محور الرغبة والإرادة – تحليل ومناقشة نص اسبينوزا
- المجزوءة: مجزوءة ما الإنسان
- المفهوم: مفهوم الرغبة
- المحور: الرغبة والإرادة
- إنجاز: التلميذة أما الساهل، إشراف ذ. مراد الكديوى
“الرغبة شهوة مصحوبة بوعي ذاتها” باروخ اسبينوزا
تأطير إشكالي للمحور
يرجع الإعتراض الفلسفي على مفهوم الرغبة تاريخيا لكون هذه الأخيرة تقدم نفسها بشكل مناقض للوعي الشيىء الذي يجعلها ترتبط بمفاهيم النقص واللذة، إلا أن مثل هذه الإعتبارات لا تشكل إلا أفكار مسبقة. فالبث في الرغبة فلسفيا يقتضي منا طرح سؤال الأصل او التفكير في الأساس الذي تبع منه الرغبة تفاديا لكل قول متسرع في طبيعة الرغبة، ولعل مثل هذا البث يتخذ على الأقل صورتين أساسيتين من داخل التراث الفلسفي: صورة تجعل أصل الرغبة هو اللاوعي سواء في تمظهراته السيكولوجية (اللاشعور) أو الفلسفية (النفس الشهوية مثلا عند أفلاطون) فالرغبة هنا من طبيعة مناقضة تماما للوجود الواعي للإنسان. وصورة تجعل من هذا الأصل محمولا على الوعي نفسه، بحيث يكون للإنسان وعي برغباته كما لأفعاله وأفكاره، وهو ما يظهر من خلال الإقبال على بعض الرغبات والإعراض عن البعض الآخر. وعموما فإن هذا التباين في تصور أصل الرغبة هو ما يشكل المنطلق الإشكالي لمحور الرغبة والإرادة كتساؤل عن إشكال الأصل. ويمكن التعبير اشكاليا بالسؤال:
ما أصل الرغبة؟ هل هي الذات الواعية التي تكون فيها الرغبة خاضعة للوعي والإرادة. ام الذات اللاواعية التي تنفلت فيها الرغبة من سلطة الوعي؟ ثم ألا يمكن القول بأن هذا الأصل هو أصل موضوعي كامن في المجتمع عبر صور الإستيلاب حيث يصبح هو من يخلق الرغبات عند الفرد؟
الإشتغال الفلسفي على نص باروخ اسبينوا ص32 (تحليل ومناقشة النص)
مطلب الفهم
صيحح أن الإنسان حيوان راغب. تشكل الرغبة ماهيته إذ أنه دائم الرغبة، إذ انه بمجرد إشباع موضوع رغبته ينتقل انتباهه إلى رغبة أخرى يود اشباعها. إلا ان هذا الإنتقال المتأرجح بين رغبة وأخرى يطرح إشكال الأصل. فغالبا ما جرى اعتبار الرغبة مملكة الشهوة واللذة المستقلة عن الوعي وهو ما يبدو في التراث الفلسفي قديمه وحديثه الذي ربط الرغبة بالنقص واللذة (أفلاطون-المسيحية-التحليل النفسي). لكن اعتبار الإنسان حيوان راغب معناه ان الرغبة معطى لا يناقض الوعي، لكون الإنسان يعي موضوعات رغباته كما أنه يستطيع التحكم في هذه الرغبات إما بكبتها أو إشباعها. حيث يكون هذا الإرتباط بين الرغبة والوعي هو ما يسمو بالإنسان على الحيوان. فالذات لها إذن سلطة على رغباتها. وعموما فيمكن تأطير النص ضمن مجزوءة الإنسان. وبالتحديد ضمن مفهوم الرغبة كمحدد ماهوي للوجود الإنساني. الذي يطرح من بين مجمل إشكالاته اشكال “أصل الرغبة” (المحور الثاني: الرغبة والإرادة). وعليه يمكن التساؤل على الشكل التالي:
- ما أصل الرغبة هل هو الذات الواعية أم اللاواعية؟
- هل الرغبة مفهوم مناقض للوعي أم أنها تعبير عن الوعي نفسه من حيث هو وعي بالرغبة عبر مفهوم الجهد؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل للذات سلطة على رغباتها؟
مطلب التحليل
يرى الفيلسوف الهولندي “باروخ اسبينوزا” أن الذات الإنسانية ذات واعية. وأن الرغبة هي شهوة مصحوبة بوعي ذاتها الشيىء الذي يجعل الرغبة خاصية انسانية يكون بموجبها الإنسان كائن راغب بامتياز يدرك ويعي كل رغباته. ويتضح ذلك من خلال مفهوم الجهد الذي تبذله النفس من أجل الإستمرار في وجودها. فالذات الإنسانية ذات واعية تعي كل أفعالها ورغباتها، ويمكن توضيح ذلك من خلال المثال التالي:” إذا ما غرق شخص في بحر، فإنه يحاول جاهدا النجاة من هذه الوضعية التي تهدد وجوده باعتماده مجموعة من الأفعال مثل الصراخ وطلب النجدة…” فكل هذه الأفعال تدل على رغبة الإنسان الواعية في الإستمرار في الوجود. لذا يعرف “اسبينوزا” الرغبة بالشهوة المصحوبة بوعي ذاتها، لأنه لا يرى أي فرق بين مفهوم الإرادة/الوعي ومفهوم الشهوة في خانة الرغبة. فهذه الأخيرة بالنسبة له هي وعي بذاتها.
