مفهوم  التراث و علاقته بالحداثة عند المفكر المغربي طه عبد الرحمن

  • مفهوم  التراث و علاقته بالحداثة عند المفكر المغربي طه عبد الرحمن
  • محمد كاسمي

           تعد قضية العلاقة مع التراث بكل صريح العبارة إشكالية جوهرية صرفة ، أتارت نقاشا كبيرا ، على مستوى الساحة الفكرية العربية، منذ حوالي القرن التاسع عشر في إطار ما يسمى بعصر النهضة العربية ، التي جاءت  نتيجة  الغزو الذي شنه نابليون بونابرت على مصر سنة ١٧٩٨ ، و تعرض باقي الدول العربية الأخرى للغزو الإمبريالي من طرف الدول الغربية خلال القرن التاسع عشر ، و مطلع القرن العشرين ، و كذا هزيمة العرب أمام العدوان الإسرائيلي سنة ١٩٤٨ في سياق ما يسمى بنكبة فلسطين،  و العدوان الثلاثي سنة ١٩٥٢ ، زد على ذلك النكسة سنة ١٩٦٧ ، كل هذه العوامل مجتمعة دفعت بالإنسان العربي إلى التفكير في المسببات، و العلل الأساسية التي جعلت الفرد العربي يعاني من  هذا التخلف الذي أحاط به من مختلف الجوانب ( اقتصاديا ، عسكريا ، اجتماعيا، تعليميا…) ؛ و هذا هو الهاجس الجوهري بالأساس الذي دفع  بجملة من المفكرين العرب سواء النهضويين منهم ،  أو المعاصرين ، لإعادة النظر في المنطلقات التي تقوم عليها الأمة العربية  ، و البحث عن مكامن الخلل لإخراج هذه الأمة العربية من هذا السبات العميق ، و على هذا الطرح بالذات انبثق مفهوم النهضة العربية ، الذي أفرز لنا مجموعة من القضايا الإشكالية، منذ حملة نابليون بونابرت التي شنها على مصر إلى حدود الساعة ، من قبيل الديمقراطية ، الاشتراكية، الليبرالية ، و الحداثة ، و العلاقة مع التراث …، هذه الأخيرة  التي  ستكون لنا موضوعا للحديث عنه ، حيث تنوعت مواقف المصلحين ، و المفكرين العرب  إزاء هذه القضية الإشكالية ، و على هذا الدرب نجد من ينظر إلى التراث بأنه مسألة ينبغي الحسم فيها،  و إحداث قطيعة معها  بصفة نهائية ، و هذا ما دافع عنه المفكر المغربي عبد الله العروي ، و هناك من ينظر إلى التراث بأننا ينبغي أن تعامل معه بطريقة انتقائية،  بمعنى نأخذ منه ما يواكب ، و ينسجم مع متطلبات  العصر ، و إدماجه في إطار ما يسمى بالحداثة ، و هذا ما ذهب إليه محمد عابد الجابري،  وهناك من  ينظر إلى أن التراث  ينبغي على الفرد العربي المسلم قراءته من داخل التراث  بصفة شمولية،  و كلية من أجل بناء حداثة عربية إسلامية صرفة قائمة على مبادئ  أخلاقية مستمدة من الدين الإسلامي ،  و هذا ما دفع عنه بقوة المفكر المغربي  طه عبد الرحمن ، هذا الأخير  الذي سنتطرق إليه ، لنستكشف نظرته الخاصة للتراث على وجه العموم و الحداثة على وجه التحديد ، و من هذا المنطلق سنقوم بطرح هذا الإشكال التالي.                                                          .                                 

                                 

    إذا: ماهي الأسس، والمنطلقات التي يقوم عليها مفهوم التراث عند طه عبد الرحمن؟ وماهي نظرته الخاصة لمفهوم الحداثة؟                                                                      

   

