الشروط الضرورية لذلك؟
ألا نكون بذلك قد حصرنا إصلاح علاّت درس الفلسفة في إصلاح كيفية تدريس الفلسفة في المنظومة التعليمية وفي مراحل تدريسها ومراكز تكوين مدرسيها ، وكأنما الأمر يعود إلى أمور تقنية وتنظيمية وربما مضمونية تتصل بالبرامج وطرق التدريس الخ ، في حين أن الأمر قد يبدو أعمق من ذلك – على أهمية هذا الجانب الإجرائي- إذ يتصل بمنزلة الفلسفة في النسق الثقافي لمجتمعنا العربي الإسلامي، وبمنزلة التعليم في النظام السياسي وبصورة المدرس عموما ومدرس الفلسفة خصوصا ومنزلته الاجتماعية والثقافية ؟ ألا يحتاج الأمر –حقا- إلى تأسيس تصوّر جديد للمجتمع الذي نريد وللإنسان الذي نريد ، والتربية التي نريد وإلى إعادة منزلة بناء الفلسفة وتدريسها على ضوء هذا التصوّر؟ ألا يكون البدء في الإصلاح من هنا ؟ ولكن ألا يحملنا هذا على السؤال : من يضطلع بهذا الأمر وكيف يتحقق؟ من يملك مشروعية التأسيس لإنسان جديد ؟ أليس هذا مهمّة الجميع ؟ ولكن كيف للجميع أن يضطلع بهذه المهمّة وهو لم يهيئ تربويا وسياسيا لعمل جماعي لحوار جماعي ولم يتربى بعدُ على قيمة ”العمل معا“ ؟ هل يوكل هذا الشأن ( أي الإصلاح) إلى رجال التربية أي إلى الخبراء؟ ولكن كيف لطرف – وإن كان خبيرا- أن يقرّر للجميع في أمر جوهري ومصيري ذي طبيعة مركبة يحمل في بنيته أبعادا لا تربوية فحسب بل سياسية وثقافية واجتماعية الخ؟ وماذا عن الفيلسوف في هذا : أليس معنيا بوصفه من أصحاب الشأن ؟ هل يمكن أن نبعده عن الشأن التربوي وهو من صميم انشغالاته؟ من يملك القدرة على طرح الأسئلة الأساسية وبوضوح وعمق ؟ هل معنى ذلك أن يبدأ العلاج ربما بحوار موسع، فلسفي في وجه من وجوهه، بل ربما كان “فلسفيا ” أوّلا وبالأساس يطرح الأسئلة الجوهرية ( التأسيسية التي لا يعرف غير الفيلسوف كيفية طرحها لأنّ ذلك من صميم مهمّته) حول وضع التربية عموما ووضع التعليم ، ووضع تدريس الفلسفة ؟ ولكن كيف يمكن لهذا الحوار أن يكون ممكنا إذا لم تتوفّر شروطه السياسية والاجتماعية ..( فضاء للحوار ومناخ ديمقراطي ..)؟ هل معنى هذا أن نبدأ أوّلا بإصلاح السياسي، بوضع أسس الديمقراطية شرطا سياسيا فعليا لكل إصلاح تربوي أو غيره ؟ ألم تنشأ الفلسفة قديما وازدهر تدريسها في مناخ الديمقراطية؟ أليست الفلسفة وتدريسها شأن مدني مؤسس اجتماعيا وبالتالي شأن سياسي ؟ ألم يكن الفيلسوف دوما أي كان موقعه حرّا أو موظّفا حتى ” سياسيا”؟ ولكن هل يحتاج البدء بإصلاح سياسي ، إلى قرار سياسي سيادي أم إلى إرادة مواطنية ؟ أية جهة ” سياسيّة” تسمح بحوار مجتمعي حول ” الإصلاح” عموما سياسيا ثم تربويا ؟ أي “سياسي” يكون صديقا للفلسفة يرى حاجة لحوار فلسفي حول إصلاح التربية والتدريس ؟ كيف نتصوره كذلك، والسياسي يخشى الفيلسوف بل ويسخر منه بوصفه لا يكفّ عن نقد كلّ شيء بما في ذلك ” السياسي” ولا يملك قرار الفعل؟ فضلا عن أن الفيلسوف لا يرضيه حكم “السياسي” أي كان إلا أن يحكم بدلا عنه ولكن في نموذج للحكم لا يرضاه إلا هو ؟ فأي جهة تملك شرعية البدء في الإصلاح ؟
