سيادة الدول ضمن عالمية المواطنة د زهير الخويلدي
زهير الخويلدي أستاذ مبرز وكاتب فلسفي وباحث أكاديمي – تونس
محاور المقالة:
- المواطنة مصدر السيادة
- السيادة أساس المواطنة
- الدولة العالمية والمواطن العالمي
استهلال:
“إن المبدأ الذي تنتمي من خلاله السيادة إلى القانون والتي تبدو به اليوم غير مفصولة عن تصورنا للديمقراطية ودولة الحق لا يلغي البتة مفارقة السيادة وإنما بالعكس يدفعها إلى الحد الأقصى” .
لم توجد نقطة ما تتفق حولها جميع الآراء مثل ضرورة وجود الدولة بالنسبة لكل كيان سياسي معين وذلك لحاجته إلى الوازع الذي ينظم العلاقات بين الأفراد ويحميهم من كل اعتداء خارجي ولكن لم توجد نقطة تثير الخلافات وتضارب الآراء مثل نوع المشروعية التي ينبغي أن تسوغ بها الدولة قراراتها وإجراءاتها وارتباط ذلك بمسائل القانون والمواطنة والسيادة.
غني عن البيان أن مفهوم السيادة يرتبط بالدولة ارتباطا قويا بحيث لا يمكن فهم وجود دولة بدون أن تكون السيادة مرتبطة بها في كل المجالات, وبالتالي فإن السيادة تمثل رمز وجود الدولة وهيبتها. كما أنها المعيار الذي يعطي للدولة حق الشرعية في الحكم وفرض السيطرة أو السلطة الشرعية على السكان أو الشعب. لكن الذي يثير تحديا كبيرا في الفكر السياسي المعاصر هو ظهور مفهوم الدولة العالمية وما تطرحه من تناقضات بين مفهوم سيادة الدول ومفهوم المواطنة. فما المقصود بالسيادة؟ وماذا نعني بالمواطنة؟ وماهي التحولات التي طرأت على مفهوم السيادة؟ وماهي تمظهراتها في الواقع؟ ماهي الأهداف التي تسعى السيادة الى تحقيقها؟ هل السيادة شأن وطني أم شأن عالمي؟ وماهي حقوق المواطنة وواجبتها؟ وكيف تستمد الدول سيادتها من ممارسة الأفراد لقيمة المواطنة؟ ماهي شروط التوافق بين المواطنة الفردية والسيادة السياسية؟ هل أن سيادة الدولة مرتبطة بشكل عضوي بالإرادة العامة والإجماع التوافقي؟ ماذا تفيد فكرة مواطنة عالمية؟ وهل تقوم الدولة العالمية على فيدرالية بين الدول أم على نظام كونفدرالي؟ هل المواطنة العالمية هي فيدرالية بين الدول أم فيدرالية بين المواطنين العالميين؟ أليست قوة الدولة في أن تطلق حريات المواطنين؟ وألا تفرض السيادة العالمية مبدأ احترام قيم المواطنة على كل الدول؟ ألا يوجد تعارض بين الإقرار بسيادة الدولة والدعوة إلى مواطنة عالمية؟ هل من فرق بين الوظيفة السياسية الدولية والوظيفة السياسية الوطنية؟ أليس هناك طمس لفكرة السيادة الوطنية في ظل اعتبار فكرة السيادة العالمية ضمن العولمة المتوحشة؟ فماذا بقي من سيادة الدول في ظل الإقرار بعالمية المواطنة؟
ماهو في ميزان الفكر وما نسعي إلى بلورته هو تفادي النظر إلى النظام السياسي العالمي على أنه مجرد دولة عالمية شمولية تفض النزاعات عن طريق الحرب والتدخل في شؤون الدول عن طريق القوة ومنطق الهيمنة والتنظير إلى سياسة الحضارة التي تقوم على احترام مبادئ التعدد والتنوع والتثاقف والتضامن والاعتراف المتبادل.
1- المواطنة مصدر السيادة:
“لكي يعيش الناس في أمان وعلى أفضل نحو ممكن كان لزاما عليهم أن يسعوا الى التوحد في نظام واحد وكان من نتيجة ذلك أن الحق الذي كان لدى كل منهم بحكم الطبيعة على الأشياء جميعا أصبح ينتمي الى الجماعة ولم تعد تتحكم فيه قوته أو شهوته بل قوة الجميع وارادتهم.”
يمكن للدولة أن تستمد سيادتها من قيمة الموطنة خاصة عندما تتمثل في سيادة الشعب نفسه بنفسه وعندما يتكون الشعب من مجموعة من المواطنين الأحرار الذين يمارسون الواجبات التي عليهم ويطالبون بضمان حقوقهم. لكن على ماذا يتأسس معنى السيادة أولا؟
السيادة Souveraineté لها معنيان:
المعنى الأول: الحق في امتلاك والتحكم في قطعة أرض أو بحر والأجواء المحيطة بها وأعماق البحر وباطن الأرض.
المعنى الثاني هو حق الحكم لفئة ما أو لفرد معين على لمجموعة تستوطن لتلك البقعة الجغرافية.
*السيادة ترتبط بالأفراد نقول هؤلاء الأفراد لهم سيادة مطلقة على أنفسهم أي أحرار في التصرف.
*السيادة يمكن أن ترتبط بالدول نقول دولة ذات سيادة أي كيان له استقلالية كاملة في التصرف في شؤونه الداخلية والخارجية دون تدخل خارجي.
*السيادة يمكن أن ترتبط بالمجموعة الدولية فلأمم المتحدة لها حق التدخل في بعض الدول حسب القانون الدولي من أجل حماية بعض القيم ضد أي انتهاك مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان،نقول إذن إن القانون الدولي له سيادة على كل الدول الموقعة عليه والمعترفة به كقانون دولي.
