مفهوم الغير – المحور الأول: وجود الغير
موضوع الدرس
المجزوءة: | الوضع البشري |
المفهوم: | مفهوم الغير |
المحور: | وجود الغير |
محاور الدرس:
- تقديم بخصوص مفهوم الغير
- الدلالتين اللغة والفلسفية لمفهوم الغير
- موقف رونيه ديكارت من وجود الغير
- موقف فريدريك هيجل من وجود الغير
- موقف جون بول سارتر من وجود الغير
- تركيب
تقديم المفهوم:
تبين لنا فيما سلف أن الإنسان شخص قائم الذات، يتمتع بمجموعة من الميزات التي تميزه عن ظواهر الطبيعة، فهو ذات عاقلة وواعية وتسعى وراء تحقيق الوجود الإنساني الأصيل من حرية وإرادة ومسؤولية ومعرفة للحقائق… لهذا نجد أنه ليس من السهل تحديد ماهية الإنسان. لكن ذلك لا يعدو أن يكون إلا جزءا من وجود الأنا أي وجودها الفردي، فهناك جانب آخر يرتبط بوجود الأنا داخل حياة المجموع، لأن الفرد وكما أشرنا سابقا باستحضارنا لقول أرسطو أن الإنسان كائن مدني بالطبع، وبالتالي فهو موجود ليعيش مع الآخرين، إنه في حاجة دائمة إلى الآخرين، لكي يحافظ على بقائه، ويشعر بالطمأنينة والأمان، وكذلك لكي يتقاسم العيش مع الآخرين .
من الواضح إذا أن الحاجة إلى الغير، إلى الآخر، هي من الضروريات الأولى التي تفرض نفسها على الفرد. فكوني في حاجة إلى الغير، معناه الإعتراف أن هذا الغير شبيه بطبيعتي، وأن له نفس الكيان والشعور، بل ونفس الحقوق والواجبات، وهو إقرار بأن الغير أنا آخر.
لكن هل بإمكاني التعرف على الغير، على مشاعره وعواطفه؟ الحقيقة أنه ليس من السهل تكوين معرفة عن الغير، إذ يبدو أن المعرفة اليقينية المباشرة هي بالدرجة الأولى معرفة الأنا. أما معرفةالغير، فأنا عاجز عن إدراكها بشكل مباشر، لذلك فهي تظل افتراضية غير يقينية، ولا أعرفها إلا بالقياس إلى أناي. من الممكن الإعتراض على هذا التصور بكونه تصورا منغلقا على ذاته، وأنه يعجز عن إخراج الأنا من انغلاقها. لذلك كان من اللازم تجاوز هذا التصور نحو نظرية تعتبر الأنا حتى في لحظات انغلاقه على نفسه، حاملا لفكرة الغير، ولا يكون الأنا حاملا للغير إلا لأن هذاالغير مجال معرفة واضحة ويقينية.
لكن الغير لا يكون مجال معرفة بالنسبة للأنا إلا لأن الإنسان مدفوع بحاجة غريزية نحو الإرتباط مع الغير. لكن هل كل علاقة مع الغير هي دائما علاقة صداقة؟ ألا يغفل هذا التصور حقيقة العلاقة مع الغير التي هي ايضا علاقة تنافس وصراع؟ أم أن العلاقة مع الغير لا تخرج عن إطار الصراع؟
الدلالتين اللغوية والفلسفية لمفهوم الغير:
الدلالة الغوية: في اللغة المعجمية العربية نجد لفظي الغير والآخر لهما نفس المعنى وهو: المخالف والمغاير والمباين والمنفي والمتحول، وبالتالي نجد أنهما عامان يقالان على كل شيئين مختلفين اختلافا جزئيا أو كليا، نقول رجل آخر، ثوب آخر…
والغير Autrui في الدلالة المعجمية الفرنسية مشتقة من الجذر اللاتيني Alter الذي يعني الآخر L’autre، ويتحدد معنى الغير كما يلي: الغير، هم الآخرون من الناس بوجه عام. والآخر هو من ليس نفس الشخص ، وما ليس نفس الشيء ، والمتميز والمختلف…
الدلالة الفلسفة: على عكس الدلالة المعجمية يتحدد الغير والآخر في الدلالة الفلسفية على نحو دقيق،فالغير هو آخر الأنا، منظورا إليه ليس بوصفه موضوعا، بل بوصفه أنا آخر، إنه الآخر الذي يتجلى ضمن علاقة تعايش معطاة ، ويحيل إلى إمكانية تماه أو تطابق. وبعبارة أوجز، وكما يقول جون بول سارتر فالغير هو الآخر، الأنا الذي ليس أنا.
وجود الغير.
الإشكال المحوري: إذا كان الغير هو الأنا الذي ليس أنا، أي الأنا الذي يشبهني ويختلف عني، فهل وجوده يشكل ضرورة بالنسبة للأنا ومكونا أساسيا لوجودها؟ وهل لابد للأنا من الغير لتدرك وتعي ذاتها؟ أم أن وجوده يبقى بدون أهمية ولا ضرورة له؟
موقف رونيه ديكارت من وجود الغير:
تحليل قولة ديكارت: “أنا أشك، إذن أنا أفكر، إذن أنا موجود”
مفاهيم القولة:
الشك: يقصد به ديكارت الشك المنهجي، الذي من خلاله نتوصل إلى بلوغ الحقيقة
الأنا: الذات المفكرة والتي بإمكانه بفضل التفكير أن تشك وأن تتصور وأن تفهم…
التفكر: هو فعالية عقلية، فهي خاصية الكائنات العاقلة.
