مفهوم اللغة المحور الثاني اللغة والفكر

 موضوع الدرس

 الفئة المستهدفة:   السنة الأولى من سلك البكالوريا
 المجزوءة:   مجزوءة ما الإنسان؟
 المفهوم:  مفهوم اللغة
 المحور الثاني:  محور اللغة والفكر
 إعداد الأستاذ:  مراد الكديوى

محاور الدرس:

  • تأطير إشكالي لمحور اللغة والفكر

  • مطلب الفهم
  • مطلب التحليل
  • مطلب المناقشة
  • مطلب التركيب

“ما أعبر عنه أفقده، ولكن ما لم يعبر عنه فهو غير موجود” هنري برغسون

تأطير إشكالي لمحور اللغة والفكر

يشير مفهوم اللوغوس/LOGOS إلى علاقة ملتبسة بين اللغة الفكر من حيث أنه يجمع في دلالته بين الخطاب والكلام (اللغة) وبين العقل والمنطق..فجرى المطابقة بينهما باعتبارهما شيىء واحد، غير ان المتأمل لطبيعة المفهومين يجد بينهما اختلاف جوهري تصبح معه هذه المطابقة أمرا صعبا فاللغة عبارة عن نسق من العلامات والرموز في حين أن الفكر يحيل على مجموع عمليات  التفكير من شك وتخيل وتحليل وتركيب واستنباط… الشيىء الذي يحتم علينا إعادة التفكير في وضع اللغة من حيث علاقتها بالفكر لا على المستوى المفهومي بل على المستوى الفلسفي القائم في اختبار إمكانية الواحد منهما دون الآخر  وعليه يصير إشكال العرقة هو المنطلق للبث الفلسفي في الوجود الرامز والعاقل للإنسان. إذن:
  • ما طبيعة العلاقة القائمة بين اللغة والفكر هل هي علاقة تعبيرية تكون فيها اللغة وسيلة للتعبير عن الفكر أم علاقة تلازمية لا يوجد أحدهما إلا بوجود الآخر؟
  • التناول المنهجي لتحيل وكتابة موضوع انشائي بصيغة السؤال.
  • السؤال: هل وجود اللغة هو وجود تعبيري عن الفكر؟

 

مطلب الفهم

إذا كان الإنسان يتميز بشيىء فإنه يتميز بوجوده الثقافي الذي تعتبر اللغة إحدى المحددات الجوهرية فيه، كونها تنقله من وجوده السلبي إلى وجوده المتفاعل إذ باللغة يتحقق التواصل والتبادل والإجتماع… لكن تصور اللغة فلسفيا طبعه نوع من القصور حيث اختزل البحث فيها في محاولة رصد ماهيتها ووظيفتها. هذا البحث خصوصا الوظيفي منه جعل اللغة مجرد وسيلة تعبيرية يعبر بها الناس تارة للتواصل وتارة لتلبية الحاجات وتارة أخرى الأداة الخارجية لصياغة الأفكار. كل هذا نتج عنه مسألة أساسية هي منح الأولوية للفكر على اللغة في تجاهل تام لكون اللغة هي الشرط الأساسي لتطور الفكر. فليس الفكر في نهاية الأمر  إلا حاصل الإمكانات اللغوية. وعموما فإن هذه العلاقة بين اللغة والفكر سواء من حيث التعبير أو التلازم هو ما يشكل المجال الإشكالي لمجزوءة الإنسان التي جعلت من أبعاده (الأنسان) ومحدداته موضوعا لها، وعلى رأس هذه الخصائص نجد اللغة من حيث هي الوسط بينه وبين العالم. غير أن السؤال عن اللغة كمحدد إنساني يضعنا أمام إشكال العلاقة بين اللغة والفكر ما دام كلاهما تعبير عن ماهية الإنسان. ومن تم نتساءل عن هذه العلاقة استفهاميا بالقول:
  • ما طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر؟
  • أليست هذه العلاقة بديهية لا تحتاج لعناء البحث ما دامت اللغة هي الأصوات التي يعبر بها الناس عن أفكارهم؟ ثم ألا يمكن اعتبار اللغة هي المظهر المادي الذي يعبر عن الفكر؟
  • لكن إذا كان الأمر كذلك فهل هذا يعني أن الفكر  معطى مجرد مستقل عن اللغة. أم أن اللغة هي الشرط المنطقي للغة؟
  • هل نستطيع التفكير في نهاية الأمر بدون لغة؟ وهل من الممكن الحديث عن لغة بدون فكر؟

