فيروس كورونا وأثره على الصحة النفسية – عبد الصمد الدفالي
الأستاذ عبد الصمد الدفالي
و أنت تلتزم بالحجر الصحي جراء تفشي وباء كورونا COVID-19، تراودك أفكار وشكوك حول الفيروس نفسه من قبيل حقيقته من زيفه، وصحة وجوده من عدمه، وحتى لو ثبت لديك وجوده تنتقل إلى شك آخر يرتبط بسببه ومصدره، هل هو طبيعي من انتاج الطبيعة و مخلفاتها؛ بمعنى أنه صدر من غير إرادة البشر، أو أنه ثقافي مصطنع كان لتدخل الإنسان المقصود و الإرادي في صنعه وانتشاره دور فعال لأهداف اقتصادية أو سياسية أو أمنية أو حتى إيديولوجيا.
وأنت في هذه الحالة النفسية المضطربة والمتقلبة مستعد لتقبل أبسط التفاسير عن هذه الظاهرة المرضية الجديدة، سواء كانت التفاسير علمية أو دينية أو فلسفية…
وأنت لم تصب بعد بهذا المرض تعيش حالات نفسية متقلبة مستعد لتقبل إصابتك بالمرض من جراء الخطابات الإعلامية المتهافتة والمتكررة (حول الإجراءات الاحترازية والوقائية منه…)
من هنا يكون المرض مرضان الأول عضوي نتيجة خلل في الجهاز التنفسي للمصاب والثاني نفسي ينتج عن اللغط المهول حول هذا الوباء سواء تعلق الأول بالمصاب وهو يقضي عزله الصحي الاستشفائي، أو غير المصاب وهو ينتظر إصابته أو هروبه من بؤر الإصابات، أو يراقب نتائج المصابين به وهي تتزايد أو تتقلص، وسماعه الأرقام المهولة للموتى في بلده أو خارجها، وتختلف حدة التأثير النفسي لهذه الأرقام من بلد لآخر ومن شخص لآخر. إذن أين تكمن خطورة هذا الوباء؟ هل في ذاته أم في النتائج النفسية المترتبة عنه؟
منذ أن ظهر الفيروس والإصابات تتزايد بوثيرة تدعو للقلق والاستغراب أيضا، وتطرح العديد من علامات الاستفهام حول طبيعة هذا الفيروس وتكوينه الكيميائي والحيوي وطرق انتقاله وعدواه. هل يمكن تحديده بدقة علمية؟ ما تكوينه الجيني وحمضه النووي؟ هل يحيى ويتكاثر؟ وكيف يتفشى وينتقل بين الإنسان؟ وما الظروف المساعدة على تكاثره؟ كيف يصيب الجهاز التنفسي لوحده؟ ما علاقة الفيروس بضعف المناعة؟ ولماذا الفايروس يتمكن من دول دون أخرى بالشكل الذي يظهر على وسائل الإعلام؟ ما مدى صحة نظرية التآمر والحرب البيولوجية بين الاقتصادات القوية؟
كلها أسئلة وأخرى تراود الإنسان المفتعل و تثقل كاهله، و بين الفينة و الأخرى يجد لها إجابات من هنا وهناك لكنها لا تشفي غليل هذا الإنسان البريء الذي دائما يتحمل أعباء مثل هكذا أحداث ووقائع، و الآن سيتحمل الأعباء النفسية و الاجتماعية الناجمة عن هذه الأوضاع الصحية و الاقتصادية العالمية.
لكن ما يثيرنا ويشدنا للحديث عن موضوع الفيروس ليس هو ماهيته و كينونته بل ما خلفه إلى حد الآن وما قد يخلفه من اضطرابات نفسية خطيرة ستحفر عميقا في ذاكرة الإنسان و تطبع تاريخه بلون أسود، وسيتشكل معه البروفايل الخاص للشخصية الفردية و البروفايل العام لشخصية المجتمع ما بعد كورونا.
