سيسيليا سوزوني: المدرسة و أزمة المعنى ترجمة عبد الوهاب البراهمي

  • المدرسة و أزمة المعنى  
  • سيسيليا سوزوني   Cécilia Suzzoni     
  •  ترجمة : عبد الوهاب البراهمي   

إنّ مغامرة المعنى هي حقّا ما يقنع التلاميذ: مغامرة معرفة موحّدة، واضحة وانعكاسية، يتعلّق بها التلاميذ أنفسهم في معنى منهج حقيقيّ، أي الطريق وقد مشيناه إلى نهايته. يسمح كوني المعنى فعلا بتقاسم المشترك ضدّ حرب الذاكرة والضعف العقلي المعاصر.

    ليعرف على الأقلّ، أنّه يعرف “

    لا آمل بالتأكيد تناول موضوع المدرسة بالرجوع إلى عقلية قديمة ما قبل- مدرسية، أو أن أحتقر التقييمات العديدة التي تتسمّع من الأمس إلى اليوم، آلام هذه المؤسّسة. لقد أكدّت مرارا كلّما أتيحت لي الفرصة، على أهمية حوار بنّاء، أصبح ملحّا، مع العلوم الإنسانيّة لتجنّب، خطر كلّ مقاربة في هذا المجال، قد تجعل المدرسة، جوهرية وطقوسية بفعل تأثير تقليد أضحى العضد العاطل للزمن.

     إنّ ضجري، بل أيضا سخطي، ولحسن الحظّ أنّه ملهم، أمام تأويل عدد من الاخلالات الوظيفية وإدارتها غير الرصينة من لدن الخبراء والسلطات السياسيّة لوزارة التربية، هو ضجر وسخط أستاذ عام، جعله مساره المهني في اتصال بالواقع البيداغوجي للميدان- مدرسة إعدادية ومعهد وأقسام تحضيريّة- ، حياة مهنية كان فيها النضال السياسي والهمّ الإبستيمولوجي دوما في تلازم. بيد أن الدرس الذي أستخلصه من تجربتي كمدرّس في أشدّ قلقه، هو أنّ مغامرة المعنى، ووضعها في السّياق بحماس وثبات، يحملها نفوذ الشكل- المعنىforme -sens  ، نفوذ النصوص، والصورة، نفوذ كلام المدرّس الذي يقنع وفي أفضل الحالات حماس التلاميذ.

 ضدّ الضجر: ” بطولة العقل”(2)

         يقع تداول العديد من المغالطات والمخاتلات على أعلى مستوى بروح للعصر، أقلّ ما يمكن أن يقال فيه أنّه غير ملائم لكوني العقل. إنّه لا يتماشى فحسب مع فكر التسليع marchandisation، الذي أفسد بشكل طبيعي بنيات المدرسة، بل أيضا مع تشخيص، سيلزم المدرسة على تغيير وجهها، تحت غطاء مراجعة الثورات والطفرات بأنواعها. غير أن صمتا مريبا يحوم حول هذه الدهشة ذات الوجه المفارقي: فمن بين الإصلاحات التي تعاقبت هذه العشرية الأخيرة، بترابط وتكرار الخطاب الرسمي وأحاديث الخبراء والتعليقات والنقاش في وسائل الإعلام، يتيه جميعها في ” فرقعة كلام فارغ“، لم يأبه له، محمولا بلغة رصينة، بغرض أن يعاد للمدرسة معناها الحقيقيّ، بالتذكير بمبرّر وجودها الأوّل وهو أن توجد معرفة، وأنّ “ المعرفة تخلق ضرورة التعلّم” (3).

