في العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي وصناعة التفاهة – إلياس الكوني

  • بقلم :  الياس الكوني
  • باحث في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا

انه القرن التاسع عشر,عصر محوري صاخب شهد ثورات في الصناعة والتقنية والسياسة ولكن ايضا شهد ثورات فكرية مهمة وجريئة وخطيرة ستؤدي الى ولادة العالم الذي نعيشه الان…

عصر عرف تفسخ اليقينيات القديمة وأنظمة تطيح بشعوبها وعلوم تقوض السلطة الدينية .  فكان لابد ان يتكتل الاهتمام عبر اكتشاف ماهية جوهر البشر في عالم سريع التطور الذي اصبحت التكنولوجيا تتحكم في دواليب حياتنا ..كل ذلك عبر سيرورة التحول من مجتمع صناعي كلاسيكي وصولا الى مجتمع شبكي معولم  قائم على منصات التحرك..

لكن مع بداية القرن العشرين وبزوغ الثورة التكنولوجية وظهور وسائل اعلامية جديدة كالتلفزة والصحافة والأنترنيت…قد تغير الوضع تماما وأصبح العالم بمثابة قرية صغيرة إذ لم يعد في الإمكان عزل الناس عقليا أو سيكولوجيا عن بعضهم البعض لأن ما يحدث في أية بقعة ينشر في جميع بقع العالم إذا اتسعت تصورات الفرد التقليدي القديم التي كانت تتسم بالبساطة وأصبح عليه أن يواكب ويجتهد حتى يفهم الأخبار التي تغمره بها وسائل الإعلام يوميا عن أحوال الأمم والشعوب الأخرى المختلفة الألوان والعقائد الثقافة وفتحت المجال واسعا لتدفق المعلومات وانسياب المعرفة إلى كل أنحاء العالم وقربت المسافة بين البشر وخلقت حضارة فردانية متوحشة جديدة…

  •  فكيف تجسدت فردانية الفرد؟ وكيف تفرد المجتمع بتسليع ثقافة التباهي؟
  • والي أي حد يمكن لمواقع التواصل الاجتماعي ان تجعلنا مشهرين تحت سقف التفاهة والانتاج؟
  •  وكيف تتورط العديد من الأسر بسبب الرغبة في التباهي إلى التورط في التزامات مالية ثقيلة؟

لم يعد اقتناء بعض الأجهزة الإلكترونية وخاصة الهواتف الذكية من الكماليات أو مظاهرا من مظاهر التحضر والحداثة عند البعض بل بلغ هذا التملك درجة الهوس إذ أصبح الهاتف الجوال بمثابة صديق لصيق لا يفارق مالكه في حله وترحاله من مكالمات رنات لا تنتهي، رسائل قصيرة لا يتوقف عن كتابتها وأرقام يقوم بتركيبها اعتباطيا لنسج علاقات جديدة خارج المحيط العائلي…

ومع هذه الأنماط الاستهلاكية التي تطغى على مجتمعات العصر الحديث بتحريكٍ من الرأسمالية، والإعلان، والتلفزيون، والأفلام، والمشاهير..

 نجد أن التنظير الذي قدمه الرسام الأمريكي ” Andy Warhol” الذي تنبأ بظهور وسيط إعلامي يصنع من حلم الشخص العادي واقعا ملموسا لم  يتوقف عن كونه تنظير بل سرعان ما تحقق، فقد عبر هذا الأخير في إحدى مقابلاته بمقولته الشهيرة ” في المستقبل سيتمكن الجميع من أن يصبحوا مشهورين شهرة عالمية خلال 15 دقيقة فقط…”

ويظهر ذلك بشكل واضح الدور الكبير و الكبير جدا الذي تحققه وسائل الإعلام في صناعة الأحداث و انتاج المشاهير، فأصبحت بذلك وسائل التواصل الاجتماعي زاخرة بالكثير من الأسماء المشهورة على اختلافها ما بين الذي يقدم المحتوى العلمي المعرفي الجاد و الناذر، و الذي يتفنن في تقديم المحتوى الفراغ التافه و المرضي أحيانا مثل تلك التي تنتشر داخل المجتمع المغربي من قبيل ” أدومة، إكشوان إكنوان، ساري كول، نيبا…والقائمة طويلة، والذي يلقى إقبال على نطاق واسع خاصة في المجتمعات المتخلفة و المرضية التي يشملها العالم الثالث،  فتبرز لنا ظاهرة ” البوز ” على مواقع التواصل كفردانية متوحشة تطغى عليها طابع التفاهة من جهة وطابع رداء الانتاج من جهة اخرى وهكذا ينسلخ الفرد عن تلك المعايير التقليدية الكلاسيكية ليظهر بحلة جديدة تخالف القيم الأخلاقية والنظم التربوية او بالأحرى التنشئة الاجتماعية…