   و في خضم هذا الحديث ، فإن المفكر المغربي طه عبد الرحمن ، لقد تعامل مع التراث العربي عن طريق قراءة  داخليه ، تتسم بالكلية ذات الطابع الشمولي ، لا بصفة انتقائية تجزيئية تقوم عل مبدأ الاختزال ، فالتراث العربي يتطلب قراءة  بأدواته ، و لغته التداولية،  و الصرفية  و النحوية ، يعني أنه أثناء قراءة التراث ، لا ينبغي قطعا  الخروج عن خصائص اللغة العربية ، لأن إذا قمنا بقراءة التراث العربي من خارجه ، و قدمنا له النقد بأدوات و قراءة غربية ، ستبقي هذه القراءة ، و الأدوات الأجنبية عقيمة في الوصول للمعنى الحقيقي لتراث ، لأن لكل أمة تراثها ، و لا يمكن قراءة تراث أمة من الأمم من خارجه ، لأن هذه الأمة الأجنبية فهي جاهلة أصلا لمنطلقات التراث العربي ، و لا تفقه فيه شيئا ، فتقديم النقد لتراث العربي ينبغي أن يكون من داخله ، و ليس من خارجه ، و في هذا الصدد نجد المفكر المغربي يعرف التراث ” إنه عبارة عن جملة من المضامين ، و الوسائل الخطابية ، و السلوكية التي تحدد الوجود الإنتاجي  للمسلم العربي  في أخذه بمجموعة مخصوصة من القيم القومية ، و الإنسانية حية كانت أم ميتة “ و من هذا المنطلق يبدو جليا أن التراث حسب طه عبد الرحمن ليس بذلك النص البعيد ، و المنفصل عن الهوية ، و ليس هو مجرد مدونة معرفية معروضة للتأويل ، أو القراءة ، بل إنما هو في الظرفية الواحدة عبارة عن مضامين و آليات نص ، و ممارسة تاريخ ، وواقع ؛  و إنما يرفضه طه عبد الرحمن هو جرد التراث من مضامينه النصية، الذي هو مرجعية للمقاربات التجزيئية الشائعة في تناول التراث على سبيل المثال الجابري و أركون،  و في هذا الصدد يقدم طه عبد الرحمن منهجية متعارضة مع النظرة التجزيئية لتراث ، و هذه المنهجية تتجه للبحث في التراث و آلياته و محتوياته رغبة في معرفته من حيث هو كذلك على اعتباره كلا متكاملا لا يقبل التجزئة ، و التفرقة ، و أنه وحدة مستقلة لا تقبل التبعية إلى غيره ،  لأن التراث على حد تعبير طه عبد الرحمن في كتابه “تجديد المنهج في تقويم التراث” يرى بأن الإنسان العربي المسلم لا يمكنه  إطلاقا الانفصال عن التراث ، مهما حاول هذا الأخير التعالي عليه ، لأنه في غالب الأحيان نجد التراث ظاهر بطريقة واضحة في الحياة اليومية للإنسان العربي المسلم ، لذلك فالتراث فهو أسطوانة لا يمكن للفرد العربي ألا يتقدم إلا من خلاله ، لأن هذا الأخير في غالب الأحيان  يظهر في سلوك ، و أفعال الفرد العربي المسلم ، رغم  محاولته الجزافية للابتعاد عنه ، لأن هذا الابتعاد ما هو إلا تظاهر بالقطيعة،  و التظاهر لا يمكن أن نعطيه صفة المصداقية،  و بناء على  ما سبق يمكن أن نقول ، إن نظرة طه عبد الرحمن لتراث فهي تقوم بالأساس على خاصيتان أساسيتان،  الأولى : هي النظر إلى  إلى التراث بصفته كلا متكاملا متصل الحلاقات مرتبط العناصر و المحتويات، لا يمكن الفصل بين مضامينه و آلياته،  و لا بين مكوناته،  و الثانية : هي النظر إلى التراث من حيث هو منظومه متميزة عن غيرها ، لها عناصر تأسيسها الذاتية التي تستقل بها و تفصلها عن ما سواها . و على هذا الأساس يتضح بأن مشروع طه عبد الرحمن الفلسفي يقوم على قاعدة فلسفية منطقية صلبة تنطلق من أن النهضة الفكرية العربية  المطلوبة مشروطه بالبناء العقلاني الصارم المتسلح بأدوات ، و آليات الفلسفات ، و العلوم التأويلية المعاصرة مع استيعابها داخل المجال التداولي العربي الإسلامي ، و على هذا المنوال فإن الهدف الأساسي و الأسمى