 

مطلب التحليل

من الواضح أن مجموع الإشكالات هذه ترمي تحديد علاقة اللغة بالفكر ولعل هذا الأمر يبدو واضحا في مضمون السؤال الذي يحيل على أطروحة مفترضة تعتبر وجود اللغة وجود تعبيري. تقوم فيه هذه الأخيرة بوظيفة التعبير عن الفكر. الأمر الذي يعني أن علاقة اللغة بالفكر علاقة تعبيرية تكون فيه اللغة إحدى وسائل التعبير عن الفكر كما عن المشاعر والأغراض والحاجات. كيف ذلك؟
قبل الخوض في الطابع التعبيري للغة عن الفكر ومدى مشروعيته فإنه يتوجب علينا الوقوف أولا عند الأساس الذي يجعلنا نقول بأن وجود اللغة وجود تعبيري وليس هذا الأساس إلا فكرة الأسبقية المنطقية للفكر على اللغة. فأسبقية الفكر يجعل من اللغة المعطى البعدي الذي يعبر عنه في صورة مادية (كلام، أثر مكتوب…) ولعل ذلك واضح عند ديكارت حينما يجعل الوجود اليقين الأول هو وجود الفكر. لذا فإن وجود اللغة هو وجود من الدرجة الثانية تكون وظيفته التعبير عن الجوهر الروحي القائم في الفكر. ويؤكد ديكارت على هذه العلاقة الغير المتكافئة بين الفكر واللغة حينما يتحدث عن هذه الأخيرة كخاصية إنسانية مشروطة بالفكر. وعليه فإن هذه العلاقة محكومة بمنطق الغاية (الفكر والتعبير عنه) والوسيلة (اللغة). إن عدم التكافؤ هذا بين اللغة والفكر القائم على مفهوم الأسبقية المنطقية يشكل الأساس النظري لوضع اللغة كوسيلة تعبيرية عن الفكر.
تبدو هذه العلاقة منطقية إلى حد كبير خصوصا وإن الغاية من ابتكار اللغة هي تمكين الناس من التعبير عن أغراضهم كما ورد ذلك في تعريف “بن جني” للغة. فاستعمال الطفل للكلمات الأولى ليس إلا تعبيرا عن احتياجاته الطبيعية من طعام وشراب… مما يعني أن اللغة في وجودها الأصلي وجود تعبيري وما دامت كذلك فإنها تمتد بهذا الوجود لكي تعبر عن الفكر . فالسياسي المتلعثم والفيلسوف الحذر والشاعر المتردد في وضع الكلمات هي كلها تعبير عن رحلة كل منهم لإيجاد الكلمات المناسبة للتعبير عن أفكارهم. لذا نجد الفيلسوف حذرا في استعمال هذا المفهوم أو ذاك لأنه قد لا يعبر تمام التعبير عن المعنى المتضمن في فكره، نفس المعطى عند الشاعر فعنايته الفائقة بالكلمات واختيارها إنما هي اختبار لقدرة هذه الكلمات على التعبير الشاعري عما يجول في ذهنه.
إن الفكر في مثل هذه العلاقة لا يطالب اللغة إلا بوفائها له بحيث تكون قادرة على التعبير عنه، لذا فإن الإشكال الأساسي في مثل هذه العلاقة التعبيرية هو وضع اللغة وقدرتها على التعبير من عدمها على الفكر. لكن مثل هذه العلاقة التعبيرية تختزل اللغة في البعد التعبيري فقط دون إدراك البعد الماهوي للغة في تشكيل الفكر . فالفكر مظلم بدون لغة تشكل أفكاره. وبذلك يصير الفكر محمولا على اللغة وهو المعطى الذي حاول تأكيده “محمد عبد الجابري” في بحثه للعقل العربي باعتباره عقل تشكل في أحضان اللغة التي يشكل فيها البيان أولى التمظهرات –اللغوية- للعقل العربي. وعليه فإن هذا البعد الماهوي التلازمي بين اللغة والفكر يجعلنا نعيد التفكير في هذه العلاقة لا على أنها علاقة تعبيرية فقط بل على أساس تلازمي لا نستطيع أن نفصل فيه اللغة عن الفكر  كونهما يؤلفان حقيقة واحدة. فهل وجود اللغة يختزل في الإمكانات التعبيرية عن الفكر فقط؟

