في استشكال مفهوم للفلسفة؛ قراءة في كتاب: ”في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة”

يوسف الحسيني

إننا خلال هذا النص لا نبتغي الوقوف عند جميع مضامين وأفكار الكتاب، بقدر ما سنتوقف عند إشكال تعريف الفلسفة، باعتباره إشكالا فلسفيا يتسم بالديمومة وانعدام إمكان الحسم فيه.

يبرر الأستاذ الباحث في الحقل الفلسفي سبب إسهامه هذا رغم كثرة الدراسات العربية التي تؤرخ للفكر الفلسفي ولحظاته وتحولاته ورموزه هو غياب الحس النقدي وضعف المنهجية النقدية ويحصر هذا الضعف في نقطتين:

– صنف الكتابة المنبهرة بالفكر الغربي التي تنساق إلى عرضه والدعاية لمدارسه ومذاهبه دون أدنى موقف نقدي، فظلت وثوقية في دفاعها وتبجيلها.

– صنف ثان من الكتابات يدعي النقد والدحض من قبيل “تهافت الايديولوجيا الغربية” “نقض الفلسفة” وما شاكل ذلك من تسميات وعناوين، وقد سجل الكاتب بعض الملاحظات على هذا الصنف الثاني من قبيل السطحية في عرض المذاهب الفلسفية دون الغوص في أعماق وتفاصيل هذه المذاهب واختزال هذه التآليف الناقدة لمبادئ الفكر الفلسفي الغربي في عبارات أقرب إلى لغة الشعار، حيث لا تجد في هذه المؤلفات إلا معلومات مبتسرة، وانتقادات قلما تنفذ إلى العمق والصميم. ويعطي صاحب الكتاب مثال بمن ينتقد الليبدو الجنسي عند فرويد… ويضيف أن مؤلفات هؤلاء حينما نعود للمراجع المعتمدة فيها والهوامش قلما نجد مراجع ومؤلفات للفيلسوف المنتقد، بل نجد فقط بعض التصانيف الموجزة والمختصرة التي توضح ألف ياء فلسفته، اعتبارا لهذه الأسباب تأتي هذه الدراسة الجادة للأستاذ الطيب بوعزة.

“الإنسان لا يستطيع أن يعيش في الوجود دون أن يستفهم عن معناه ويفكر في مدلوله، ويبحث عن الكنه الذي يثوي خلف أعراضه.” إن السؤال الديني المتعلق بدلالة الوجود وأصله ومصيره، هو الحافز الاستفهامي وراء نشأة مختلف أنماط التفكير البشري. وأثناء وقوف الكاتب عند هذا السؤال وجده مستفزا لطاقة العقل ومثمرا لمجموعة من الإسهامات منذ لحظة طاليس الفيلسوف المالطي، قبل أن ينقلب التفكير الفلسفي ما بعد الحداثي ضد هذا السؤال ليس فقط إلى محاولة التخلص منه وإنكار الإجابة عنه بل أيضا محاولة نفي مبررات طرحه.

وفي معرض حديثه عن دلالة مفهوم الفلسفة سيتوقف عند مفارقة مثيرة تعترض كل باحث عن ماهية الفلسفة، بحيث أن الفلسفة رغم كونها مختصة في تقديم وإنتاج التعاريف فهي عاجزة عن تعريف ذاتها، بخلاف حقل العلوم التي لا يطرح عندها هذا الإشكال بقدر ما يطرح عندها معيار قياس العلمية. ويعرض الكاتب لبعض هذه التعريفات فأفلاطون يعرف الفلسفة بوصفها الوجود الحق المفارق لعالم الظواهر، بينما تلميذه أرسطو ينتفض ضد هذا التعريف رافضا نزوعه المفارق مؤكدا أن البحث الفلسفي بحث عن الوجود بما هو موجود أي تحديد العلل الأولى، ليأتي هيدغر ليؤكد أن ما فعلته الفلسفة في كل مراحلها وصولا إلى عصره هو نسيان الوجود لا بحثه… وحتى الصيغة التي تقدم بها الفلسفة فيها اختلاف فاذا كان افلاطون وأرسطو وديكارت يقدمان الفلسفة كمركب من المعارف فإن كانط يقدمها بوصفها أسلوبا من التفكير ولذا نجده يقول: “ليس هناك فلسفة يمكن أن نتعلمها بل كل ما يمكن أن نتعلمه هو التفلسف”، ليأتي هيجل لينتقد كانط قائلا باستفهام استنكاري: “كيف يمكن تعليم التفلسف دون تعليم الفلسفة؟” إننا إذن أمام تعدد في التعريفات، فكل فيلسوف له طرح دلالي خاص به معبر عن وجهة نظره الخاصة وهذا يعكس اختلاف الفلاسفة حول ماهية صناعتهم.

إن هذا الاختلاف حول الماهية طال حتى الغاية من التفكير الفلسفي وبعده الوظيفي بين من يعتبرها نمط حياة وغايتها في حد ذاتها (أفلاطون/أرسطو)، وبين من ينظر إليها نظرة إجرائية عملية (تصور إيزوقراط وتصور الشكاك أمثال فورون وتيمون).