بيد أن كل ذلك لم يكن ليحصل في تاريخ فهم السيادة الوطنية للدولة إلا بعد التطور التاريخي لمفهوم السيادة . فماهي مختلف التحولات التي شهدها مفهوم السيادة؟
اختلفت آراء رجال القانون والحقوق في تحديد مفهوم السيادة فذهب بعضهم إلى أنها الملك، وقال آخر الشعب، وآخر البرلمان.. فأرسطو يرى أنها السلطة العليا في الدولة، والمفكر الفرنسي جان بودان يفسرها بأنها: “السلطة العليا المعترف بها والمسيطرة على المواطنين والرعايا دون تقييد قانوني، ما عدا القيود التي تفرضها القوانين الطبيعية والشرائع السماوية. “
أما جون أوستن فقد انطلق من ضرورة وجود السيادة، وبالتالي وجود جهة معينة تمتلكها غير مجزأة وغير مقيدة قانونيا لأنها مخولة بتشريع القوانين.
إن السيادة في الملكيات تمثلت في شخص الملك وتمثل عبارة لويس الرابع عشر:” أنا الدولة والدولة أنا” مثالا واضحا لذلك، لقد إعتبر هؤلاء الملوك أن السيادة هي السلطة المطلقة وهي هبة من الله وحق منه وبالتالي فإن عصيانها هو عصيان لله .
من المعلوم كذلك أن الدول الشمولية اتخذت قاعدة مميزة لها وهي أن: سيادة لقوة الجميع فوق الجميع لا تقبل التفاوض ولا تتجزأ وتحكم فوق بقعة جغرافية معينة تسمى أرض قومية. هذه الهيمنة للسيادة الوطنية الممثلة لجميع من يعيش فوق الأرض القومية قد تم إعلانها رسميا في معاهدة وستفاليا عام 1648 والتي قسمت العالم إلى دول ذات سيادة لها الحق في الدفاع عن سيادتها و أمنها القومي بالقوة العسكرية إذا كان هذا التهديد من خارج الدولة أو ناتج من سياسات محليه داخليه ومناطق ليست لها سيادة ويمكن استعمارها واستغلال خيراتها.
وخلاصة هذا الرأي أن السلطة المطلقة قدمت للحاكم على طبق من ذهب ليكون محور السيادة هو الكيان العام، وكل تعدي على هذه السيادة تعدي على هيبة الحاكم وقدسيته، أما الشعب فلا يعدو كونه خادما ومطيعا للحاكم ولجميع قراراته وان خالفت المجموع العام. ولا يستبعد أن يكون هذا الرأي، الأساس الذي ابتنيت عليه مواثيق منظمة الأمم المتحدة حيث نصت الفقرة السابعة من المادة الثانية على ما يلي:”ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرفوا مثل هذه المسائل لان تحل بحكم هذا الميثاق”.
لقد تقوضت تلك السيادة الدينية مع بروز الديمقراطية وصراع الطبقات ومفهوم سيادة الشعب أو خاصة بعد ظهور الفكرة التي ترى أن:” السيادة يجب أن تكون و بشكل مطلق في يد جميع المواطنين بدلا من أن تكون في يد الطغاة”. ما المقصود بالسيادة الوطنية؟
إن تصاعد سلطة القانون والعقل هو وثيق الصلة بمبدأ السيادة (souveraineté) والدولة المدنية، والسيادة تعنى القوة أو السلطة العليا المطلقة في الدولة التي هي فوق الجميع لأنها أصلا من أجل الجميع، تمثل الإرادة العامة للشعب وهي فوق أي إرادة فردية لا تقبل النقاش في حقها حيث تأسست.
إن الرأي الذي دعا إلى سيادة الشعب ويحّمل الحكام مسؤولية أي انتهاك للحقوق، ويسمح للشعب بمقاومة حكامه عند ظهور بوادر انحراف واضطهاد، هو رأي جان جاك روسو واضع اصطلاح السيادة الشعبية الذي يدعو إلى توزيع السيادة بين جميع أفراد الشعب، على أساس المساواة بدون تفريق أو استثناء، إلا ما يكون ناجما عن صغر السن أو فقدان الأهلية أو من جراء الأمراض العقلية أو الأحكام القضائية، بحيث تصبح السيادة في هذه الحالة، سيادة مجزأة بين العدد الأكبر، وبعبارة أخرى فان السيادة هي جمع أصوات المواطنين كافة، لاستخراج الأكثرية منها.
إذ يقول روسو:” حالما يوجد سيد لا وجود بعد لشعب يتصف بالسيادة” ويضيف:”لما لم تكن السيادة سوى ممارسة الإرادة العامة فإنها مما لا يمكن التنازل عنه وان صاحب السيادة – الذي ليس سوى كائن جماعي- لا يمكن أن يمثله غيره: فالسلطة مما يمكن نقله ولكن الإرادة لا يمكن نقلها” ، بعبارة أخرى:” لما كان الشعب صاحب السيادة لا وجود له خارج الأفراد الذين يتكون منهم فإنه لا مصلحة له ولا يمكن أن تكون له مصلحة خلاف مصلحتهم” .يرفض روسو تجزيء رجال السياسة للسيادة تبعا لمصالحهم إلى قوة وإرادة ويتبنى فكرة انبناء السيادة على فكرة المواطنة والإرادة العامة بقوله:” إن السيادة لا تتجزأ لنفس الأسباب التي تجعلها غير قابلة للتنازل لأن الإرادة إما أن تكون عامة وإما ألا تكون كذلك: فهي إما إرادة الشعب في مجموعه وإما إرادة جزء منه فقط. وفي الحالة الأولى تكون هذه الإرادة المعلنة عمل من أعمال السيادة ولها أن تسن القوانين وفي الحالة الثانية ليست سوى إرادة خاصة أو عمل من أعمال الإرادة ولا تكون مرسوما على أكثر تقدير.” فكيف تتجلى السيادة في الواقع الاجتماعي؟
إن تمتع الدولة بالسيادة يعني أن تكون لها الكلمة العليا التي لا يعلوها سلطة أو هيئة أخرى . وهذا يجعلها تسمو على الجميع وتفرض نفسها عليهم باعتبارها سلطة آمرة عليا . لذلك فسيادة الدولة تعني وببساطة أنها منبع السلطات الأخرى . فالسيادة أصلية ولصيقة بالدولة وتميز الدولة عن غيرها من الجماعات السياسية الأخرى . والسيادة وحدة واحدة لا تتجزأ مهما تعددت السلطات العامة لان هذه السلطات لا تتقاسم السيادة وإنما تتقاسم الاختصاص .