            أستخدم كلمة “ معرفة ” في صيغة المفرد عن قصد، إذ تشير صيغة الجمع مباشرة إلى مًحْوِ مذهب شامل، لصالح تفتيت تستولى عليه بشراهة كلّ خانة من العلوم الاجتماعية  ووطنيّة نظاميّة، يُصلح فيها النظام الاختياري والرّاهن ” تخصّصات”، لا يمكن إلاّ أن تزداد سوءا. هذه المعرفة تعاش ويستدلّ عليها، تحشد بالتأكيد استراتيجيات عرفانيّة متعدّدة، وتحيينات تبعا لللتطوّرات والاكتشافات؛ بيد أنّها تقاوم كلّ تهديم، وتقوم باستمرار على ما أشار إليه كلود ليفي شتروس بـ” رأسمال مشترك للبنى الذهنيّة”capital commun de structures mentales“. وفي الجملة، يحكم الإله”  لوقوس” logos  قبضة المعنى علينا منذ الإغريق، في” الشيخوخة البطيئة “. ذلك أنّه، حينما يعتقد مارسال قوشي في النهاية، أنّه بمقدوره الحديث عن انهيار، وعن تفكّك إطار التفكير، فمن أين خرجت علينا البيداغوجيات الجديدة، وإلام يشير فعلا؟ أين سيكون الزلزال الإبستيمولوجي  الذي، سيمرّ بنا على هذا الصّعيد، من مجتمع التقليد إلى مجتمع المعرفة؟ كما لو أنّ السؤال العسير عن إدماج المعرفة بحريّة وتمكّن، لم يكن بعدُ في قلب البيداغوجيا الحسنة، من أفلاطون إلى مونتاني، وكما لو كان علينا انتظار علوم التربية لطرح السؤال عن النقل الانعكاسي transmission réflexive وضرورة ثالث في مسار هذا النّقل. ولنسجّل من جهة أخرى، أنّ مارسال قوشي، وبعد أن انتقد هذه الطفرة، وجد نفسه مرغما على الاعتراف، في التفاف للحجاج مستسهلا، أنّه “ من غير المستبعد أن يقودنا التفكير إلى الرغبة في استعادة شيء من التقليد” (4). ملاحظات “حـسّ سليم “، كانت المحاولة الصارمة المذهبية بامتياز لجان كلود ميلنار، قد وسّعت تحليلها في وقتها: في جملة ملاحظات، عن اللاتناسق اللّدود بين المعلّم وتلاميذه، وعن مثابرة، لا بل انتصار العقل التخطيطي في قلب هيمنة الرقمي.(5)    

             “ الجهل حالة مريحة، وغير مكلفة..ّ.”

            لابد من التأكيد على العجز المتعاظم الذي يكتسيه “الثوب المفهومي” (6) للخطاب حول المدرسة وفي المدرسة. بيد أنه على هذه المؤسّسة الجمهورية، المنظّمة للتكوين لا للإعلام، أوّلا أن تأمّن نفسها في أسرع وقت ممكن- و،عليه، فإنّ المعركة هي نفسها، من إيراسموس إلى ستانيسلاس ديهان – نقل أدوات سلسلة العمليات العرفانيّة: أكسيوماتيك مستلهم من أرسطو، طريق النفاذ إلى التحكّم في معنى قابل بأن يكون كونيّا universalisable .   ويظلّ المفهوم المجرّد الذي يسمح، في هذه الرحلة البيداغوجية للمعنى، بإخضاع المعرفة بالجزئي للمعرفة بالعام، هو أثمن أداة، قابلة للتوسيع والانتقال(7). وتغذّي وسائل الإعلام النقاش حول المابعد- حقيقة و وهن الحقيقة (8). وستكون المناسبة مواتية للتذكير بواجب المدرسة وبوصل المعرفة بالحقيقي، وصلا يجعل من” لكلِّ حقيقته” أمرا بعيد الاحتمال. يجب على تكوين الأساتذة علميا وتخصّصيا، والذي قليلا ما نتحدّث عنه، أن يكون، أكثر من أيّ وقت مضى، في المستوى المطلوب. إنّ اقتضاء المعنى الذي ندين به للمضايقة السقراطية التي تدعو إلى “ التفكير المتأنّي”«ralenti de la pensée »، لا بل التفكير ضدّ الذات. لقد كان لسخريّة لابريارLa Bruyère وريثة الحِكمة اللاذعة لهيراقليطس، أثرها المستفزّ دوما وبالتالي الخصب على تلاميذ كسالى:” الجهل حالة مريحة ، وغير مكلفة…”