فالناظر إلى ما تنتهي إليه الأمراض والأوبئة والآفات وكذا الحروب من نتائج وخيمة على جل المجالات الاقتصادية والسياسية والبيئية والنفسية… يدرك أن وباء كورونا حطم أرقاما قياسية من حيث الخسائر والمخلفات، ويحل بالجانب النفسي للأفراد مساسا (ضررا) كبيرا وتهديدا بالصحة النفسية واخلال بالتوازنات الفردية والجماعية أيضا. وفي ذات السياق يمكن القول إن الأوبئة و الكوارث تُبدي ما تخفيه الأوضاع العادية في طبيعة الإنسان من أنانية وطمع و عنصرية و حب الذات و الصراع من أجل البقاء؛ و هو ما أبانت عليه شرائح كثيرة من المجتمع خلال التبضع بسرعة وبكثرة واحتكار مواد غذائية للاختباء والهروب من شبح كورونا. وتخرج دول لتلقي بتهمها على دول أخرى وتحمل جماعات مسؤولية تفشي الوباء لجماعات أخرى، وهذا ما ذهب إليه المختص في الطب النفسي الأسترالي “ستيفن تايلور” في كتاب “علم نفس الأوبئة” حيث يرى أن مواسم الأوبئة ترتبط بالعنصرية وإلقاء اللوم على جماعات معينة من الناس، ويعود ذلك جزئيا إلى أن البشر قبليون في طبيعتهم. ليكن هذا جانب من جوانب مخلفات الوباء، فكيف يؤثر هذا على الصحة النفسية؟
لا يمكننا البحث و النظر في أثر هذا الوباء على الصحة النفسية دون معرفة ماذا نقصد بالصحة النفسية Psychological Health ؛ فهي تشير إلى مستوى الشعور بالعافية و غياب الأمراض و الاضطرابات النفسية، ويعرفها علم النفس على أنها الشخصية السوية التي يمثلها الفرد في مقابل الشخصية المرضية أو غير السوية ، التي لا يستطيع الفرد التعامل بشكل صحيح مع الأحداث المحيطة به.
وفي هذا الإطار يكون المرض (الوباء) أحد الأحداث المحيطة بالشخصية السوية وفيرخي بظلاله على استقرار وتوازن هذه الشخصية، إذن كيف يكون المرض العضوي كالذي نحن بسدده والذي يصيب الجهاز التنفسي سببا في إخلال التوازن النفسي؟ وبشكل أدق كيف يشكل فيروس كورونا خطرا على التوازن النفسي ؟
كثيرة هي الحالات النفسية المرضية التي نجد لها تبريرات عضوية أو اختلالات في الجسم من ناحية تكوينه الجيني أو الفيسيولوجي … فالعلاقة متمفصلة بين الجانبين العضوي والنفسي تجعل من مرض أحدهما خلل في الثاني. فمثلا الشعور بالإكتئاب مرتبط بنقص الفيتامين D حسب إحدى الدراسات الطبية الأمريكية، كما أن الإنسان المعرض للخرف والذهان والتقلبات المزاجية المتطورة كالتأرجح بين عدم الثقة في النفس وجنون العظمة وقد يتطور هذا الأمر لرؤية الهلاويس و غيرها و هذا بسبب نقص في فيتامين B12 حسب الطبيب الأمريكي روجر سايمون …
و كثيرة هي الأمراض و الأعراض المرضية الجسدية التي تؤثر بشكل عضوي على الحالة النفسية للإنسان، و أخرى لا يكون تأثيرها بشكل مباشر اللهم عن طريق التمثل الشخصي للمرض والتصور المخيف و المرهب للمرض من جهة، و التمثل الاجتماعي للمرض و مستوى الوعي المجتمعي بتداعيات المرض و مخلفاته النفسية من جهة أخرى، حيث يكون المريض أو المصاب بمرض ما، منبوذ اجتماعيا و غير مرحب به فيعيرونه و يخلقون منه عالة على المجتمع و لا يجد مكانة داخل مجتمع منعدم الوعي، كما هو الحال عند ذوي الاحتياجات الخاصة و المشوهون خلقيا و ذوو الاضطرابات الجسدية و ما يعانونه من حرمان و إقصاء اجتماعي، هذا بطبيعة الحال يضع صاحبه في موقف نفسي يشعره بالنقص و عدم الاكتمال و أنه ليس كالآخرين، و هو ما يؤدي إلى العزل و الاكتئاب. و الانتحار لا قدر الله.