إن الإنسان عندما يشتهي أو يرغب في شيىء معين لا يرغب فيه لكون ذلك الشيىء طيب. بل على العكس من ذلك فلكونه هو اذا ما رغب بهذا الشيئ فإنه يضفي عليه طابع الجمالية والحسن، ويمكن أن نفهم ذلك من خلال قول محمود درويش “الحب هو كذبتنا الصادقة” ومن تم فإن الشاب (أو العكس) عندما يرغب فبي فتاة ما فإنه يضفي عليها طابع الجمالية والحسن والطيبوبة لا لكون هذه المعطيات ذاتية فيها، وإنما لكون رغبتة تتعلق بها فقط. ومن تم يكون اسبينوزا قد أعطى الأولوية للذات الراغبة على موضوع الرغبة والعلة في هذا هو طابع الوعي الملازم للرغبة.
إن طرحا مثل هذا الذي يجعل من الوعي أصل الرغبة قام على مجموعة من الحجج التي تشكل النسيج المنطقي للأطروحة، ولعل اهم الحجج التي اعتمدها اسبينوزا في سلمه الحجاجي تتوزع بين؛ حجة التعريف:التي نجدها منذ بداية النص إلى منتهاه. ولعل حضور التعريف في النص مرده إلى الخلفية الرياضية الهندسية عند اسبينوزا التي تنطلق من التعريف كأساس للبرهان والإستنتاج (مثل تعريف المثلث، المستقيم…). فقد عرف صاحب النص كل من النفس والجهد. فجعل من الذات الإنسانية بذلك ذات واعية لكونها تبذل جهدا من أجل الإستمرار في الوجود الشيئ الذي يجعل من الجهد رغبة واعية. ثم انتقل بعد ذلك إلى تحديد مفهوم الرغبة باعتبارها شهوة مصحوبة بوعي ذاتها في دلالة على أن الرغبة لا تناقض الوعي. كما عمد الفيلسوف إلى توظيف حجة المثال: المتمثلة في السكن. والتي سعى من خلالها تحديد العلاقة القائمة بين الذات والموضوع باعتبارها علاقة رغبة تكون فيها الأولوية للذات الراغبة على موضوع الرغبة… بالإضافة إلى مجموعة من الاساليب البلاغية والمنطقية مثل الشرط المنطقي (إذا تعلق هذا الجهد بالنفس… وإذا تعلق بالنفس والجسم…) والإستنتاج (فهي إذن تعي جهدها ذاك، لقد غذا من الثابت إذن…)
من الواضح أن التصور السبينوزي للرغبة من حيث هي ذات أصل واع. تملك فيه الذات السيطرة على أفعالها ورغباتها قد خلق سجالا فلسفيا حول الطبيعة الواعية للرغبة داخل الأوساط الفلسفية. خصوصا إذا ما تأملنا التراث الفلسفي الذي جعل الرغبة على نقيض الوعي سواء مع الفلسفة اليونانية (أفلاطون) أو الفكر الديني (المسيحية). إلا ان هذا السجال وهذا التراث لا ينفي القيمة الفلسفية لأطروحة اسبينوزا والكامنة في إعادة الإعتبار للرغبة من حيث هي محدد ماهوي للإنسان لا يتناقض مع الوعي، فالرغبة والوعي بهذا المعنى وجهان لعملة واحدة هي النفس الإنسانية. إن هذا الربط يعيد السلطة للذات على أفعالها بحيث تكون الذات قادرة على السيطرة على رغباتها وهو ما يبدو واضحا في الأولوية التي يخص بها الذات الراغبة على موضوع الرغبة. وبذلك لم تعد الذات مجرد وسيلة تستسلم لقوة الرغبات