              لا يتعلّق الأمر هنا بإحياء بقايا ثقافة مدرسية عفا عليها الزمن أو التحمّس للتفكير في المستقبل بمقولات الماضي. لقد ظلّلنا مندهشين، في نظام حداثتنا حيث أخفق مسار الزمن، في واجب الدفاع عن المعرفة والثقافة ضدّ نزعة أكاديميّة جديدة، ليست بأقلّ دغمائية، وغالبا مع الأسف أقلّ معرفة، والتي مثّل عنادها التافه مسرّات وسائل الإعلام. وقد كشف بارط  بعدُ عن انزعاجه من هذا الحذر تجاه “ الثقافة البورجوازيّة…هذا التحصيل حاصل الذي يتسكّع في كلّ الجامعات”. هل يجب إذن، بينما المعنى يحفّه الخطر، أن نمضي الوقت في البحث عن تميّز عن هذا الفخّ الذي تريد الخيول الخفيفة للحداثة أن تحبسنا فيه؟ الحقيقة أنّنا نفكّر و نستمرّ في التفكير في أشكال ذهنيّة موروثة من الماضي. يجب على مدرسة الغد، مثل التي حلم بها دوركايم، وهي أقلّ تهوّرا بكثير من خبرائنا، أن تقدّم دائما  الأدوات لكسر” الكتلة الضخمة من الأفكار الغامضة” (9).

            ولنكتفي مع ذلك بملاحظة، ودون رأفة، أنّ بعض الأعمال الكبيرة ذات الأهميّة في الحقل الثقافي للحداثة، بما فيها وبالخصوص الأعمال المتّصلة بالتفكيك la déconstruction، تظلّ إنتاج عقول تغذّت من هذه المعقولية.

           وإذا ما كنّا نرى، أن دور المدرسة، وأبعد ما يكون عن تأييد القسمة الكارثية بين بارع في الرياضيات وجاهل وبين “أديب” يشمئزّ من الأعداد، بل هو أن تمنح أفقا لمعنى موسوعي، فإنّه يكون من الملحّ التفكير في وسائل إختصار(10) المعرفة بقدر ما تزداد، وفي استغلال أفضل للروابط الذكيّة التي تيسّر المرور من تخصّص إلى آخر(11)، وفي تشميل ورسملة أفضل للمعرفة المحصّلة في الابتدائي لفائدة الإعدادي وهلم جرّا؛ في وقت يعيش فيه التلاميذ والمعلمون الانتقال من مرحلة إلى أخرى كتخمة. 

            وبالمثل يجب طرح مسألة المواد الاختيارية options les دون أن نترك أنفسنا رهينة ابتزاز لهذه الطائفة أو تلك، ذلك أنّ منطقها غير المتناسق يلبس علينا الرهانات. إذ، ما هي في النهاية المعايير التي تقرّها عملية ضبط الخيار optionnalisation  لفرع من المعرفة ؟ إمّا التلاؤم داخل باراديغم محدّد للتخصّصات، أي اختيار هذه اللغة الحيّة بدل أخرى، أو هذا الفنّ التشكيلي مثلا. وإمّا الجِدّة : فقد يُقترح، كاختيار، تعليما يدمج معرفة جديدة في مجموع التخصّصات الموجودة؛ أو أيضا اختصاصا ضروريا لفرع معرفي قديم. غير أنّ مثل هذه الممارسة تشير بذاتها إلى حدودها: لا يمكننا إلى ما لا نهاية أن نهب ساعة أو اثنان لمادّة اختيارية لكلّ معرفة مستجدّة. يجب أن ندمج جيّدا ونصهر التخصّصات، في إطار معرفة موحّدة حول ” موضوعها”point ، ذلك أن التماسك العضوي لهذا الموضوع هو الذي يمنح مفتاح معارف أخرى أو معارف جديدة. إنّه لأمر ملحّ أكثر من أي وقت مضى أن نميّز بين وضعية ومحتوى التخصّصات وما يسمّيه سيناك Sénèque” الشغف العبثي بالأشياء السطحيّة”. لقد اقترحنا من جهتنا خلق تخصّص جديد ، يدمج اللاتينية ، كلغة قديمة للفرنسية، مسمّاة ” فرنسية مدروسة”  français raisonné، من أجل  إعادة تأسيس تعليم الفرنسية على قواعد علميّة وتاريخية وأدبية (12). ومن المذهل سماع تذمّر مدرّسين من أنّ وزارة التربية “لا تقول شيئا” بشأن الانحباس الحراري (13). ألا يوجد فعلا مدرّسي علوم الحياة والأرض؟ هل يجب إيجاد “اختصاص” جديد، واختيار جديد حتّى تقع معالجة مسألة المناخ في الأقسام؟