هل الحالة نفسها يعيشها مريض كورونا أو من هم يراقبونه من بيوتهم؟
يتوقف التأثير النفسي للمرض (الوباء) على مدى قوة شخصية المريض وغير المريض أيضا وإيمانهم القوي وثقتهم بالنتائج والأخبار والإعلام … فإذا كانت شخصيته ضعيفة ساذجة وتكوينه الهش يضخّم كل شيء ويتغذى بشكل كبير من كلام الناس والمحيطين به وسريع الثقة بكل ما تبثه وسائل الإعلام وغيرها من مصادر التأثير والتوجيه، فإنه بلا شك سيتمكن منه الخوف والهلع ويضعف مناعته لمقاومة المرض العضوي والرئيسي فيصبح بين مطرقتين. لكن غير المصاب بالمرض يجد نفسه تحث مطرقة تزداد قوة وضخامة كلما ضخم الإعلام أرقام المرضى والوفيات.
لكن إذا كانت شخصيته ذات بناء متين تستوعب المرض(الوباء) وتحتضنه بشكل عادي ومتحمل للقساوة والتغيير الفيزيولوجي، فإن نفسيته لا يتمكن منها الخوف و الهلع و الوساويس الناجمة عن التفكير المتزايد في المرض، لذلك يكون تجاوزه للمرض بنسبة كبيرة الاحتمال؛ لأنه مستعد لذلك و تكوينه الذهني والعقلي قادر على تخطي هذه المرحلة و قارد على الحفاظ على هدوئه النفسي، مما يجعله يزيد من مناعته لمقاومة المرض وتعافيه. ونفس الشيء بالنسبة لغير المصاب فإنه قادر على مواجهة التهويل الإعلامي أولا والفيروس ثانيا بقوة تكوينه النفسي والذهني ووعيه بأن المرض سيزول إذا هو التزم بوعيه وعلمه.
وبما أن معظم الناس (المرضى أو غير المرضى) ليس لديهم التكوين النفسي القادر على استيعاب المرض و مواكبة الأحداث و الوقائع بشكل سليم، و ما دام المرض جديد وصل إلى درجة الوباء و الجائحة يأتي على الأخضر و اليابس، و مادام الأطباء والعلماء مستقرين على تفسير واحد ودقيق. فإن هذا يهدد استقرار توازن الحصة النفسية بشكل كبير.
ينتشر الوباء بين الناس كالنار في الهشيم مما جعل معظم الدول تتخذ إجراءات احترازية ووقائية غير مسبوقة و أعظمها لتباعد الاجتماعي و الحجر الصحي، هذا الإجراء لم يكن أشد المتشائمين يتوقعه وبصورة يدرك معها المواطنون صعوبة الوضع الذي يواجهه بلدهم، لكن مع ذلك كثيرهم الناس الذين لم يتقبلوا الاحتجاز و لا يكترثون لهذا الإجراء، إما لأسباب موضوعية أو ذاتية ، فهناك من لا يستطيع المكوث في المنزل لحاجته للعمل و جلب ما يسد به رمقه، و منهم من يرى ضرورة استمرار نشاطه الاقتصادي لأهميته الحالية و المستقبلية ، و هناك من لا يستطيع الجلوس في المنزل لاعتياده على أماكن أكثر رواجا و انفتاحا و ارتياحا له من القبوع بين جدران المنزل، وهناك من يرى في هذا الاجراء سداد الرأي لخوفه من الإصابة بالمرض و انتشار العدوى .