مطلب المناقشة

يشكل هذا التساؤل دعوة لإعادة التفكير في علاقة اللغة بالفكر باعتبارها تتجاوز البعد التعبيري إلى الدلالة على حقيقة الفكر باعتباره معطى يتشكل في اللغة. لكن مثل هذه الدعوة لا يمكن أن تحجب القيمة الفلسفية  للإمكانات التعبيرية للغة على الفكر. فلولا اللغة لما استطاع الإنسان التعبير عن أفكاره وتحقيق الفهم المتبادل فصحيح أن الفكر هو الأساس لكن اللغة هي الوسيلة التي يلجأ إليها الكل للتعبير عن فكره ومشاعره وانفعالاته. إذ كيف يمكن فهم حاجة الطفل بدون ذلك الجهد الكلامي الذي يبدله. غير أن المشكل في هذا الطابع التعبيري هو أن اللغة تفشل في أحيان كثيرة في البوح بمكنونات الذات من مشاعر عواطف وإحساسات لذا يكون الصمت في مثل هذه المواقف التي تتطلب الإبلاغ هو أبلغ لغة للعواطف وما نجاح الصمت إلا نتيجة لفشل اللغة في رصد هذه المعطيات. وهو ما ذهب “هنري برغسون” إلى تأكيده في عدم إمكانية قياس الفكر بواسطة اللغة لكون الأول معطى حي وتفرد يعبر عن مجموع الإنفعالات والمشاعر المطبوعة بالطابع الشخصي، في حين أن اللغة ما هي إلا المجموع الكلي المكدس من الكلمات الذي يحاول ترجمة الطابع الحي للفكر  باللغة دون القدرة على ذلك؛ لأنها تقوم على الطابع الموضوعي الذي يصف الكل المشترك الخارجي دون الإشارة إلى تلك الإنفعالات الداخية.
وعليه فإن تصور “برغسون” هذا يجعل الفكر في مرتبة أرقى من اللغة كونه معطى حي ومتفرد على خلاف اللغة التي هي أكوام كلمات مكدسة لا حياة فيها. ومن تم فإن الهم الأساسي للغة يصير هو التعبير عن عالم الأفكار هذا دون أن تقدر على ذلك لأن إمكانياتها تقف عند حدود ما هو موضوعي. لكن ألا يعبر هذا عن قراءة اختزالية لمفهوم اللغة؟
بالرغم من القيمة التعبيرية للغة عن الفكر إلا أن هذا التصور الذي يجعل من اللغة وسيلة عاجزة عن التعبير يغفل حقيقة اللغة باعتبارها معطى ملازم للفكر  بانتفائها ينتفي. فهما معا تعبيران عن حقيقة واحدة. وهو ما ذهب الفيلسوف الفرنسي “موريس ميرلوبنتي” حينما انتقد نموذج العلاقة التعبيرية التي تعتبر اللغة علامة على الفكر لأنهما في تصوره ليسا موضوعين منفصلين إنما هما يشكلان وحدة واحدة حيث لا فكر بدون لغة ولا لغة بدون فكر. وبذلك عمل “ميرلوبونتي” على إزاحة ذلك الوهم الذي يعتبر الفكر معطى مستقل وأرقى من الفكر. فوجود الفكر هو وجود اللغة وهذا معناه ان الفكر ليس له وجود داخلي لان الصمت ضجيج من الكلمات، وهو ليس له وجود خارج الكلمات. ومن تم يصير الفكر واللغة عبارة عن وحدة واحدة.
إن ما يمكن الإحتفاظ به هو أن العلاقة بين اللغة والفكر تتخذ شكلين أساسيين شكل تعبيري تكون اللغة وسيلة تعبيرية عن الفكر والإشكال في هذه العلاقة هو قدرة اللغة التعبيرية من عدمها وشكل تلازمي تكون فيه اللغة والفكر شيئا واحدا لا يمكن الفصل بينهما.

مطلب التركيب

خلاصة القول انه إذا جرى اعتبار اللغة خاصية إنسانية فإن هذا الإعتبار لا ينهي السجال الفلسفي حول وضع الإنسان من حيث هو كائن لغوي. وينبع هذا الطابع الإشكالي من علاقة اللغة بالفكر باعتبارهما تعبيرين عن حقيقة الوجود الإنساني بين علاقة تعبيرية تعطي الأولوية للفكر  وتجعلهما بنيتين مستقلتين وبين علاقة تلازمية تجعل التكافؤ وعدم الإنفصال هو الأساس الفلسفي للعلاقة بينهما.

 

إغلاق