              ليس التعلّق برهان العقل أن نستسلم للتخويف الذي يحدثه تضخّم اللغة الخشبيّة التي تضاعف التركيبات اللغوية syntagmes حول العبارة المشهورة” تعلمّ التعلّم “«Apprendre à apprendre». . يكفي أن نسوق بعض الأسطر لمونتاني، الذي قرأ لسيناك Sénèque والذي بدوره انخرط في مدرسة سقراط كي يدرك مقدار ما يمثّله   تفكير انعكاسي، بل حمل التلميذ على” دمج” المعرفة، و”الاقتران بها”، وجعلها معرفته، وأن يردّ إليها “جوهرها”ليتأكّد من “ أنّه يعرف أنّه يعرف”. إنّ الحكاية التي  يرويها مونتاني مضحكة ومعبّرة، إنّها بمثابة خرافة تستبق سوء استعمال الحاسوب، وكثير من قطاعات الرقمي المؤثّر، والذي على المدرسة تأمّله… إنّها حكاية هذا الروماني الغنيّ الذي تعهّد بأن يحيط نفسه بأناس واسعي المعرفة، استأجرهم حتّى يأخذوا مكانه في حال نقاش مع أصدقاءه و” وأن يكونوا جميعا على استعداد أن يقدّموا له، هذا خطابا والآخر بيتا من شعر هوميروس، وكلّ بما في جرابه؛ وكان يعتقد أنّ هذه المعرفة تخصّه لأنه راعيهم”.(14)… علينا أن نلاحظ أيضا أنّ متجر المدرسة لتجبير العظام على أحسن حال، مع تضخّم بالخصوص للكتب المدرسية المستعملة، والبطاقات والوصفات الجاهزة من كلّ لون، والتي يقذفها بقوّة سوق النشر. وإذا ما وجد ميدان ما نودّ أن نسمع فيه أكثر، مَنْ يقسّم إلى نصفين مدرسة ينظر إليها على كونها “جدّ أكاديمية” وجدّ معيارية، فهو صاحب هذا الانتفاخ المنهجي الذي يملئ الرؤوس حشوا بدل أن يغذّيها، بهذه المؤلفات الصغيرة التي تزعم امتلاك ” مفاتيح” هذه المعرفة أو تلك، ويقتصد في المنهج الحقيقي: الطريق بعد أن سلكناه.

            تساهم مسألة اللامساواة في طمس أفق معنى المدرسة. ويحقّ لنا أن نؤكّد في هذا المستوى كيف أنّ الجهاز المدرسي قد شهد ثمرة دَمَقْرَطَة عاجزة بداهة عن تجنّب خطر آثار إعادة إنتاج اجتماعيreproduction sociale، دمقرطة انقلبت على هذا الجهاز.(15) لن نعود على استنتاجات أعمال بورديو” مهما كانت الانحرافات وسوء الفهم الذي أوجدته (16)، فلها على الأقلّ فضل بيان أنّ سلطة الاستحقاق الجمهوري  la méritocratie” الميريتوقراطيا”، وتساوي الحظوظ، و”  سرّ لامساواة عادلة” ، لن تقضي في مجال المدرسة على ما يشكّل مَهَمَتها (17). فضلا عن أنّه لا يجب الخلط بين الفشل الدراسي و فشل المدرسة واستخلاص العبرة من أنّ المدرسة الحالية ما تزال جدّا نخبويّة، ممركزة أكثر على الكتابي- ولم لا على الشفهي، إذا ما ظللنا نرقب كل علامة خارجية لـ”تمييز“(18)…

            ذلك أن كلّ ثقافة تجد نفسها إذن، فاقدة للمشروعية، وللأهلية، هذه الثقافة التي يمتنع كثير من أصحاب الرخاء الثقافي، الخاضعين لمناخ العصر،عن الدفاع عنها، مفضّلين الصمت الخجول عن مناهج دراسية وجامعية تقليدية ضرورة، والتي يدينون إليها، ولو جزئيا، بحريتهم في الكلام وامتيازاتهم الاجتماعية. كم هو كثير الحدّة ” النقد اللاذع” للروائي بيار بارجونيو في مقالته النقدية لـ” وهم معهد موحّد”- درّس فيه طيلة ثلاثين سنة- وكانت النتيجة المريعة وفق نظره، أن يجد نفسه في مواجهة ” الًوًرَثة“، في فضاء القسم، ولإذلالهم أكثر يقول سقط النظام، مجبرين أيضا، على قضاء سنين طويلة في مدرسة يدركون أنهم لا ينتظرون منها شيئا، ما عدا همجية تحتلّ باستمرار الصفحات الأولى للجرائد. وجدير بالعناء ذكر ثورة غضب بارجونيو على اللهجات الهيرسمية érasmie  (نسبة لإيرسم الكاتب الهولندي الساخر) والهيقولية (نسبة لهيجو وأسلوبه المزوّق) hugoliens، التي تغذّيها أيضا مرارة من أدرك أن عاطفة المساواة السياسية الحقيقية ليست محرّك إصلاحيي المدرسة réformistes de l’école:” إذا وجد شيء ما يدهشني ويحزنني، فهو الحطام الذي نصنعه بأعظم أثر للنموّ الذي هو الطفل الصغير. إنّ أروع ما شاهدت على الإطلاق، وفي نهاية الأمر، هو ذكاء الأطفال(…) يوجد شيء ما فاسد في هذه المملكة، فلمدة خمسة عشر سنة، أصبح كثير من الأطفال، وبإجراء المعهد الموحّد، وبالعبقرية التي يفصحون عنها، جهلة وحمقى ومنبوذين من النظام الاجتماعي.” (19). ويرفض بارقونيو مع ذلك بكل قواه منعرج مدرسة تتخلّى عن المساواة البيانية، بدعوى التكيف مع المجتمع الواقعي وتصبح شريكا في تخريب نفسها. 

           مدرسة ” تجد دوما معناها مثل مستوى الماء” (20)

   يمكن أن نذكّر ببعض البداهات المتينة،  دون أن نقلّل من شأن  الصعوبات التي تعترض المدرّسين اليوم. تحديد ما يمكن أن يكون،” رغم كلّ شيء“، أستاذ جيّد. سأعرّفه بكلّ سرور – والتلاميذ أيضا من جهة أخرى، بل وبالخصوص، الأكثرهم عوزا ، أولئك الذين لا يتيهون عن هذا الأستاذ – سأعرّفه مثلما يعرّف سان جان بارس الشاعر:” شغله الشاغل بيننا: توضيح الرسائل”(21) لقد اعتقد ميشيل فوكو في صفحات لاذعة من ” أقوال وكتابات”، أنّه يحيل نهائيّا صورة المدرّس على المتحف (22)، بعدما وُظٍّف بورديو بتهوّر لإزالة ، ما يمكن اعتباره كاريزم المدرّس. ويرسم رولان بارط، تقريبا في نفس الفترة وعلى نحو غريب، وهو مع ذلك أقل من يُشتبه في تحالفه مع ” التقليد”، صورة الأستاذ في الجسم الحيّ، بمهارة نادرة: إنّه من يَهِبُ، وهو الذي، ” ببيانه الكامل ديداكتيكيا، يعلّم نفسه ما يفترض أن يبلّغه للآخرين”. ويتابع، وفيّا تماما لمونتاني:” يضيء الجوهر الهيراقليطي للمعرفة لغاية وحيدة وهو أن نتمكّن من أن نمرّ منه ونسكنه نحن ذواتنا” (23).

          نقدّر إذن كم يظلّ التحدي البيداغوجي الكبير هو تحدّي اللغة، تحدّي من يعلّم بوضوح في لغة ثقافة هذه الكلمات الكثيرة،أنّه لا يجب أن نغفى في اللغة.(24) هذه الكلمات التي تتغذّى منها كلّ تخصّصات الذاكرة واللغة، والتي تحمّل المسؤولية لكلّ الأساتذة، ذلك أنّ كلّ التخصًصات هي أوّلا ” نصوص”. لهذا السبب يجب أن تظل اللغات القديمة أولا دروسا تتسمّع اللغات، وتساهم في رحلة المعنى هذه، في الزمن الذي يسمح لميشيل سار بالقول:” طاليس وديمقريطس ،معاصريّ”.  وما ينجرّ من احترام للنّحو، الوعي الانعكاسي والمدلّل للغة، يثير الروح الخفيفة للاعتباطي الثقافي المرتبط مثلا بمقولة ” الفرنسية السليمة“. تسمح هذه الكلمات القديمة التي لابدّ أن يساند الحفر فيها أساس الفهم، ومنذ المرحلة الإعدادية بالتحديد، تسمح بتحكّم أفضل بالإطار الاجتماعي؛ هذه الكلمات من قبيل: مدرسة، مترشّح وممثّل القسم، وتصويت، واستفتاء، وديمقراطيّة، وانتخاب،  كلمات تشير إلى العيش معا le vivre -ensemble ،وتندرج في الدلالية اللاتينيّة وترسم بعدُ المشهد السياسي للمواطن المستقبلي. لنأخذ مثلا الشحنة الدلالية الإيتيقية في هذه الحالة، لكلمة مترشّح candidat…بيد أنّ تلاميذ الإعدادي والثانوي لا يقيمون في هذه اللغة التي، هم مع ذلك، يتكلّمونها يوميّا، بل يستعملونها آليا فحسب، بحكم العادة. وقل نفس الشيء فيما يخصّ الألفاظ التي تشير إلى تخصّصاتهم : تاريخ وجغرافيا ورياضيات وفيزياء. يبدو لي أنّ عرض معجم هذه الكلمات سيكون بالنسبة إلى الأستاذ طريقة في تعرّف التلاميذ على رهانات تخصّصهم، وفي أن يكسّر منذ البدء، تعتيما هو بالخصوص مُجْفِل، بحيث نفعله تحديدا كما لو أنّ اللفظ بديهي. بيد أنّ الدرس في المدرسة هو أن لا شيء بديهي، وانّ كلّ شيء يُكتسب ويمرّ عبر الحياد: لا يوجد ما هو” طبيعيّ “في الثقافة. إنّ مقولة الغيريّة التي يحكم عليها داريدا بأنّها قد ” بليت”من فرط استعمال غير مدروس، لا يجب أن تقودنا إلى باراديغم أو نموذج إرشادي جديد في تعليم البشرية تحت غطاء إعادة إحيائه.

          بالفعل، غالبا ما يسير الانعطاف الأنتروبولوجي وأزمة المعنى معا(25). وأفضل طريقة لاحترام الذاكرة الثقافية للآخرين، هي القيام بتقاسم المشترك كي نعيش بذكاء مع واقع المدرسة، تقاسما لا يقوم على جعل تعدّد الثقافات في الواجهة. يجب أن يكون لنا تصوّر غريب قد أتجرّأ على وصفه حقيرا، عن تلاميذ السكان المهاجرين، كي نتخيّل أنّه عليهم الإحساس بالإهانة  بدراستهم اللغات والآداب الفرنسية والأوروبية، بدعوى أنّها ليست من “تراثهم،” وأن يكون لنا قدر من السذاجة الوقحة حتّى نريد ” لاأوربة “dés-européaniser الإرث الإنساني كما لو يوجد تناقض إبستيمولوجي أقلّ بين تعلّم لغة  ثقافة مثل العربية مثلا وتعلّم لغة ثقافة كالفرنسية (26). ذلك أنّه من الجيّد معرفة ما نتكلّم ، وبقدر ما نتمسّك برهان العمق، وسعة الوقت، عامل تلاقح خصب ، بقدر ما يكون التلاميذ أحرارا في الإقامة بكلّ حريّة في “بيت ثقافي” مشترك. 

    

  درس المدرسة أن لاشيء  واضح بذاته، و كلّ شيء يُكتسب ويمرّ عبر الحياد

            إنّ حرب الذاكرة في المدرسة قد يضعنا باستمرار أمام خطر تحريض الظلم العالمي ، ظلما يحسّه السكّان الذين لها صلة مباشرة بالنزاعات، أوبإغفال التربية القومية، في إدارتها مثلا لانعكاسات الهجوم على صحيفة “شارلي إبدو”. كان لا بدّ من التأكّد أنّ إدانة هذه المجزرة هي بالإجماع، صارمة؛ لكن كان يمكن لتلاميذ مسلمين أن تصيبهم صدمة من كلام غير مسئول، يحذّرهم على نحو ما من تقاسم إجماع يجد في الرسوم الكاريكاتورية المنشورة أمرا عاديا وممتعا. بيد أنّه، إذا كان من الواجب أن تكون المعرفة التي تقدّمها المدرسة الجمهورية لائكيّة، فلن نعرف كيف نلزم ضمير تلميذ بأن يجاهر بمبدأ لائكيّ متحرّر. وبما أنّ فولتير ومعاركه من أجل الحرية قد  جنّد بالمناسبة ، فإنّه لا يمكن لمدرستنا أن تنال الشرف، دون اهتمام بالتقدير والعدالة في آن واحد، واستدعاء نصوص أخرى لنفس الكاتب (فولتير)، حيث يدين بعنف نادر ” الإفراط المريع للنقد الساخر” ، و” الكراهية ” التي يمكن أن يسبّبها.

