محمد الورداشي. “فرحة مؤجلة”

محمد الورداشي كاتب وباحث مغربي له مجموعتان قصصيتان: “حينما يتنكر الوطن لبنيه” (المغرب)، “القرية المهجورة ” (مصر). ومجموعة من المقالات نشرت في جرائد ورقية وإلكترونية داخل المغرب وخارجه.

 

بعد فرحة خفيفة ناعمة في هذه المدينة التي غلفها السكون والهدوء هذا المساء: الشوارع مقفرة موحشة وشاغرة إلا من القطط والمتسكعين، هدوء غريب ومخيف في آن؛ لأن المدينة لم تألف سوى الحركة والاكتظاظ، وها هي الآن تفتح ذراعيها على الخواء والفراغ. أخافني المنظر وأهابني سكونه ووحشته، أحسست بغربة قاتمة فوليت وجهي شطر المقهى لعلي أظفر بحركة وحياة. ومشيت صوبه بخطى واثقة وكلي أمل في حياة جديدة، في مؤنس يبدد غربتي ووحشتي، لكن ما إن اقتربت من المقهى المألوف الذي أرتاده بشكل يومي، حتى فاجأني جمع من الناس متكدسين في ساحة صغيرة مقابلة للمقهى.. اقتربت بحذر وترقب، فإذا بي أسمع موسيقى وأهازيج صادحة في الأعالي، والناس يرقصون بجنون وهذيان، وبعضهم كان يصرخ ويردد أسماء أشخاص أعرفهم حتى وإن لم ألتقهم يوما.

اقتربت كثيرا من الجمع، ثم سألت رجلا عجوزا يرتدي لباسا شتويا، ويغطي رأسه بطاقية سوداء:
– ماذا يجري هنا؟
نظر إلي شزرا وفي عينيه لون من الاستغراب، ثم ردّ ممتعضا:
– ألست حيا بيننا يا ولدي..
قاطعته صرخة مدوية لأحد الشبان الراقصين وسط الساحة، ثم استرسل:
– نحن فرحون هذا المساء.. لقد فزنا يا ولدي..
ابتسمت بعفوية وقلت مهنئا:
– هنيئا لنا بهذا الفوز العظيم
لاحت ابتسامة يتيمة من ملامحه، فعقب:
– هذه أيامكم.. إنها أيام متفردة يا ولدي..
– وما الفريد فيها ونحن نستيقظ وننام على تحسركم الشديد، ورفضكم لنمط هذه الحياة؟
ثبت طاقيته على رأسه الدائرية كأنها كرة أرضية تتخللها منعرجات ومنحدرات وعرة، ثم ردّ في حسرة:
– آه لو أُتممت فرحتنا اليتيمة، آه لو..
ثم أطلق زفرة طويلة أفرغ فيها همومه وما يجثم على صدره، ولما استرسلته في إلحاف أردف:
– ماذا لو أفرغت سجوننا، وارتقى سياسيونا، وتاب أشقياؤنا ومجرمونا، واستيقظ مثقفونا، وتغيرت مناهج تعليمنا..؟
سألته مشدوها:
– ماذا سيحدث لو…؟
أجاب ممتعضا:
– ستزهر ورودنا الذابلة، وتينع ثمارنا اليابسة.. ستكمل فرحتنا ونصرنا يا بني..
فهمت ما يثقل صدر هذا العجوز الذي خضب الشيب رأسه، وحفرت الأيام عميقا على جبينه، أنه يأمل غدا مشرقا متلفعا بالنصر الشامل: النصر في الصحة، في التعليم، في السكن، في السياسة، في الاقتصاد، في الدين، في الأخلاق.. بيد أن زفراته المتتالية تفصح عن خيبة الأمل المخبأة في أعمق أعماقه. فقلت ملطفا حزنه وحسرته:
– سينتصر وطننا يا عمي، وستعيش حتى تقطف ثماره اليانعة.. لا تخف ولا تيأس..
ابتسم لي ابتسامة عريضة، ثم قال:
– سننتظر إن كان في العمر بقية..
وبعدما ألقى نظرة على الشبان الذين نزعوا ملابسهم فبدت صدورهم عارية، والفتيات اللواتي فقدن صوابهن وشرعن في الاحتكاك بالشبان، أخذ يمجُّ كلمته الأخيرة دون أن يدير وجهه نحوي:
– كل شيء واضح يا ولدي.. حتى المستقبل واضح على هذه الصدور العارية.. كل شيء مكتوب هناك.
ثم انصرف وتركني حائرا أنظر إلى الراقصين على وتر الزمن أمامي، هؤلاء الذين توقفت معهم حركة الزمن وباتوا يعيشون عودة أبدية نتشوية، وينسخون حياة ومعرفة أفلاطونية عاشت في أجساد سابقة على أجسادهم.

إغلاق