والشهوات بل أصبحت ذات فاعلية فيما يخص رغباتها. إلا ان الجانب الإشكالي مثل هذا التصور يكمن في الطبيعة الإختزالية للذات باعتبارها مملكة للوعي دون اللاوعي. وهذا الإختزال معناه القصور في النظر للرغبة في تجليها السيكولوجي. ولعل لفت الإنتباه إلى هذا المعطى نجده حاضرا في التصور السيكولوجي-النفسي خصوصا في مدرسة التحليل النفسي في شخص “جاك لاكان” الذي جعل الرغبة ترتبط أساسا بمملكة اللاشعور باعتبارها بنية مستقلة تمام الإستقلال عن الوعي حيث تكون وظيفة الرغبة الأساسية هي تحقيق الغاية المتمثلة في اللذة والإستمتاع بطريقة استيهامية-خيالية تتحقق خارج الوعي. وعليه يكون أصل الرغبة أصل نفسي لا شعوري لا تمتلك فيه الذات أي سلطة على هذه الرغبات والعلة في ذلك أنها تقع الوعي بل الأكثر من ذلك هو ان الرغبة هنا تناقض الوعي لكون هذا الأخير يعمل على كبت هذه الرغبات.
وعموما فيمكن القول بأن هذا الإختلاف بين “اسبينوزا” و”جاك لاكان” في تحديد أصل الرغبة إنما يجد أساسه في تصور الذات بين كونها واعية أو غير واعية. فحينما يكون الوعي جوهر الذات فإن الرغبة في هذه الحالة تعبر عن الوعي نفسه. لكن النظر للذات في بعدها النفسي يجعل من الرغبة مفهوما مناقضا للوعي لا تكون للذات أي سلطة عليها. إن قيمة التصور السيكولوجي عند “جاك لاكان” يكمن في توسيع مفهوم الرغبة ليشمل الحياة النفسية. غير أن المشكل يكمن في ان هذا التصور يجعل من الرغبة مجرد وسيلة لتحقيق اللذة وبذلك تكون في منزلة أقل من هاته الغاية. الشيئ الذي يعني تحقير الوجود الإنساني ومعه الرغبة والوعي وجعلهما خادما لسيد هو اللذة والشهوة والغرائز الجنسية. إن المتأمل لتصور التحليل النفسي يلمس الطابع اللاواقعي للرغية حيث ترتبط بالخيال دون أن يكون لها وجود واقعي. ويشكل التصور الفلسفي ل”جيل دولوز” المنطلق لنقد الرغبة في بعدها السيكولوجي. فالرغبة في جوهرها إنتاج غير أن هذا الإنتاج هو إنتاج واقعي وليس إنتاج استيهامي كما هو الحال في المستوى النفسي الذي تفتقد فيه الرغبة الموضوع الواقعي بحيث تعمل على تعويضه استيهاميا عبر مفاهيم من قبيل الليبيدو والتسامي والتحويل إن الرغبة في مستواها النفسي تظهر بصورة النقص كونها تفتقد الموضوع الواقعي إذ تكون مجرد وسيلة. اما الرغبة في جوهرها فهي انتاج واقعي يظهر في صورة انتاج اجتماعي تصبح فيه الرغبة جذمور فرغبة المرأة مثلا في فستان يرتبط بالمعطى الواقعي الذي ينهل من اعتبارات مثل التقدير ونيل الإعجاب عند الأصدقاء بالإضافة إلى طبيعة العمل… وبذلك تصير الرغبة مفهوما مكتفيا بذاته.
مطلب التركيب
هل الرغبة مفهوم غائي؟ وما الغاية القصوى الكامنة وراء تحقيق الرغبة؟ هل تقود الرغبة
شاهد أيضا ضمن دروس مفهوم الرغبة: