فلسفة التربية… أي معنى؟ بقلم الطالب الباحث محمد الزعني
محمد الزعني – طالب باحث بسلك الدكتوراه (مختبر الدكتوراه الفلسفة والعلوم) كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة القاضي عياض بمراكش شعبة الفلسفة)
محاور المقالة
- التربية فعل مركب
- التربية وسؤال المعنى
- الرهان المطلوب
مما لا نزاع حوله ولا شك فيه أن للتربية دورا أساسيا في النهوض بأي مجتمع كيفما كان وأينما وجد (زمانا ومكانا)؛ فما تقدمت دول اليوم إلا من خلال مراهنتها على هذا المجال الخصب والحيوي، ولم يتأت لها هذا أيضا إلا من خلال النظر إلى التربية نظرة فلسفية، فكل مجتمع يمتلك فلسفة نظرية (نظرانية) بالضرورة يكوِّن ويبدع فلسفة تربوية، وتعني هذه الأخيرة من بين ما تعنيه؛ النظر إلى التربية نظرة شمولية، من حيث الأسس التي تنطلق منها وتنبني عليها، ومن حيث أهدافها وغاياتها التي ترمي إليها،كما تنظر إلى الأنظمة التربوية القائمة نظرة نقدية وتحليلية – وما أحوجنا اليوم إلى هذه النظرة النقدية في المغرب المعاصر الذي يتخبط خبط عشواء في ارتجالية القرارات فيما يخص منظومته التعليمة- وهذا الجانب يمكن وصفه بالعمل الإبستمولوجي في ميدان التربية.
وإذا كانت السوسيولوجيا تبحث في التربية على العلاقة التي تجمع بين الطفل والمدرسة وتفاعلهما مع المجتمع والواقع الاجتماعي، وإذا كانت البيداغوجيا تتساءل عن السبل والوسائل التي تتم بها العملية التروية، فإن فلسفة التربية -حسب ما يرى الدارسون ومن بينهم على سبيل المثال عبد الكريم غريب في كتابه “فلسفة التربية”- تطرح أسئلة أوسع وأشمل، من قبيل التساؤل عن معنى التربية؟ وعن الأهداف التي يجب أن يتواخاها الإنسان من هذه التربية والغايات المرجوة منها؟ كما تتساءل عمن هو الإنسان حتى يتحتم علينا أن نربيه؟
1- التربية فعل مركب
إن الحديث عن معنى التربية بشكل عام وشمولي يستدعي استحضار مجموعة من العناصر المتداخلة والمختلفة من مثل ما هو اقتصادي، واجتماعي، وسياسي، وثقافي…، فضلا إلى ما هو نفسي، فلعل التربية هي البؤرة التي تنطلق منها جميع هذه المجالات، ومن ثم يمكن أن نقول بأن التربية على هذا الأساس هي إعداد الفرد ليكون قادرا على استيعاب هذه الحياة والاندماج فيها وفق الشروط التي تمليها هذه الحياة وتتطلبا بل أكثر من ذلك أن يستطيع إبداع شروط تتلاءم وشخصه. لذلك فالإنسان عبر التربية يحدد تفرده وتميزه؛ وفي هذا يرى كانط بأن [ الإنسان لا يكون إنسانا إلا بالتربية، فالتربية هي ما يجعل الإنسان يتميز عن الحيوان] ذلك إذا ما سألنا إنسانا ما من هو الإنسان- وفق ما يرى أوليفي روبول في كتابه فلسفة التربية- وبماذا يتميز؟ أجابنا بالعمل أو اللغة أو الثقافة، فهذه الأخيرة لا يمكن إلا أن تكون في الإنسان الذي يتفرد بها.
وهذا ما يستدعي ضرورة تنسيق العمل التربوي وفق نموذج بيداغوجي محدد يوضح سير العملية التربوية ويقدّم السبل التي من شأنها أن تقود إلى الأهداف المتوخاة من هذه العملية، فعلاقة البيداغوجية بالتربية هي علاقة تلازم فلا يمكن للعملية التربوية أن تتم دون هذا العنصر الذي يعتبر بمثابة الميسر لها، وإلا سيكون الفعل التربوي فعلا فوضويا فير ممنهج وبالتالي فاقدا للمعنى وللأهداف. فالفعل التربوي يقتضي أن يكون خاضعا لنظام محدد المعالم تراعى فيه العناصر المكونة لهدا الفعل وتوفر له الشروط التي يمكن أن تسهل سير وتقدم العملية التربوية بما في ذلك توفير الظروف الملائمة للاشتغال سواء للمدرس أو للتلميذ أو حتى للأطر الإدارية وغيرها.
لكن قبل كل هذا ينبغي أن ننتبه إلى سؤال مهم، ألا وهو لماذا توفير هذه الشروط كلها، أي ما الغاية من الفعل التربوي بشكل عام؟
2 – التربية وسؤال المعنى
في هذه النقط نعود إلى سؤال مهم يطرحه العديد من فلاسفة التربية وعلى رأسهم “جورج نيلر” مثلا وهو سؤال: من هو الإنسان حتى يتحتم علينا تربيته؟ ولأجل ماذا ينبغي علينا أن نربي هذا الإنسان؟ في الغالب تكون الإجابة عن مثل هذه الأسئلة بأننا إذا أردنا أن نعرف لأجل ماذا نربي، ينبغي أولا أن نعرف لأجل ماذا يعيش الإنسان “أي أن نسأل عما يمكن أن يكون الهدف من الحياة وعن نوع الحياة كما ينبغي أن تكون، ومن ثم علينا أن نتساءل عن طبيعة العالم وعن الحدود التي يضعها إزاء ما يمكن أن يعرفه الناس وعما يمكنهم أن يعلموه” بعبارة أخرى يريد جورج نيلر أن يجعل السؤال الكانطي الشهير منزلا على أرض الواقع ما دامت التربية هي المجال التطبيقي للفسفة. ومن هنا ستكون النتيجة أن جميع الناس يعيشون من أجل الحياة (البحث عن الحياة السعيد/ الأقل شقاء).