ماهي مظاهر السيادة ؟
1- المظهر الداخلي : وهو أن تبسط السلطة السياسية سلطاتها على إقليم الدولة بحيث تكون هي السلطة الآمرة التي تتمتع بالقرار النهائي .
2- المظهر الخارجي : يعني استقلالية الدولة وعدم خضوعها لدولة أخرى. حول هذا الموضوع يقول اسبينوزا:” تكون المدينة مستقلة عندما تستطيع أن تحافظ على ذاتها وأن تقاوم الاضطهاد وتكون تابعة لغيرها عندما تعيش على الخوف من جبروت مدينة أخرى.”
ماهي أهم النظريات التي بينت صاحب السيادة؟
ترجع النظرية الثيوقراطية أولا السيادة لله وحده ، أي أن الحكم والقرار الأول والأخير لله وحده وأن الحاكم الأرضي البشري مطالب بأن يحترم نواميس السماء وما أنزل من شرائع ولكن لتطور الذي لحق بالمذهب الفردي القائم على حق القوى والانتقادات التي وجهت إلي نظرية الحق الإلهي التي تبرر الاستبداد والحكم الفوقي كانت من الأسباب الكافية لظهور أصوات تنادي بأن السيادة الشعب والتمثيل النسبي الحقيقي للناس .
تقوم نظرية سيادة الشعب على أن السيادة للجماعة بوصفها مكونة من عدد من الأفراد ، لا على أساس أنها وحدة مستقلة عن الأفراد المكونين لها . وطبقا لنظرية سيادة الشعب تكون السيادة لكل فرد في الجماعة، حيث إنها تنظر إلى الأفراد ذاتهم وتجعل السيادة شركة بينهم ومن ثم تنقسم وتتجزأ . كما أن للشعب مدلولان: المدلول الاجتماعي ويشير هذا المدلول إلى كافة الأفراد الذين يقيمون على الإقليم، والذين يتنسبون إليه عن طريق تمتعهم بجنسيتها . ومدلول سياسي يشمل الذين يتمتعون بالحقوق السياسية ، وهم مجموع الناخبين.
يمكن نقد فكرة سيادة الشعب لكونها تجسد علاقة التبعية بين النائب والناخب وحتى العلاقة التمثيلية لا ترتقي إلى درجة التمثيلية الحقيقية. لذلك عند فوكو “ترتبط السيادة بشكل من أشكال السلطة التي تمارس على الأرض ومنتجاتها وخيراتها أكثر من ارتباطها بالأجساد وما تقوم به” من أنشطة. وقد بقيت نظرية السيادة وسيلة نقدية موجهة دائمة ضد الملكية ومبدأ منظم للقوانين التشريعية الكبرى التي تسمح بتركيب آليات المجتمع الانضباطي. ويضيف في هذا السياق النقدي:” إن الأنظمة التشريعية سمحت بنوع من ديمقراطية السيادة الجماعية في الوقت الذي وجدت فيه هذه السيادة مثقلة في عمقها بآليات الإكراه الانضباطي.”
” ان السلطة انتقلت من مركزها السياسي التقليدي وهي الدولة إلى مركز جديد اقتصادي هو السوق، وتراجعت قوة الدولة الوطنية أمام قوة رجال المال بحيث صرنا نتحدث عن الدولة الرخوة التي غيرت وظيفتها من السيادة والتحكم والمبادرة إلى التنظيم والتوجيه والمسايرة” .
ألا تلعب نظرية السيادة المعولمة دورا إيديولوجيا؟ ما الفرق بين السيادة المطلقة والسيادة المحدودة وبين سيادة الدول وسيادة الأفراد؟ في هذا السياق يقول ريكور:” صاحب السيادة ينزع دوما إلى ابتزاز السيادة ذاك هو الداء السياسي الجوهري.” فهل يؤدي الإقرار بفكرة السيادة العالمية إلى طمس فكرة السيادة الوطنية؟ ألا يوجد تعارض بين سيادة الدول وفكرة المواطنة العالمية؟
2- السيادة أساس المواطنة:
” لا يمكن أن نحدد الديمقراطية بطريقة بسيطة فسيادة الشعب المواطن تتضمن في نفس الوقت التقنين الذاتي لهذه السيادة عن طريق طاعة القوانين وتحويل السيادة إلى المنتخبين” .
يفترض أن تتحول السيادة بدورها إلى إطار عام تتحقق فيه قيمة المواطنة خاصة حينما يتعلق الأمر بالسيادة العالمية في ما يتعلق بالإدارة السياسة للكوكب من طرف هيئة تنسيقية تمثل الحكومة العالمية، لكن قبل ذلك من هو المواطن؟ وماهي صفات المواطنة؟
إذا عدنا إلى المفهوم الاشتقاقي لكلمة مواطن فإن هذه الكلمة في اللغة الفرنسية يمكن تعريفها من خلال اشتقاقها اللغوي ” Civitas” اللاتينية المعادلة لكلمة « Polis » اليونانية ومعناها المدينة كوحدة سياسية مستقلة فالمواطن ليس فقط ساكن المدينة ففي روما و أثينا لا يتمتع كل السكان بصفة المواطنين.
إذا كان مفهوم المواطن قديما حكرا على فئة قليلة من الناس احتكرت لنفسها حق السيادة على الشعب لتجعل من العامة أداة استغلال وترفيه بينما تتركهم يعيشون كالسوائم. مستعملة في ذلك الحق الإلهي وقد استمر هذا الوضع إلى أن ظهر العصر الحديث منفتحا على حقيقة جديدة و انطلاقا من فلاسفة عصر الأنوار من أمثال روسو و لوك ومونتسكيو.. واعتبروا أن الحقوق تعود إلى الإنسان بمجرد ولادته وهي حقوق طبيعية في المساواة وفي الملكية والعدالة. و أعلنوا أن المواطنة حق للجميع وليست وقفا على فئة و أنهم سواء في إدارة الشؤون العامة و جاء في تعميم المواطنة في أول وثيقة رسمية هي “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” الصادرة سنة 1791 كانت غايتها وضع حد لمصادرة الإنسان في شخصه وأمواله و حريته من قبل الحاكمين و إغفال مبادئ الحرية و المساواة والحق في التملك.
غير أن ما يجب الانتباه إليه أن مفهوم المواطنة صفة تطلق على من يحيا في ظل نظام ديمقراطي يجعل الحياة حرة وكريمة وآمنة وأن مصطلح المواطن نفسه يرتبط ضرورة بمفهوم الدولة. إذ لا يمكن الحديث عن المواطن خارج الدولة رغم أن الحقوق التي يتمتع بها المواطن داخل الدولة سابقة على وجودها، إنها حقوق طبيعية تخص الإنسان بوصفه إنسانا و هي حقوق مقدسة لا يمكن التنازل عنها لأنها ترتبط بجوهرية الإنسان. حتى أنه وقع الربط بين حقوق الإنسان و المواطن ذلك أن احترام حقوق الإنسان ضروري لممارسة حقوق المواطن. وعندما نلاحظ المادة الثانية لإعلان حقوق الإنسان “إن هدف كل تجمع سياسي المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية الدائمة…” إن ما تبلغه هذه المادة أن الإنسان لم يوجد من أجل الدولة كما أعتقد هيجل بل جعلت الدولة لخدمة الإنسان.
تظهر علاقة الدولة بالمواطن عندما يتأسس الجسم السياسي على مبدأ “العقد الاجتماعي” حسب جان جاك روسو الذي نراه يقول:” ما العمل مع دولة تضم عدة مدن؟ هل تقسم السلطة السيادية؟ أو هل يجب تركيزها في مدينة واحدة وإخضاع المدن الباقية لها؟
وأجيب بأنه يجب ألا نفعل هذا ولا ذاك. فأولا السلطة السيادية بسيطة وموحدة ولا يمكن تقسيمها دون تدميرها. وثانيا لا يمكن شرعا إخضاع مدينة لأخرى ، كما لا يمكن إخضاع أمة لأخرى، لأن جوهر الجسم هو في التوافق بين الطاعة والحرية، وأن كلمتي الرعايا ومعقد السيادة ذاتا ومعنى تلتقي فكرتهما في كلمة واحدة هي المواطن. “
عندئذ يكون المرء مواطنا من جهة مشاركته في سلطة السيادة أو ما يطلق عليه بالحقوق، وهو يتميز عن الرعايا لأن ما يقصد بالرعايا فيعني الحالة التي يكون فيها المواطن خاضعا لقوانين الدولة وهو ما يعبر عنه بمسألة الواجبات.فالمواطن من هذا المنطلق هو فرد يندرج ضمن الدولة وهو مثلما له حقوق له واجبات وهو مثلما يكون حرا وسيدا يكون في نفس الوقت مطيعا للقوانين وخاضعا لها.
غير أن خضوع المواطن للقانون لا يعني أن المواطن قد سلب حريته لأن مفهوم الحرية عند روسو يقترن بالقانون “فولدت الحرية يوم ولد القانون” وبالتالي خضوع المواطن للقانون لا يعني أنه فقد خاصية الإنسانية الحقيقية فهو:”إذا منح كل واحد نفسه للمجموعة كلها فإنه لم يمنح نفسه لأحد.” لأنه في نهاية المطاف لا يخضع لسلطان أحد وهو بهذا يحافظ على حريته.
إذا كان تأسس الدولة قد اقترن بضرورة حماية الحقوق الطبيعية وتحويلها إلى حقوق مدنية تتجلى في فكرة المواطن إذ يجعل اسبينوزا من تأسيس الدولة غاية محددة وهي تحقيق الحرية إذ يقول في هذا السياق في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة: “إن غاية الدولة لا تتمثل في جعل البشر يمرون من وضع الكائنات العاقلة إلى وضع السائم… إذن فغاية الدولة في الواقع هي الحرية .”
لكن كيف ينعكس هذا التحديد للمواطن على تعريف المواطنة؟
المواطنة Citoyenneté كما تصورها الإغريق صفة يتصف بها الإنسان الحر الذي يقيم في المدينة التي يمتثل فيها إلى القوانين ولا إلى أهوائه أو نزوات طاغية يحكم الدولة. وهي تقوم على اعتبار جميع البشر متساوين وأحرار ولكنها تستثني العبيد والأطفال والنساء وتربط ذلك والحرية بالتعقل.ويرتبط هذا المفهوم بأساس فلسفي قديم، يعود إلى ظاهرة المدينة- الدولة التي تكونت في اليونان بعدة قرون قبل الميلاد. والمواطنة ترجع إلى مفهوم اليونان حول الـ (POLIS) بمعنى البلدة أو المقاطعة، أو المدينة، أو أيضاً تجمع السكان أو الأفراد الذين يعيشون في تلك المدنية وعلاقاتهم ببعضهم، وهي الوحدة الأساسية في التكوين السياسي. وفي الأصل، فإن المواطنة مقابل الغرباء، في المدن الإغريقية القديمة، هي المناخ الذي ولدت منه المعادلة الثانية، الأحرار (المواطنون) والعبيد (الغرباء) وليس العكس. فقد وجد (المواطنون) اليونان في مواطنتهم الأصلية مادة لتمييزهم ضد الآخرين، واشتقوا من ذلك قوانينهم التي استمرت مع الرومان سادة التشريع الأوائل في هذا المجال.
يعتقد عامة الناس أن المواطنة تتلخص في الحضور المادي في بلد ما أو أنها تتلخص في مجموعة من الحقوق التي لا يقابلها أي التزام. وهذا الاعتقاد خاطئ لسببين أوّلا لأنه يقوم ضمنيا على خلط بين المواطن والمواطنة. وثانيا لأنه يخلط بين المواطنة وأصناف الانتماء الأخرى سواء كانت ثقافية أو دينية أو إيديولوجية أو اجتماعية. في حين أن فهم المواطنة يقتضي تحديدها في علاقاتها بالسيادة السياسية وبالديمقراطية وهو ما تفطّن إليه أرسطو عندما أقرّ “المواطن كما حدّدناه هو على الخصوص مواطن الديمقراطية” والديمقراطية ليست شيئا آخر عدا سيادة الشعب للشعب، وهذا يعني أن المواطن هو عنصر فاعل في الحياة العامة، عنصر فاعل في المدينة.
مفهوم المواطنة يقصد به حقوق وواجبات الأفراد والجماعات داخل الدولة بمفهومها الحديث وظهر كنتاج لعصر النهضة والتنوير اللذين سادا في أوروبا في القرن السابع عشر، وعلى أنقاض حكم الإقطاع المتحالف مع الكنيسة الكاثوليكية. أما فيما بعد، فإن مفكري عصر التنوير طرحوا العقد الاجتماعي الذي يقوم ما بين أفراد المجتمع والدولة أو الحكم، وعلى آلية ديمقراطية تحكم العلاقة بين الأفراد أنفسهم بالاستناد إلى القانون. وعليه فقد ساد مفهوم المواطنة، حيث تحول المواطن إلى ذات حقوقية وكينونة مستقلة، بعد أن كانت القبيلة أو العشيرة أو الوحدة العضوية هي ذلك الإطار، الذي ترتبط علاقاته بالآخرين بناءً على موازين القوى ومنطق القوة أصلاً. ومع انتصار الثورة الصناعية البرجوازية وتحرير الأقنان والعمالة الزراعية لتظهر طبقة عامة رثة في المصانع، ولتأخذ القضية شكلاً جديداً هو الحقوق المدنية في الدساتير مع استمرار استغلالهم واضطهادهم في الواقع.
إن المفهوم الحديث للمواطنة تطور مع الدولة الحديثة التي تعتبر لنفسها السيادة المطلقة داخل حدودها، وان أوامرها نافـذة على كل من يقطن داخل تلك الحدود الجغرافية. لكن ومن اجل منع استبداد الدولة وسـلطاتها فقد نشأت فكرة المواطن الذي يمتلك الحقوق غير القابلة للأخذ أو الاعتداء عليها من قبل الدولة. فهذه الحقوق هي حقوق مدنية تتعلق بالمساواة مع الآخرين وحقوق سـياسية تتعلق بالمشاركة في اتخاذ القرار السياسي، وحقوق جماعية ترتبط بالشئون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
استناداً لما سبق، أصبحت قيمة المواطنة هي الآلية للحد من الصراعات الإثنية، والعرقية، والاجتماعية، والجنسوية، على قاعدة مبدأي عدم التميز والمساواة. في هذا الإطار يصرح اسبينوزا:” ينبغي أولا تأسيس مدينة أو أكثر وتحصينها وأن يتمتع جميع المواطنين سواء أقاموا داخل الحصن أو خارجه لانشغالهم بالفلاحة بنفس الحقوق الوطنية وذلك بشر” أن يكون لكل مدينة العدد الكافي من الموطنين للدفاع عنها وعن المجموعة العامة” .
لقد وقع توسيع مدلول المواطنة فيما بعد لتتجاوز هذه الصفة دائرة المدينة الدولة نحو المواطنة العالمية وهي صفة تلتصق بإنسان يقطن هذا العالم ويتساوى مع الآخرين في هذه القيمة الإنسانية. لقد أضافت نظرية المواطنة في الفكر الحديث إلى الإنسان الحر والعقلاني الإغريقي منظومة القيم الحقوقية الكونية التي تجعل الناس جميعا يتمتعون بحق العيش بكرامة وحرية ويتساوون في الحقوق والواجبات وخاصة الحق في انتخاب الحكام ومن ينوبهم في تصريف شؤون الدولة والحق في الترشح للمناصب الرئاسية ومختلف الوظائف الموجودة في المجتمع دون أي تمييز وكذلك الحق في مراقبة آليات الحكم ومناقشة تدبير شؤون المدينة مع بقية المواطنين. لكن مما تتكون المواطنة ؟ وعلى ماذا تقوم؟
ثمة عناصر ومكونات أساسية ينبغي أن تتوفر حتى تتحقق المواطنة وتكتمل وهي :
الانتماء: إذ إن من لوازم المواطنة الانتماء إلى وطن والانتماء هو شعور داخلي يجعل المواطن يعمل بحماس و إخلاص للارتقاء بوطنه والدفاع عنه. ان من مقتضيات الانتماء أن يفتخر الفرد بوطنه و أن يدافع عنه و يحرص على سلامته أما المكون الثاني لمفهوم المواطنة هي منظومة الحقوق والواجبات: فمفهوم المواطن يتضمن حقوقا يتمتع بها جميع المواطنين وهي في نفس الوقت واجبات على الدولة والمجتمع و منها: ضمان الحريات الشخصية: مثل حرية التملك وحرية العمل وحرية الاعتقاد وحرية الرأي. وكذلك ضمان العدل والمساواة وتوفير الحياة الكريمة والخدمات الأساسية من صحة وتعليم.
في مقابل الحقوق التي يتمتع بها المواطن عليه واجبات فمثلما واجبي هو حق عند غيري فإن حقوقي هي واجبات عند غيري. ولئن ارتبط مفهوم الحق بالحرية فإن الواجب كمفهوم أخلاقي ارتبط بالإلزام ومن أهم الإلزامات هو احترام حرية الآخرين والدفاع عن الوطن والانتخاب.
هكذا يمكن أن نستخلص مما تتقدم أن المواطنة تتحدد في ثلاث مستويات:
- – المستوى الأوّل تتحدّد فيها المواطنة باعتبارها مثالي “Ideal” بمعني قيم محفزة.
- – وتتحدّد في مستوى ثاني باعتبارها مجموعة متمفصلة من المعايير السياسية والحقوقية، أي مجموعة من الحقوق والواجبات التي تضفي الواحدة منها الشرعية على الأخرى وتسهر السلطة السياسية على رعايتها بطريقة ما.
- – وهي في مستوى ثالث مجموعة الممارسات الفعلية التي يقوم بها المواطنون ليشاركوا بطريقة فعالة في تنشيط الحياة الجماعية في إطار الدولة.
لكن ماهي حقوق المواطنة؟
تتمثل أهم حقوق المواطنة فضلاً عن المساواة القانونية بمجموعة الحقوق الآتية:
1) الحق في السلامة الجسدية
2) الحق في العمل
3) الحق في السكن
4) حق التعليم
5) الحق في دعم ورعاية الدولة
6) الحق في الخدمات الصحية
7) حق اللجوء إلى القضاء
8) الحق في الملكية
9) الحق في التصرف
10) الحق في الخصوصية
11) حق اللغة
12) الحق في رفض ذكر القومية أو الدين في الوثائق الرسمية
13) الحق في الإدارة الذاتية: للمواطن الحق في انتخاب الإدارة الذاتية والمحلية والبلدية لمحافظته ومنطقته وقضائه وناحيته وغيرها من الوحدات الإدارية في الدولة انتخاباً مباشراً.
14) حق الحماية والتعويض
15) حق الإرث والشهادة والاختيار
16) الحقوق الإجرائية: للمواطن الحق في عدم اعتقاله أو استجوابه من قبل أي سلطة بدون أمر قانوني ساري المفعول صادر عن حاكم مختص.
17) حق المتهم أو الموقوف
18) الحق في بيئة نظيفة والسفر بحرية.
19) الحق في التنمية والملكية في الحد الذي لا يضر بالسياق الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيش فيه.
20) الحق في السلام، وفي التضامن الإنساني…
لكن الأمر الذي يثير إشكالا هو ظهور الدولة العالمية والمواطنة العالمية حيث تعرض مستقبل السيادة الوطنية إلى الخطر في ظل تشريع حق التدخل في سيادة الدول من أجل فرض احترام حقوق المواطنة باعتبارها قيمة كونية، فكيف يمكن إزالة التعارض بين سيادة وطنية ومواطنة كونية؟
3- الدولة العالمية والمواطن العالمي:
” كل فرد هو في نفس الوقت مواطن العالم ومواطن دولته”
الدولة العالمية هي الراعية لحقوق الموطنة عندما يقع الاعتداء عليها من طرف الدولة الوطنية وقاعدتها القانونية أن الإنسان ليس فقط موطنا داخل دولة ذات سيادة بل هو مواطن عالمي وموجود في العالم ويطلب من هذه الحكومة العالمية أن تصون كرامته إذا تعرض إلى أي اعتداء. يعبر هابرماس عن هذه الفكرة الجديدة بقوله:” “إن مفتاح الحق لدى المواطن العالمي يكمن في كونه يعني منزلة الحق الفردي للذوات مؤسسين لهم انتماء مباشر إلى جماعة المواطنة العالمية الحرة والمسؤولة”.
يميز جاك ماريتان بين الدولة والكيان السياسي، الدولة ترعى النظام العام وتفرض القوانين وتمتلك السلطات وتقوم بخدمة الشعب، أما الكيان السياسي فهو الشعب المنظم بقوانين عادلة والمتكون من مؤسسات متعددة وجماعات محلية داخلية فيه ومن المجتمع الأخلاقي المنبثق منه. وينتهي إلى فكرة الحكومة العالمية في إطار النظام السياسي للعالم ويقر بأن مسألة الكيان السياسي مرتبطة بالنظرية السياسية البحتة في النظام العالمي.
إذ يقول في هذا السياق:” ستكون الحكومة العالمية دولة عليا منبثقة من كيان سياسي ومفروضة على الدول الخاصة وتتدخل في شؤونها حتى وان جاءت هذه الحكومة نتيجة انتخابات عامة وتمثيل.” ويضيف في نفس السياق:” يجب ألا تتكون الدولة العالمية من مندوبين عن الحكومات المختلفة وإنما بالتصويت الحر من جانب الرجال والنساء” .
غير أنّ ارتباط المواطنة بالسيادة العالمية يجعلها في موقف صعب إذ تكون وضعيتها حرجة للغاية ويمكن أن يفقدها الفرد كلما عمد إلى نسيان طبيعتها أو كلّما فسدت الديمقراطية فالسيادة عند “روسو” كما هو الحال عند “مونتسكيو” غير قابلة للقسمة ثم هي مطلقة بما أنها فوق القانون، إذ هي التي ترسي القانون، والخطر يتأتى من ربط السيادة بالدولة إذ قد تتماهى السيادة مع الدولة مثلما هو شأن الخلط بين الدولة والمجتمع المدني وهو خلط حذّر منه “هيغل” عندما نقد نظرية العقد الاجتماعي، فالخلط بين السيادة والدولة والمجتمع المدني والدولة يؤدّي إلى ما سمّاه “سان سيمون” بدولنة المجتمع l’Etatisation de la societe أي سيطرة الدولة على كلّ هياكل ومؤسسات المجتمع المدني فنسقط في نوع جديد من الاستبداد السياسي، ولكن نوع خطير بما أنه استبداد باسم الديمقراطية سمّاه “توكفيل” بالاستبداد الناعم.
حول هذا التناقض بين السيادة والمواطنة يصرح هابرماس: “تتمثل النتيجة الأكثر أهمية لحق يقلص من سيادة الدول في كون بعض الأفراد يتحملون مسؤولية شخصية عن الجرائم المقترفة في حق الدولة أو جرائم الحرب.”