           يجب على المدرسة، كي تتخلّص من التعاطف السيئ لهذه النقاشات اللامتناهية حول النسبية والكوني، وحول الآخر والذات عينها، أن تتغذّى، ” في طبق مثالي”، من كوني المعنى حيث يبقى من الممكن وضع تحالف المعرفة والحقيقة. هنا أيضا، يأتي مونتاني وهو مع ذلك بطل النسبية الثقافية، لنجدتنا ! إنّ ما تثيره قراءة ” المحاولات” Essais من ابتهاج أخلاقي وفكري، لهو آت تحديدا ممّا تُوحيه من اليقين من أنّنا نستطيع، بل يجب أن نحيا بكامل وعينا وفي نفس الوقت في مسافة من الذات. كذلك الشأن في إدانته للتعذيب، وللإعدام أو خدعة تغطية  قاض بحكم سلطته عن أبشع الشرور. ما أروع هذه الحكمة لراهن ساخن غداة غزو العراق:” لا يمكن تصوّر وجها للأشياء  أكثر بشاعة من تبرير الشرّ ولبس عباءة الفضيلة بموافقة القاضي ومباركته.” علينا قراءة مونتاني في المدارس لأنّه أيضا من بين هؤلاء الكتاب الذين يحسنون إثارة الإحساس بالإعجاب، إحساسا نحرم التلاميذ غالبا من أن يعيشوه، حينما نضعهم قبالة ما لا طعم له وغير مشوّق ” موضوعات الدراسة”. كما يبدو لي أنّه من الضروري التخفيف من  البرامج ، مخزن ذاكرة المدرسة، وإعادة النظر مثلا في مردوديتها و حقيقة جدارتها، هذا الجانب من البرامج أو ذاك- يحلم جوليان قراك  بتاريخ للآداب لا يشار فيه إلاّ إلى ” تواريخ الانتصارات”…-،وفضلا عن ذلك يجب أن يجعلنا الانشغال بـ” ثقافة مشتركة”، صامدين كي تستمرّ الوجوه النيّرة للإنساني ،” الإرث النوعي للعالم“، كما يقول مالارمي، في إعطاء المثال لإستراتيجيات” صغار الأطفال الرائعين للجيل الواقعي الجديد”، الذي أشار إليه بارنانوس، المغامر دوما…

          لم تصلح المدرسة، إذا لم يكن على جبهتها البيداغوجية أن تجابه التهديدات التي تثقل الظلّ الإنساني ، بعلاج صدمة، مرّة واحدة وإلى الأبد.  لقد تخيّل “أوفيد” Ovide وهو يتأمل الاستثناء الإنساني، عظما رائعا، رافعا وجهه إلى السماء، مستبقا بعبقرية فذّة استنتاجات الأنتروبولوجي  أندري لوروا- قورهان…يمكن لأزمة المدرسة أن تكون مناسبة لإعادة هيكلة قد تجعلها مخبرا تجريبيا ، حيث يتكاتف العقل والإيتيقا ، لينتجا  تطهيرا، لا بل انضماميّة للفكر، في خدمة الغائية، مجموع عاقل جدّا، أشار إليه مخطّط لونجوفان – واللّون Wallon:” ارتقاء مستمرّ للمستوى الثقافي للأمّة“. وسيكون دور المدرسة على الصعيد الوطني تحفيز المنذرين ، الموقظين” للّساهين”كما يقول فالير نوفارينا. ذلك أنه ليس محكوما على المدرسة أن تعيش الحداثة كهزال للفكر والذاكرة. وطموحات علم الحياة الذهنيّة، في جعل حتّى ” لامرئي الفكر في النهاية، مرئيا كجمجمة مفتوحة “، طموحات فكّك رموزها ستانيلاس دوهين في رسم خرائطي للدماغ ، لا تكفّ وظيفته عن ” إشباع الماضي للتطلّع بشكل أفض إلى المستقبل“(28).يجب أن نقدّر أنّه إذا ما استمر الخطاب الراهن عن المدرسة، في الانزلاق في النقاشات ذات الطابع السوسيولوجي أو التقنوي أكثر، وإذا ترك الخيط الرفيع للمعنى ينفلت منه، فإنّه يهدّد بخطر نسياننا. وربّما يجدر بنا التفكيرفي الـ “أنا أتهم” الثقافي لرونيه شار في ” المكتبة تحترق“، “ّ إنّ جريمتهم : إرادة خانقة في تعليمنا كره الإله الذي فينا”(29).