الذي سعى إلى تحقيقه طه عبد الرحمن هو تخليق الحداثة عن طريق مقاربة نقدية للحداثة الغربية ، و التي ترتكز بالأساس على محورين أساسين ، الأول : تقديم تصور اختلافي تعددي للحداثة لكسر النموذج الغربي الأحادي لها،  و الثاني : تقديم حل أخلاقي لمأزق الحداثة الغربية و المتولد عن إفلاسها القيمي،  و في هذا السياق يرفض طه عبد الرحمن رفضا تما ، حصر الحداثة في المرجعية الغربية ناقلا هذا المفهوم من التحقيب التاريخي إلى التحديد النظري القيمي مميزا بين روح الحداثة و واقعها المتنوع، و من  هذا  المنطلق تأسس مبادئ الحداثة عند طه عبد الرحمن على ثلاثة مبادئ أساسية، الأول مبدأ الرشد : أي الخروج من التبعية للغير و التأكيد الحق في الاستقلال و الإبداع،  و الثاني مبدأ النقد : أي الحق في الخروج من المعتقد ، و الثالث مبدأ الشمولية: أي تجاوز دوائر الخصوصية الضيقة، و الأخذ بالصياغة الكلية الشاملة، و هذه المبادئ الثلاثة حسب طه عبد الرحمن قادرة على التأقلم مع سياقات ثقافية شتى ، لأنها كلها قادرة على التحديث باستيفاء الشروط المادية و المعنوية للحداثة،  و طه عبد الرحمن لا يرفض إطلاقا أن  تكون هناك علاقة تضاد بين الخصوصية الكونية و الخصوصية ، و إنما قد تكون علاقة تداخل و ترابط و تكامل باعتبار أن الخصوصية عنصر من الكونية كما أن الكونية جسد من الخصوصية،  و الخصوصية الإسلامية على حد تعبير طه عبد الرحمن فهي إيمانية أخلاقية بامتياز تنبني على نظر كوني و تقوم على الحوارية و التعارف مقابل الكونية الغربية التي هي خصوصية مفروضة فاقدة للمضمون الأخلاقي، و في هذا الإطار نجد مفهوم الأخلاقية عند طه عبد الرحمن يعرفه بأنه يجب أن يتجلى في كل فعل من الأفعال التي قدم الإنسان على فعلها، مهما كان هذا الأخير منغمسا و متغلغلا في التجريد ، و إنما ينبغي أن  تكون هذه الافعال متساوية في نسبتها إلى هذه الأخلاقية حتى إنه لا فرق في ذلك بين فعل تأملي مجرد و فعل سلوكي مجسد،  و لهذا نجد طه عبد الرحمن يدعوا لتبني العقلانية القائمة على الأخلاق التي يتميز بها الإنسان دون سواه ، و ليس العقلانية المجردة من الأخلاق التي تنزل بالإنسان إلى مرتبة البهيمة ، و على هذا الأساس فإن طه عبد الرحمن كان هدفه الأساسي هو إقحام مفهوم الأخلاق لبناء حداثة عربية تنطلق من ذاتها،  و ليس من ذات غيرها معتمدا على التراث بصفة شمولية كلية لا تقبل التجزئة،  كل هذا من أجل بناء حداثة عربية قائمة على مبادئ أخلاقية صرفة تستمد مقوماتها عن طريق التراث العربي الإسلامي ،  وعن طريق قراءة جميع مضامينه من داخله، و ليس من خارجه.                                           

                                                                        

      و تأسيسا على ما سبق يمكن القول أخيرا أن المفكر المغربي طه عبد الرحمن ، أراد من وراء طرحه هذا، تقديم قراءة كلية شمولية لتراث العربي الإسلامي ، و ليس قراءة تجزئيه قائمة على الاختزال، لأن التراث العربي فهو كل متكاملا لا يقبل التفرقة،  و هذا كله من أجل بناء حداثة عربية قائمة على مبادئ أخلاقية صرفة نابعة من التراث العربي الإسلامي، مقدما بذلك نقدا كبيرا للحداثة الغربية القائمة على العقلانية المجردة من الأخلاق. 

– المراجع :

  • كتاب تجديد المنهج في تقويم التراث للمفكر المغربي طه عبد الرحمن
  • كتاب سؤال الاخلاق (طه عبد الرحمن)
  • كتاب اعلام الفكر العربي المعاصر السيد ولد اباه

 

 

إغلاق