هذه الثقافة الاستهلاكية التي  أصبح فيها “تسليع” الأشياء ممتدا لجميع نواحي الحياة، بدءا بالسياسة والاقتصاد ومرورا بالمسرح و الفكر والثقافة وانتهاءا بالعلاقات الشخصية، فأصبحت المعلومة الشخصية تباع وتشترى ويتم الترويج لها لعرضها واستهلاكها كالسلعة تماما، ومنه تختار الصحافة أخبارها كالسلع أيضا وفقا للمزاج العام وااحتمالات انتشار الخبر. أما في السنوات الأخيرة، أي سنوات مواقع التواصل الاجتماعي، فباتت الأخبار تعتمد على القدرة على تجميع أكبر عدد من الإعجابات، ولو كان  الباحث “جي ديبور” على قيد الحياة حتى يومنا هذا فإنه من شبه المؤكد أن يمتد تحليله وقراءته لمجتمع الاستعراض لتشمل كل ما يحدث على شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ومواقعها مثل فيسبوك وتوتير وإنستغرام وغيرها ممن تعمل على تسليع أفكارنا، وعواطفنا، وآرائنا، وأصدقائنا، وتفاصيل حياتنا اليومية ,  حتى الزواج والحب والأمومة كلها تحوّلت لسلع تسويقية، يسعى أصحابها والمتحدثون حولها لزيادة أعمالهم التجارية والترويج لها في حال وجدت أصلًا عن طريق إعجاب الناس بذوات الأشخاص وليس بما ينتجون، فصورة زوجين شابين يعملان معا بنفس المجال يرتديان ثيابا جميلة وألوانا براقة ، تعمل بالترويج والدعاية ما لا يستطيع أي خبر آخر عمله، وصورة شابٍ يحمل كاميرا مأخوذة بحرفية عالية ومعّلة بعناية باتت كفيلة بجعله يسمّي نفسه المخرج أو المصّر أو غيرها مما شئتم من الأوصاف…. 

لطالما كانت النرجسية والرغبة في إظهار الذات، بشكل أو بآخر، جزءا من طبيعتنا كبشر، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي جعلت من مستخدميها يختلقون وسائل لا نهاية لها  لتلبية احتياجاتهم الأساسية لجذب انتباه الآخرين، والحصول على إعجابهم وقبولهم، عن طريق صنع منصة شخصية هدفها الأساسي هو الترويج للذات وخلق صورة ناجحة منها أمام الآخرين.

وهنا أطرح سؤالا عن نفسي وعنك وعن أولئك.. لماذا أنا أفكر أو أكتب وفقا لما تنتظره أنت؟ ولماذا أتصرف مع صديقتي وفقا لما أظنه نموذجيا في عقلها؟ ولماذا أدخل في مارا تبيتكم الأخلاقية فأحترم الكبير بالضرورة؟ بالقطع إنني أقوم بتمثيل لاستخدم منذ الآن كلمة ” استعراض”  دور ما في مجتمعكم ، أتوق للنموذج المتفق عليه عندكم.. مع مرور الوقت قد أتلاشى تماما ولا يبقى منى سوى ما تريدون أنتم، بل وأكثر من هذا فسوف أنتظر منكم بدوري ما أتوقعه منكم. والمجتمع الرأسمالي الحديث نضج إلى الحد الذى أصبحت النماذج فيه مستقرة .. الفاشل عاطفي..الحكيم..المفكر… إنني أستعرض لأنني أعلم أن هناك متفرجين، حقا لا أنتظر تصفيقهم , لكنني لا أتصرف خارج توقعهم ، أخشى تعليقاتهم السلبية عني ، وأخشى غرابتي إذا انفلتت أمامهم . أصير مع الوقت مجرد ممثل لا حقيقة… هكذا نصعد مع الرأسمالية في مرحلتها العليا لآخر شوطها …لقد صار كل شيء استعراضيا، حتى وإن بدا في مظهره معارضا..

في مجتمع الاستعراض هذا استبدل “الوجود بالظهور”، وبكلمات أخرى، بات الكثيرون يقيسون وجودهم ودورهم في الحياة ونجاحهم في عملهم أو علاقاتهم أو زواجهم أو في تربية أبنائهم بعدد مرات ظهورهم وظهور صورهم أو منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وعدد الإعجابات التي يحصدونها من متابعيهم، لذلك تراهم يتبعون أي موجةٍ تحدث، فتجد لهم في كل  “trend” اسما ورأيا ونقاشا.