إذن ما الذي جعل تعريف هذه الصناعة إشكالا فلسفيا بما يفيده الإشكال،في مدلوله الفلسفي، من سؤال يتسم بالديمومة وانعدام إمكان الحسم في جوابه؟

يأتي صاحب الكتاب ليجيب على هذا التساؤل انطلاقا مما توصل إليه مؤرخو الفلسفة وحاول إجمال هذه الأسباب في:

– كثرة التعاريف: ذلك لأن مشكلة تعريف الفلسفة ليس في عدم وجود تعريف لها، بل في وجود تعاريف متعددة متباينة. إذ لكل فيلسوف تعريف خاص به “إن عدد تعاريف الفلسفة يكاد يساوي عدد الفلاسفة”، لكن الذي ينبهنا إليه الكاتب هو أنه حتى بعض التخصصات المعرفية نجد فيها تعددية في تعريف ماهيتها لكن هذا التعدد في دلالات هذه الحقول المعرفية لم يصل إلى حد تأسيس إشكالية تعريف العلم أو تعريف الشعر… بنفس الحدة التي نجدها في مجال الفلسفة.

– الصبغة الشخصية للإنتاج الفلسفي: ويقصد به الكاتب الطابع الذاتي لفعل التفلسف، وهو ما يعبر عنه إدمونت هوسرل بالقول: “إن الفلسفة -الحكمة- هي على نحو ما عمل شخصي بالنسبة للفيلسوف، فالفلسفة ينبغي أن تنشأ بوصفها فلسفته، وأن تكون حكمته هو، ومعرفته الخاصة التي على الرغم من أنها تنزع نحو ما هو كوني، فإنها يجب أن تظل نتيجة لتحصيله الشخصي”.

– ميوعة حدود موضوع الفلسفة: من الأسباب التي تجعل من تحديد مفهوم الفلسفة مستشكلا هو ميوعة حدود موضوع الفلسفة، فاذا كانت تعرف العلوم عادة انطلاقا من موضوعها فنقول عن البيولوجيا مثلا “علم الكائن الحي” والفيزياء “علم المادة” والرياضيات “علم الكم بنوعيه المنفصل والمتصل- وهكذا بالنسبة لباقي العلوم… فهل تقبل الفلسفة هذا اللحاظ في التعريف؟ هل لها موضوع محدد يسمح لنا بأن نصوغ به تعريفا لها؟ إن موضوع الفلسفة نفسه هو سبب من أسباب استشكال مفهومها، فاذا كان مسلك الموضوع يساعد في تعريف العلوم فهو عاجز في حقل الفلسفة، بل بالعكس يعمق التباس مفهومها، لأن مجال النظر الفلسفي اهتم بكل شيء منذ تأسيسه، ولم يترك مجالا إلا وقاربه وبلور فيه أطروحات معينة، أليس مبتدأ أحد تآليف ديموقريطس هو قوله “سأتكلم عن كل شيء” إنه يقصد الكل أي مختلف مجالات الوجود.

بحيث كان مطلب الفكر عند قدماء الاغريق هو تحديد الأصل الذي صدر عنه الوجود، فاستوت الفلسفة الأولى في شكل مبحث كوسمولوجي؛ ثم مع تطور المجتمع اليوناني وتحولاته السياسية صار مطلب التفلسف هو تحديد القيم المعرفية والأخلاقية والسياسية وقد بدا هذا واضحا في المشروع الفلسفي السقراطي. لكن مع أفلاطون وأرسطو سيتم استعادة سؤال الأنطولوجيا الذي بدأت به الفلسفة الإغريقية، ووصله بسؤال السياسة والأخلاق، مع تأسيس ذلك في مرتكزات منهجية معرفية، فاستوى النسق الفلسفي بشكل كامل وشامل. مستوعبا كل حيثيات الوجود والمعرفة والقيم. وصارت الفلسفة كما قال ديموقريطس تتكلم عن كل شيء.

– صعوبة تحديد ملامح المنهج الفلسفي: ويتساءل هنا الكاتب عن امكانية تعريف الفلسفة انطلاقا من منهجها، ليخلص إلى أنه كما أن ليس للفلسفة موضوع محدد فليس لها أيضا منهج محدد. وإذا كان المدخل الابستمولوجي في تعريف أي حقل معرفي يتجه بالنظر رأسا إلى تحديد موضوعه ومنهجه، وبنيته المفاهيمية، فإنه هنا يجوز القول إن هذا المدخل لن يساعد في تأسيس التعريف.

– حراك البنية المفاهيمية: يشير هنا الكاتب إلى أنه إذا طلبنا من المقاربة المفاهيمية أن تعطينا تعريفا للفلسفة عامة من مدخل مفهومي؛ فإنها في هذه الحالة ستسقط في مأزق صعب؛ ﻷن المفاهيم الفلسفية رمال متحركة يتغير سمتها الدلالي من نتاج فيلسوف إلى آخر. ومن ثم نرى أن المقاربة المفاهيمية تصلح لتعريف الفلسفات وليس لتعريف الفلسفة. ومن ثم إذا أخذنا المفاهيم مدخلا إلى تعريف الفلسفة هكذا بإطلاق فإننا بذلك نطلب من الاختلاف أن يعطينا وحدة دلالية جامعة. وإذا حققنا ذلك فإننا سنمسخ القول الفلسفي، ونفقده أميز سماته؛ أي: الاختلاف!

وعليه فإن المقاربة المفاهيمية مسلك منهجي جيد لكنه يصلح لتعريف الفلسفات وليس تعريف الفلسفة.

هذه هي أهم الأسباب التي توقف عندها الأستاذ الطيب بوعزة والتي يرى أنها تعد من الأسباب المباشرة في استشكال تعريف الفلسفة. وخلال هذا المؤلف سيناقش في فصله الثاني كذلك إشكالية نشأة الفلسفة متوقفا عند أطروحتي الوصل والفصل بقراءة نقدية للمركزية الغربية.

إغلاق