ولذلك كان لزاما أن يؤخذ –في عملية التربية- يؤخذ بعين الاعتبار الواقع الذي يعيش فيه كل إنسان، إلا أنه لا ينبغي أن نحكم على الإنسان فقط انطلاقا من البيئة التي يعيش فيها؛ فالإنسان ليس ابن غرائزه، وإنما هو ما تصنع به تربيته، لذلك فاتحاد السياسي بما هو تربوي سيؤدي بالضرورة إلى تكوين فرد وفق الغايات التي تستهدفها هذه السياسة المبنية على إيديولوجية خاصة بالأفراد الذين يقررون هذه السلوكات من خلال إلزام طرف معين لتمريرها؛ هذا الطرف الذي يتمثل في شخص المدرس الذي يجب أن يمتثل لما تمليه هذه المقررات فيكون بذلك مجرد عامل منصب من طرف هذه المؤسسة (الدولة). في حين أن الهدف من الحياة والمعنى من الوجود هما من الضروريات بالنسبة للمدرس إذا أراد فعلا أن يكون مربيا لا فقط موظفا مأجورا، أي أن تكون له هو فلسفة خاصة به يستمدها من الفلاسفة والمربين الإنسانيين وينفتح بها على ما هو كوني “فالفلسفة تحرر خيال المدرس وفي الوقت نفسه تسيطر على عملبه. وبتتبع مشكلات التربية إلى جذورها في الفلسفة، فإن المدرس يرى هذه المشكلات في أفق أكثر اتساع (…) والمربي الذي لا يستخدم الفلسفة يعتبر بالضرورة سطحيا، والمربي السطحي قد يكون جيدا أو رديئا، ولكنه إذا كان جيدا فهو أقل جودة مما كان يمكن أن يكون، وإذا كان رديئا فهو أردأ مما يصح أن يكون” وتبعا لهذا فلا يمكن للمدرس أن يحيا داخل رسالته وهو محكوم عليه بالموت من خلال تقييد عمله فأي معنى لهذه الرسالة التي سيؤدها فرد مقهور؟
وخلافا لهذا فإنّا إذا أردنا تربية فرد قادر على العيش في عالم اليوم علينا أن نمنح للمتعلم وحتى معلمه الحرية، وتربية الطفل على المسؤولية والمواطنة الفعالة والديمقراطية، وأن نتيح له فرصة التعلم والاكتشاف فإن “سر التربية كله في أن ندع للتلميذ لذة تعليم نفسه عن طريق الموضوعات والوقائع. فهذا هو ما يربي لديه ملكة التفكير والتمييز والقياس والضمير.” ولا يتم هذا إلا إذا حاولنا دفع المتعلم دفعا إلى الانتباه للظواهر الطبيعية “وسرعان ما يصبح متطلعا يملؤه الفضول إليها. ولكن دون أن نتعجل في إشباع هذا الفضول الذي نوقظه عنده. بل ينبغي أن نضع المسائل في متناول يده، ثم ندعه يتولى حل كل مسألة منها بنفسه. إذ يجب أن يخترع العلم ويكتشفه، لا أن يحفظه ويتلقنه. فإننا إن أحللنا يوما في عقله سلطاننا مكان تفكيره، فلن يفكر بعدها ولن يعق، ولن يصبح إلا ألعوبة لآراء سواه من الناس. وما الغاية من هذا كله إلا أن لكي نجعله يشعر بفردانيته وتميزه، لكن ليس بعيدا عن مبدأ التشارك والتعاون، وهذا ما توفره البيداغوجيات الحديث من قبيل بيداغوجيا المجموعات وبيداغوجيا المشروع وغيرها. والتي تتيح التفاعل بين الأطراف المشاركة في العمل التربوي في جو يسوده التنافس في ظل التسامح والحوار المتبادل بينها، الشيء الذي تنتفي معه أفعال وسلوكات تتعارض وما هو ديمقراطي من مثل العنف والتمركز حول الذات وحب الهيمنة والتسلط على الآخر؛ مما يجعل العملية التربوية تسير وفق مستوى أفقي بعدما كانت قائمة على سلم عمودي.
3 – الرهان المؤمول
لذا يمكن القول أن أكبر مسألة يجابهها الفكر التربوي اليوم هو مسألة الأصالة بالموازاة مع ركب التقدم السريع الذي يعرفه العالم اليوم على عدة مستويات، وكذلك استشراف مستقبل التربية في العالم، والذي ينتج عنه استشراف مستقبل لأبنائنا يكون أكثر انسجاما وتناغما مع الواقع المعاش ومتطلبات الحياة. فإلى أي حد يمكننا مع التساؤلات الكبرى التي تطرحها فلسفة التربية أن ننتج ونؤسس لتربية قادرة على جعل الإنسان منسجما مع الحياة وحرا ومسؤولا في نفس الوقت؟