لا يتوانى أولئك الأفراد في رسم صورة بالغة الجَمال عن علاقاتهم الاجتماعية ككل، فأطفالهم متميزون، وآباؤهم فريدون، وأصدقاؤهم ليس لهم مثيل، وأنك ستكون محظوظًا جدا في حال حظيت بمثل هكذا أصدقاء، وهكذا معارف …فالمشهورون هم مواطنون “نموذجيون يكادون يصلون درجة الكمال”، تنقل الكاميرات وصفحات فيسبوك وغيرها أدق تفاصيل حياتهم التي نجحوا في تسليعها وسلبها من معانيها الإنسانية، في سبيل الشهرة وإرضاء الأنا العليا، وتحقيق مصالحهم الخفية الفردانية والأنانية، فوفقًا لنمط التسويقة, كل سلعة معينة تحارب لنفسها لا تعترف بالآخرين، وتحاول فرض ذاتها في كل مكان كما لو كانت الوحيدة…فحياة أولئك الأفراد ، كما يحبون أن يصوّروها لغيرهم أو كما يرغبون هم أنفسهم برؤيتها، شبه مثالية إن لم تكن مثالية تامة، فتراهم يروّجون إلى أنّ زواجهم ناجح تماما، وهم أشدّ الناس حظًا باختيار شريك حياتهم “المثالي” على أية حال، وأعمالهم هي الأنجح والأكثر تميزا وإبهارا ويكادون يكونون الوحيدين فيها، فتراه يروّج لنفسه على أنه الأول من دولة كذا في هذا المجال، أو أنها المسلمة الأولى أو المحجبة الأولى أو الفتاة الأولى، وغيرها من المسميات.

لقد عملت مواقع التواصل الاجتماعي على خلق مجتمعات تفضّل الصورة على الحقيقة، والنسخة على الأصل، والتمثيل على الواقع، والمظهر على الجوهر.

 ان الوهم عند تلك المجتمعات وحده هو المقدّس، وأيّ حقيقةٍ أو محاولة نقدٍ ليست سوى محاولة لتدنيس ذلك المقدّس، لذلك ترى الأفراد مصدقين لكل ما ينشره كل تلك الأصنام والشخوص الفارغة التي صنعها فيسبوك وانستجرام، مستميتين في الدفاع عن كل ما يمسهم من خبرٍ أو رأي أو تقرير.

وأمام هذا الوضع المتأزم، والضغط الاجتماعي، والبحث عن كيفية الخروج منه تستعمل كل الوسائل المشروعة، وغير المشروعة لتحقيق الغايات، هنا يمكن أن نفهم كيف انتشرت ظاهرة الرشوة، وأصبحت المناصب الإدارية والسياسية موردا هاما لجلب المال، والتنافس المرضي للاغتناء اللامشروع، والتباهي بين الناس.
وكثيرة هي المشاكل الاجتماعية التي تترتب عن هذه الوضعية سيما أمام عجز الفئات العريضة من المجتمع عن تلبية حاجياتها، والإحساس بالإحباط والدونية أمام تفوق ومباهاة الآخرين…

اذن فكل هذه  الظواهر لا ترتبط فقط  بالمجتمع المغربي خاصة أو العربي عامة بل هي ظاهرة برزت تجليا للعولمة في بعدها الاقتصادي والإعلامي، إذ انتقلت من المجتمع الصناعي إلى ما يسمى مجتمع المخاطرة الذي تغيب فيه أنماط الحياة المستقرة. .. لقد دمرت العلاقة بين الإنسان وماضيه التكافلي مع الآخرين، واندثرت القيم الثقافية المستمدة من مبادئ الدين، وبرز نوع من الفردانية المتوحشة… فكل شخص يضع نصب عينيه إشباع رغباته وتحقيق مصالحه الفردية، يسعى إلى الاندفاع نحو التنافس مع الآخرين وتدميرهم.
إن العلاقات السائدة اليوم في مجملها هي علاقات تدميرية بين أفراد المجتمع، بل بين أفراد الأسرة الواحدة، البعض يعيش على حساب الآخر/ الضحية” الذي يكد ويجهد نفسه لتلبية حاجيات الآخرين، هنا تضطرب العلاقات الاجتماعية. ..

وهنا جعلت مواقع التواصل الاجتماعي الأفراد يعيشون في عالم افتراضي بعيدا عن واقعهم الاجتماعي والاقتصادي، وحددت ميولتهم واتجاهاتهم، وخلقت منهم كائنات تستهلك، ولا تنتج، وتشكلت لديهم عقد تملك الأشياء على مستوى اللباس والهواتف والسيارات والشقق ودخلت المرأة غمار المنافسة والتباهي مع خروجها للعمل.

فهل ستطغى سيادة ظاهرة التباهي كصناعة جديدة مرتبطة بالنمط الاستهلاكي ?

ما دور التربية والتنشئة المجتمعية في استفحال هذه المظاهر وكيف يمكن تجاوزها أو الحد منها؟

بعض المراجع :

إريك فروم، الإنسان بين الجوهر والمظهر، ترجمة: سعد زهران، (الكويت: عالم المعرفة، أغسطس 1989).

زيجمونت باومان، الحداثة السائلة، ترجمة: حجاج أبو جبر، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولي، 2016).

Manuel Castells The Rise of the Network Society Summary

describes the accelerating pace of innovation and application.

Gustave Le Bon   سيكولوجية الجماهير

إغلاق