ويشكل الخوف كشعور نفسي ذاتي أو جماعي إحدى النتائج البارزة أثناء انتشار الوباء وبعده، وتبدو الفئة الخائفة من الإصابة عريضة و هنا يتدخل عاملان متغيران، يمكن تحديدهما بالوعي في مقابل الجهل، يُحدث الأول الاستعداد النفسي للمواجهة و القضاء على الوباء بالطرق الوقائية و المساعدة لاحتوائه من طرف كل أطياف المجتمع. لكن الثاني أي الجهل يثير في النفس استعدادا للإصابة بالمرض حتى بمجرد ظهور أعراض زكامية ، هذا من جهة. ومن جهة ثانية عدم تقبل الإصابة حتى لو حدثت بالفعل، وكلا الوجهتين تؤديا بالإنسان إلى الخوف و الهلع والتوتر و الاكتئاب بالتالي التفكير السلبي في تبعات هذا الداء ومنها توقع الموت و هو ألم أكثر من الموت نفسه.
في هذا السياق تتعدد الآثار النفسية المصاحبة لانتشار الوباء والتي زادت من تفاقمها وسائل الإعلام والإشاعات المصاحبة لأخبارها، وتضارب أرقام المصابين والوفيات منها. فتتسلسل أبرز هذه الصفات النفسية المضطربة من شك و حذر و قلق و توتر الناتجة عن التفكير المطول في المرض و تبعاته و هو ما يجعل الإنسان يصاب بالخوف ، خوف من الإصابة و خوف من نقل العدوى للعائلة وخوف من المستقبل المجهول و خوف من الموت ، ما يجعل هذا الخوف مرضيا (الرهاب) و ينتقل من رُهاب فردي إلى رُهاب جماعي يؤثر في الحالة الصحية للإنسان بشكل عام و خاصة المسنين و صغار السن . حيث يشكل فيروس كورونا بالنسبة للصغار ذلك الغول المخيف يتصوره بأبشع تصوراته المخيفة تؤثر عليه حاليا و مستقبلا. ونفس الشيء لكبار السن الذين لم يستوعبوا بعد الحالة التي عليها العالم الآن و خطورة هذا الفيروس لدقة حجمه و سرعة انتشاره. ويزداد التأثير حدة عندما يسمع خبر احتمال تمكن المرض من المسنين أكثر من خيرهم بتبرير ضعف مناعتهم، زِد على ذلك حجرهم الصحي عن العالم الخارجي …
ليس هذا سهلا إن لم تكن البنية النفسية للشخصية متينة ما يكفي لمواجهة الوباء، لكن إن لم تكن كذلك فحتى الإجراء الاحترازي من خلال استعمال الكمامات وغسيل اليدين كل مرة لن يفيد و هو عادة ما كان يعتبر وسواسا فما بالك إن كان مرتبطا بفيروس لا يرى بالعين المجردة، فيكون الوسواس و الشك من احتمال انتقال العدوى مرضا و اضطرابا نفسيا قد يصاحب الإنسان فيما بعد، و أكثر المصابين بهذه الآثار المسنين طبعا ، لكن نحذر من أن يستمر مع غيرهم .
إن الهروب من كرونا الشبح المخيف الذي يطاردنا في الأزقة والشوارع و المقاهي و كل الأماكن العمومية أصبح يطاردنا اليوم في أذهاننا و نحن في بيوتنا يظل يتشكل في تفكيرنا بقدر خوفنا و هلعنا و تضخيمنا لصورته الدقيقة في مخيلاتنا. قد حوَّل وغيّر من عاداتنا وكسّر عرفنا و تقاليدنا من عناق و سلام و تجمع و تجمهر…
حتى الجانب الروحي الذي يلجأ إليه الانسان عند اصابته و أزمته، عند همه و غمه، عند خوفه وهلعه. وضع مخالبه على المساجد و المعابد ليترك الإنسان يقضي اكتئابه و قلقه وحده في غياب الطقوس الروحية الجماعية التي اعتاد عليها كثيرا ما يطمئن قلبه لها و تسكن روحه فيها.
الأستاذ عبد الصمد الدفالي