ثم إنّ المماهاة بين السيادة والدولة قد تؤدّي إلى تصوّرات تجزّئ السيادة مثلما هو الشأن مع “غروسيس” الذي يحدّد السيادة باعتبارها مجموعة مهام يمارسها صاحب السيادة مثل سلطة “صكّ العملة”، سلطة إقامة العدالة… وكلّ المهام التي تقوم بها الدولة والتي تسمى في السجلّ السياسي الحقوقي المهامّ الملكية التي تؤسّس قوة الدولة والتي يمكن التفريط فيها، والسيادة بهذا المعنى تكون قابلة للقسمة ولذلك كان “روسّو” قد انتقد تصوّر “غروسيس” للسيادة وأقرّ بكون السيادة كاملة وغير قابلة للقسمة. ذلك أنّ السيادة في معناها الدقيق هي السلطة العليا، و الذي يمارس هذه السيادة ليس له سلطة فوقه، فمهامه لا ترتبط بأي سلطة أعلى منه، وهو ما يتضمن كون صاحب السيادة حر بصفة كاملة و مستقل.
هذه الاستقلالية والحرية للسيادة تتمظهر في مستوى الحق التأسيسي في الدول الديمقراطية، فالشعب حر في أن يشرع القوانين التي يريد، وحر في أن يراجع الدستور متى شاء، بل و حر حتى في تجاوز الدستور حسب بعض الحقوقيين. كما تتمظهر هذه الاستقلالية في مستوى القانون الدولي فكل شعب حر في تقرير مصيره و يتمتع بمساواة حقوقية مع بقية الشعوب. ذلك انه إن كانت سلطة السيادة عليا فإنها بالضرورة غير قابلة للقسمة وهي حق غير قابل للتصرف إذ لا تستطيع أن تكون عليا و أن تتنازل عن جزء من سلطتها لفائدة أي جهة أخرى في نفس الوقت.
يجب أن نلاحظ أنه ثمة اليوم عدو آخر يترصد بالمواطنة و السيادة معا،إنه هيمنة الاقتصاد والسوق العولمي على السياسي. وأول تداعيات العولمة على المواطنة تتمثل في تحويل المواطن إلى مستهلك في سيرورة تحويل وجهة عندما لا يتعلق الأمر بتحويل مقصود ومعلن.
هذه العملية تنخرط في نزعة قوية تتمثل في الحط من شأن السياسة في مقابل إرادة الرفع من شأن السوق باعتباره المجال العالمي لسيادة المواطن. وهكذا تنحط المواطنة إلى الدرجة الصفر من القيمة، و تتوقف حرية الاختيار لدى المواطن عند أنواع الاستهلاكيات في السوق، أما صناديق الاقتراع و بطاقات الانتخاب فتبدو في إيديولوجيا السوق تخلفا.
إن هذا الانزياح في معنى المواطنة الذي لا يكاد يرى، إذ يمرر باسم الديمقراطية ذاتها، يطرح مشكلا خطيرا على الإنساني، مشكل سلب عدد متزايد من الأفراد من مشاركتهم في السيادة، خاصة وأن الخيار الاستهلاكي لا يمثل خيارا عقلانيا بالنسبة للمصلحة العامة، لان المصلحة العامة لا تختزل في مجموع المصالح الخاصة بكل فرد كما تروج له الفردانية في النظم الديمقراطية المعاصرة.
أن يكون الواحد منا مواطنا عالميا هو أن يعرف وأن يفهم وأن يشارك في حوارات المدينة الذي تمثلها اليوم “القرية العالمية” واللاّتجانس ليس حاجزا وإنما هو مثلما بيّن ذلك “إدغار موران” عامل محرّر: “إنه يجعل الإمبراطوريات القديمة والحديثة تنهار ويفضل التجارب والوضعيات الجديدة”. حول هذا الموضوع يبين كانط أنه” “نظرا لأن سيادة الدولة سيادة لا تقهر فإن اتحاد المواطنة العالمية هو فيدرالية بين الدول وليس بين مواطنين عالميين”.
من هذا المنطلق يميز موران بين النزعة الدولية ومفهوم العالمية بقوله:”ان التيار الدولي يريد أن يجعل من النوع شعبا أما العالمية فتريد أن تجعل من العالم دولة.” فماذا ينتظر الإنسان المرآوي من دولة الرفاه الرخوة غير الاستنقاص من السيادة الوطنية في سبيل تسويق دعائي لمنظومة حقوق الإنسان والمواطن؟
خاتمة:
“تبين مفارقة السيادة أن:” السيد هو في الآن نفسه خارج وداخل النظام الحقوقي”
إن ما يجري إخفاؤه وطيه في زمن العولمة المتوحشة هو ويا للمفارقة،المواطنة، فالمواطنة المؤجلة والمنشودة والحرب الواقعة والمداهمة،وكل القيم المتصورة القديمة مثل الحق والخير والجمال هو ما يجري عبورها الآن من خلال خلخلات مضطربة غريبة تشكل في جوهرها المعنى الخاص الحقيقي للتاريخ البشري وان الذي يقع التضحية به على مذبح مد جسور التواصل بين الأمم وحوار الثقافات والتقريب بين الأديان هو مفهوم السيادة Souveraineté ومشتقاته كالوحدة والتحرر والاستقلالية والقومية والوطنية فهذه المفاهيم أصبحت في العهد الإمبراطوري للحرب المترحلة مجرد استعارات ميتة تنتمي إلى العصر القديم للبشرية وعملات طمست معالمها من شدة استعمالها لا يمكن صرفها في البنوك النقدية الراهنة ،إذ بقدر ما تراجع الحديث عن السيادة والانكماش والتعويل على الذات تعاظم التأكيد على الانفتاح والتواصل والتبادل وترسخ مفهوم العلاقات الدولية وأصيبت جميع الهويات المنطوية على ذاته الدوغمائية بحيث أجبرت على البحث عن الدواء الشافي من الخارج.
ربما من بين أسباب ذلك أن تاريخ الفكر السياسي بقي ينظر دائما إلى موضوع المدينة وتقابُل الحياة البسيطة والحياة الخيّرة من باب فحص وتحديد طرق الحياة الخيّرة بوصفها غايةَ ما هو سياسي. عندئذ تقوم السياسة الفاسدة على إقصاء الحياة العارية الطبيعية بينما السياسة الصالحة ترى أن الحياة الخيرة هي الغاية التي وُجدت من أجلها الطبيعة العارية، والمدينة هي التي أخرَجت السياسةَ من القوة إلى الفعل، لاسيما وأن الفرق بين الطبيعي وما هو سياسي” هو فرق في الكم وليس في النوع.