من أين يبدأ التأسيس لواقع جديد لو سلمنا بأننا في لحظة تأسيس حقا، في لحظة ثورية؟ قد لا تكون البداية إلا بقرار أن نبدأ وقرار البداية يملكه من له القدرة على ذلك ، بمعنى من يحكم. ولكن يبدو أن المشكل هنا ، فيمن يحكم ومن ” يريد“ حقّا؟ الشعب أم السياسي ؟ ألا يكون علينا تعيين المرحلة الراهنة سياسيا ؟ ألا يبدو أنه علينا حل مشكل الحكم أولا لنفرغ لإصلاح الشأن التربوي وإصلاح درس الفلسفة ؟ ولكن ألا نكون بهذا قد أجلنا عاجلا أو ربما حكمنا ”بالعطالة ”على مسار الفعل الإصلاحي في أمر جلل هو التربية والتعليم حينما جعلناه مرتهنا بحل مشكل الحكم ، وهو من أعسر شؤون البشر، فضلا عن كونه شأنا لا ينفصل عن التربوي ؟ ولكن أليس من الضروري منطقيا وعمليا، إذا كان السياسي شأن الإنسان أو سلمنا بأن الإنسان ” حيوان سياسي“، أن نبدأ ببناء صورة الإنسان الذي نريد ؟
من أين يكون البدء ؟ هل يكون فلسفيا، بالسؤال عن الإنسان مسلمين به ”انشاءا تربويا؟ وإذا كان الإنسان فعلا هو حاصل تربوي أو كان ” إنشاءا تربويا“ أفلا يكون البدء ببناء صورة التربية الذي نريد أي الإنسان الذي نريد ؟ ألا يحدد هذا صورة الحكم الذي نريده آلية لتحقيق هذا الإنسان؟ ألا يبرر لنا هذا أن نشتغل بالفكرة أولا ونبني التصوّر للإنسان ثم للتربية التي ترضينا ثم لنظام الحكم الذي يشكل آلية لتنفيذها؟ . وإذا جاز لنا ذلك أفلا يكون من الضروري البدء بالسؤال عن ملامح الإنسان الذي ننشده وتحديدا ذاك الذي يعنيه درس الفلسفة ونحن نسلم بأن المتعلّم إنسان ؟ ثم ألا يكون من الضروري أيضا ، إذا ما كان موضع اهتمامنا في نهاية الأمر تدريس الفلسفة ، أن نحدد معالم الفلسفة التي نرغب في تدريسها؟ فأي فلسفة نعني حينما نقرّ بضرورة تدريس الفلسفة سبيلا من سبل تحقيق الإنسان الذي نريد؟ وإذا ما استقرينا واقع تدريس الفلسفة استنادا إلى نصوصه القانونية، فأي فلسفة تفصح عنها برامج الفلسفة راهنا؟ وأي صورة للمتعلم تكشف عنه ؟ وأي صورة لدرس الفلسفة الذي نريد؟هل تتوافق مع رهاناتنا في هذا الباب؟
يبدو أنه لا مفرّ من أن نقطع طريق الفلسفة في السؤال عن واقع تدريس الفلسفة .فلا يكون حلّ مشكلاته إلاّ باستشكاله واستشكاله لا يكون إلا من جهة الفلسفة. أفلا يعني هذا أن المهمّة موكولة ” للفلاسفة ” ،”صناع المشكلات” وصناع المفاهيم ؟ أفلم يأن الأوان لنستمع لهم ونفسح لهم المجال ليضطلعوا بمهمّة السؤال والجواب أيضا فهم قادرون عليهما قدرتهما على التفكير الهادئ الرصين وعلى التشخيص الدقيق والعميق للواقع التربوي أي كان عمق أزمته وطرح حلول على صعيد النظرية طبعا يترك للخبراء وأهل القرار تمثل سبل تنفيذها؟