  مجلّة ” فكر” سبتمبر 2019  عدد898                

الإحالات:

1- مونتاني ” الأعمال الكاملة”  لابلياد 1963 ص 150

2- هوسرل” أزمة العلوم الأوروبية” 1936 قاليمار 1989

3- بيار بارقونيو” المدرسة : مهمّة منجزة” مقابلة مع فريديريك سيرياز “الحقول العادية “2006 ص108

4-مارسال قوشي… ” من أجل فلسفة سياسية للتربية ” 2002 فايار ” متعدّد” 2013 ص 37

5- جزن كلود ميلنار ” عن المدرسة ” باريس سوي 1984

6- جيرار لونكليد ” الكونية أو رهان العقل ، انتروبولوجيا ، تاريخ ، بسيكولوجيا” قاليمار /سوي 2013 ص309

7- ناتالي بول” المدرسة وضعفها، محاولة في التطور البيداغوجي في فرنسا” هارمان باريس 2009

8- ماريام ريفوداللون” ضعف الحقيقي ما تفعله المابعد حقيقة في عالمنا المشترك . باريس سوي 2018

9-دوركايم ” المدرسة مسالة فلسفية”فايار باريس 2013 ص 288

10- فهم  عبارة ” اختصار ” بدلالة ليبنتز في ماتيزيس اينيفارساليس  : العلم الحقيقي منبع للإختصار …

11- ادغار موران ” حوار حول المعرفة حاوره تلاميذ . باريس الفجر 2011

12- سيسيليا سوزوني و هلبرت أوبالت ” دون اللاتينية … باريس فايار 2012 ص 396.

13- تبرع المدرسين من اجل كوكب الارض ” سياسة” ( مجلة عدد 20-26 جوان 2019 ص 10)

14-  مونتاني ” العمال الكاملة”

15- مارسال قوشي ” من اجل فلسفة سياسية للمدرسة

16- جورج ساندرس ” المدرسة ، القسم وةالصراع الطبقي” باريس بيف 1976

17-  جريدة العالم” 21 جوان 2019 حول تجمع تلاميذ سان سان دونيس.

18- انظر النقاشات الناتجة عن حذف امتحان الكتابي للعلوم اقتصادية  في الباكالوريا

19- بيار بورقونيو ” المدرسة : مهمة منجزة” ص80

20- فكتور هيجو : تاملات” 1856 ، جزء 1، 7.

21-سان جان بيرس ” رياح” جزء 2 ،6 قاليمار 1946

22- فوكو” اقوال وكتابات” جزء 1 قاليمار 1989 ص 1279

23-بارط ” تعلم التدريس” 1975″ محاولات نقدية ” 4 سوزي 1986 ص 206

24-ميشيل سار” الثالث المتعلم ” باريس قاليمار 1992

25- جون فرانسوا ماتيي ” محاكمة اوروبا ” بيف 2011

26-انظر سيسليا سوزوني ” مستقبل العربية في المدرسة” مجلة فكر نوزفمبر 2018

27- فولتير ” ذاكرة النقد الساخر” في الاعمال الكاملةو ص 164

28- ستانيسلاس” نحو علم الحياة الذهنية” باريس كوليج دي فرانس فايار 2006- ص 83-86

29- روني شار ” المكتبة تحترق ” في اعماله الكامبلة ” قاليمار .لابلياد ص 382.

إغلاق