وهكذا فمقولة السياسة الحيوية biopolitique لا تتمثل في تقابل الصديق والعدو كما يرى شميت بل تتمثل في تقابل الحياة العارية والوجود السياسي، والإقصاء والإدماج، والإخراج والإدخال… وهذه المقولة بنيـة مبدأ السيادة ومنطق فارقيتها. فالسيد يوجد خارج نظام الحق وداخله، ويعترف له نظام الحق بسلطة المطالبة بحالة الاستثناء état d’exception وبرفع وإلغاء صلاحية القانون. إن حالتَه حالةُ من يقول “أنا السيد، أُوجد خارج القانون، وأعلن أنه لا شيء يوجد خارج القانون.
لعل المشكل الذي صار يؤرق المفكرين المعاصرين، احتواء وإدخال الحيوانية/الحياة في المدينة، لعلّه أقل أهمية من مشكل السيادة والمواطنة الذي صار يترسخ أكثر فأكثر بطرق متطورة ماهرة، إذ في الوقت الذي أصبح فيه الاستثناء هو القاعدة، صار فضاء الحياة العارية، الذي كان دائما على هامش التنظيم شيئا فشيئا فضاء السياسة، فأصبح من الصعب رسم الحدود بين الاستثناء والاحتواء، والإقصاء والإدماج، والخارج والداخل، والحياة والحيوانية، والحق droit والفعل fait. هذه الحالة تشعر بها الديمقراطية الحديثة، ولذلك فقد قامت تطالب بتحرير الحياة العارية الحيوانية zōē وتحاول أن تحوّل هذه الحياة الطبيعية إلى شكل ما من الحياة تعثر فيه على حياة الإنسان bios في الحيوان. وبهذا تتميز الديمقراطية الحديثة عن الديمقراطيات القديمة. و تنبني السيادة السياسية على ما تستثنيه وتقصيه.
إن هذا المنطق الذي يسوّغ للسيادة السياسية أن تخلق حالات استثنائية باسم العام الكلي وتُقصيها عن الحقوق “المدنية” وتحتويها في الوقت ذاته بحقوق “شرفية”. وهنا تعبر السيادة عن دور آخر لها، وهو أنها تحوّل علاقة التقابل بين هذين المتطلبين القانونيين إلى علاقة دنيا حساسة بين ما هو داخل الحق وما هو خارجه. في ذلك يؤكد شميت على منطق هذه العلاقة بين السيادة والاستثناء فيبين أن الاستثناء الذي يتغذى منه الناموس السيادي هو الذي يفسر أن السيادة لا تعني “الاستيلاء على إقليم” وإقرار نظام قانوني فقط، ولكنها تعني كذلك، “الاستيلاء على ما هو خارجي” ومستثنـى. فالقرار السيادي في الاستثناء هو بنية القانون السياسية، وهو الذي يفسح المجال لإقرار نظام قانوني ولتحديد الإقليم.
هكذا فإذا كان الاستثناء بنية السيادة، فالسيادة ليست مفهوما سياسيا فقط، أو مقولة قانونية أو قوة خـارجة عن الحق (شميت) أو قاعدة عليا للنظام القانوني (كلسين) بل هي البنية الأصلية التي يرجع فيها الحق (القانون) إلى الحياة فيحتويها بإلغائها، ويدمجها فيه بإبعادها عنه. والسيادة بهذا المعنى يدل عليها مفهوم عميق يحدّد فيها البنية الأنطلوجية للقانون بوصفه تخليا .
إن المبدأ الذي يجعل السيادة تنتمي إلى القانون، وهو المبدأ الذي لا ينفصل اليوم عن تصورنا للديمقراطية ودولة الحق، لا يلغي مفارقة السيادة بل يزكيها ويرسخ منطقها ووجودها أكثر. فالقانون أو السيادة هو المبدأ الذي يمزج العدالة بالعنف، ويقرن القانون بالعنف ويجعلهما في محل لا يُميز الواحد منهما عن الآخر. فالي أي مدى يجوز للدول أن تستعمل العنف للدفاع عن سيادتها؟ أليس ذلك اعتداء على المواطنة وذريعة لممارسة التسلط والشمولية؟ هل من تفسير لما قاله ميشيل فوكو في إرادة المعرفة:” إن الإنسان الحديث هو حيوان يضع حياته داخل السياسة ككائن حي موضع رهان”؟ فإذا كان طموح الأفراد إلى السيادة قد سمي طلبا للسلطة وتقيد الدول بالمواطنة جنوحا إلى المسالمة فهل مازال حلم الأفراد بالمواطنة والدول بالسيادة ممكنا ؟
المراجع:
ألان تورين، ماهي الديمقراطية؟ ، حكم الأقلية أم ضمانات الأقلية؟، ترجمة حسن قبيسي، دار الساقي، بيروت الطبعة الثانية 2001،
أدغار موران، تربية المستقبل، ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوجي.
اسبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1997
اسبينوزا، كتاب السياسة، ترجمة جلال الدين سعيد، دار الجنوب، تونس، 1999
هنري برجسن، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة سامي الدروبي وعبد الله عبد الدائم
جان جاك روسو، في العقد الاجتماعي، ترجمة عبد الكريم أحمد، مراجعة توفيق اسكندر، بإشراف الإدارة العامة للثقافة بوزارة التعليم العالي، القاهرة .
جاك ماريتان، الفرد والدولة، ترجمة عبد الله الأمين، دار مكتبة الحياة، بيروت.
Carl Shmitt, La notion de politique, Flammarion, 1992
Giorgio Agamben, Homo Sacer, le pouvoir souverain et la vie nue, traduction de l’italien par Marilène Raiola, éditions du Seuil 1997.
Emmanuel Kant, théorie et pratique, section II, Trad. Proust, Coll. GF Flammarion 1994
Edgar Morin, introduction à une politique de l’homme,Edition Seuil, 1965
Jurgen Habermas, la paix perpetuelle, Ed CERF,Paris 1996,