الوجود: الوجود العقلي الذي تتمكن الذات العاقلة من إدراكه عكس باقي الذوات الأخرى التي لا تستطيع إدراك وجودها.
الأفكار المتضمنة في القولة:
1) أنا أفكر إذن أنا موجود
2) الفكر= الوجود
3) الفكر غير مرتبط بالغير
4) وجود الذات غير مرتبط بالغير
5) وجود الغير غير ضروري
موقف الفيلسوف
ينتقد الفيلسوف الفرنسي صاحب النزعة العقلية كل الآراء التي ترى أن الذات في حاجة إلى الغيرمن أجل تحقيقها لوعيها بذاتها، فهي بالنسبة له قادرة على تحقيق ذلك بمعزل عن أية وساطة خارجية، فهي تمتلك ما يكفيها لذلك وهو التفكير، فمادام أن الذات تفكر فهذا دليل قاطع على أن وجودها أمر يقيني لا يشوبه أدنى شك، ولعل يصرح به الكوجيطو الديكارتي:أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود. على هذا الأساس يتأكد لنا حسب ديكارت أن الأنا في غنى كامل عن الغير لأن تحقيق الأنا لوعيها مرتبط بما هو ذاتي وداخلي (العقل أو الفكر)، وليس بما هو خارجي (الغير).
موقف فريدريك هيجل من وجود الغير:
“جدلية العبد والسيد”
الصراع من أجل الإعتراف
ذات ≠ ذات أخرى
تحقيق الوعي بالذات عدم تحقيق الوعي بالذات
السيد العبد
قام بنفي وعي الذات الأخرى احتفظ بوعيه
وعي مطلق وعي بسيط
موقف الفيلسوف:
يؤكد الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل، أن العلاقة بين الذات والآخر هي علاقة قائمة على الصراع ، حيث يسعى كل واحد منهما إتمام وعيه بذاته وكسب اعتراف بها، وهذا ما حتم بالضرورة ،نفي أحدهما لوعي الآخر، وهو أمر ينجم عنه انتقال وعي ذات من وعي بسيط إلى وعي مطلق، في حين تبقى الذات الأخرى محتفظة بوعيها البسيط أي بنفس وعيها الأول، وقد نتج عن هذا الصراع جدلية أطلق عليها هيجل “جدلية العبد والسيد”، يتحقق بموجب هذه العملية، اعتراف من جانب واحد ، فالسيد هو المعترف به وحده، أما العبد فهو في حاجة إلى نفي وعي آخر من أجل تحقيق اعتراف بذاته، من هنا يتضح لنا ضرورة وجود الغير لتحقيق الأنا وعيها بذاتها عكس ما ذهب إليه ديكارت.
موقف جون بول سارتر من وجود الغير:
في كتابه الوجود والعدم: يؤكد الفيلسوف الفرنسي الوجودي جون بول سارتر، أن للغير دورا كبيرا في تحديد هوية الأنا، بحيث هو الذي يمنح معنى لوجود الذات، والقدرة على إدراك نفسها الإدراك الكلي، ولتوضيح هذه العلاقة يقدم سارتر مثال ظاهرة الخجل la honte كظاهرة سيكولوجية تنتاب أحيانا الأنا، ولكن لا يمكن الشعور بها إلا بحضور الآخر ونظرته ، وفي هذا يقول سارتر: إن الخجل في تركيبه الأول هو خجل من الذات أمام الآخر ، فأنا خجول من نفسي حيث أتبدى للغير.
ورغم ضرورة وجود الغير لتعي الأنا نفسها، فإنه لابد من التأكيد على أنه مادامت الحرية تمثل جوهر الإنسان، فإن هذا الأمر سيجعل من وجود الغير إلى جانب الأنا مشكلة فعلية، لأن وجوده سيكون سببا في الحد من حريته، وبالتالي يكون وجود الغير وجود ذو وجهين، وجه سلبي يتمثل في سلب الحرية، ووجه إيجابي يتمثل في تمكين الأنا من وعيها بذاتها.
تركيب:
إن لكلام كل من هيجل وسارتر حول ضرورة وجود الغير بالنسبة للأنا، قيمته الفكرية والتاريخية، ذلك أن الغير ضروري لوعي الذات وممارسة وجودها في العالم، إنه الوسيط بين الذات والوعي بوجودها، وفي غيابه تسقط الذات في عزلة مطلقة. لكن ما يؤخذ على موقفهما من علاقة الأنابالغير، أنهما جعلا الصراع والتفاوت والتشييء والخضوع هو الميزة لتلك العلاقة، وقد عبر سارتر عن هذه العلاقة الصدامية بقولة ختم بها إحدى مسرحياته المشهورة “الآخرون هم الجحيمl’enfer, c’est les autres. ويتجلى ذلك حسب سارتر في نظرات الآخر، التي تضايق حرية الذات وتنزل بها إلى مستوى الأشياء. هنا تصبح قولة كانط “تصرف على نحو تعامل في الإنسانية في شخصك كما في شخص غيرك دائما وأبدا كغاية وليس كمجرد وسيلة”، ذات بعد إنساني رفيع.
وفي مقابل التصورات السابقة نجد تصورا يختلف عنهما جذريا، ألا وهو تصور ديكارت، ففي هذا التصور نجذ الذات في غنى عن الغير، وذلك لأن ديكارت اعتبر الفكر كمحدد لجوهر الذات وكمحدد كذلك لوجودها، وما دام المحدد داخليا، فلا حاجة للأنا إلى ما هو خارجي، والغير مثال على ما هو خارجي.