درس محور معايير الحقيقة – مفهوم الحقيقة

  • التأطير الإشكالي:

لا يستقيم البحث في مفهوم الحقيقة، دون البحث في معايير الحقيقة. فالحقيقة ليست معطاة، وليست مكشوفة، ولعل هذا ما يفسر حمل ديوجين لمصباحه، وبحثه عن الحقيقة نهارا. إن الحقيقة متعددة الأشكال، وذلك لتعدد مجالات المعرفة، كما أنه يصعب علينا أحيانا أن نميز الحقيقة عن الباطل والوهم والزيف. كل ذلك يدفعنا ضرورة إلى البحث عن معيار للحقيقة، أي عن المعيار أو المعايير التي يمكن اعتمادها كمقياس وكمرجع للتميز بين الحقيقة واللاحقيقة، بين الحقيقة من جهة، وبين الزيف والوهم من جهة ثانية. ومنه يمكن أن نتساءل: ما هي معايير الحقيقة؟ وما هو المعيار أو المعايير التي يمكن خلالها تمييز الحقيقة عن اللاحقيقة، وتمييز الحقيقي عن المزيف والوهم؟ هل معيار الحقيقة معيار عقلي أساسه البرهان والبداهة والحدس أم هو معيار مادي أساسه العودة إلى الواقع والتجربة؟ ألا يمكن أن تكون الحقيقة معيار ذاتها؟ وألا يمكن القول أن الحقيقة ذاتها ليست إلا وهما نسينا أنه كذلك؟ وهل الحقيقة نسبية أم مطلقة؟

  • رونيه ديكارت: معاير الحقيقة معيار عقلي

يؤكد رونيه ديكارت، الفيلسوف العقلاني، أن معيار الحقيقية معيار عقلي، فالعقل حسب ديكارت نور فطري، كما أنه الآلية الوحيدة التي يمكن من خلالها تحصيل المعرفة وإدراك الحقيقة. لكن، كيف يمكن التمييز بين الخطأ والصواب، بين الحقيقي وغير الحقيقة؟ في هذا السياق يؤكد ديكارت أن البداهة هي معيار الحقيقة، ويعني بالبديهي المتميز والواضح، والذي لا يحتاج حجة أو برهانا عليه. في هذا الإطار يقول ديكارت:لأن جميع الأشياء التي نتصورها تصورا واضحا ومتميزا أشياء حقيقية كلها، وحقيقتها مكفولة بوجود الله، لأنه موجود كامل، ولأن جميع ما فينا صادر عنه، وينتج من هذا أن أفكارنا وتصوراتنا المتعلقة بكل ما هو واضح ومتميز ، لا يمكن إلا أن تكون حقيقية، لأنها أشياء واقعية وصادرة عن الله”.

إضافة إلى ذلك، يؤكد ديكارت في كتابه “مقال في المنهج” أن المنهج الذي يمكن اعتماد اعتماده لبلوغ الحقيقة، هو المنهج العقلي، والذي يقوم على أربع قواعد وهي: الشك، التحليل، التركيب ثم المراجعة والاحصاء. ويتضح من خلال هذا المنهج أن ديكارت يعتبر الشك في المعارف، آلية للتحقيق من صدقها، وأن ما يصمد أما الشك هو البديهي، كحقيقة الكوجيطو “أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود”. فهذه حقيقة، لا يمكن الشك فيها، لأنها بديهية.

  • باروخ اسبينوزا: الحقيقة معيار ذاتها

يقول الفيلسوف العقلاني باروخ اسبينوزا: ما هو الشيء الذي يمكنه أن يكون أشد وضوحا وبداهة من الفكرة الصحيحة حتى يكون معيارا للحقيقة؟ فكما أنه بانكشاف النور ينقشع الظلام، فالحقيقة أيضا إنما هي معيار ذاتها ومعيار للخطأ

ويتضح من خلال هذا القول، أن معيار الحقيقة حسب باروخ اسبينوزا هو الحقيقة ذاتها، فالحقيقة مثل النور، واضحة ولا تحتاج من يكشفها. وما يجعل الحقيقة واضحة هو كونها بديهية، وكونها بديهية يعني أنها واضحة ومتميزة للذهن، كما أنها تكون معيارا لكشف الخطأ.

  • قيمة الموقف:

لا يمكن أن ننكر قيمة هذا الموقف الفلسفي، وقيمة المعيار الذي دعا إليه ديكارت، ذلك لأن هناك بعض المعارف والحقائق التي لا يمكن أن نتحقق منها إلا عبر العقل والبداهة والبرهان، وهي القضايا العقلية، والتي نجد من ضمنها القضايا الرياضية، فلتحقق من صدق قضية رياضية ما لابد من اعتماد العقل والبرهان. كما لا يمكن أن ننكر قيمة موقف اسبينوزا، ذلك أن الحقائق أحيانا تكون معيار ذاتها، وأنها لا تحتاج من يكشفها أو يدافع عنها، والمثال على ذلك حقيقة عدم مركزية الأرض، والتي كُشفت رغم محاولة رجال الدين إخفاءها.

لكن، ليست كل القضايا قضايا عقلية، بل هناك من القضايا ما يرتبط بالواقع المادي، وهذا ما يدفعنا إلى مساءلة الموقف السابق: ألا يمكن القول أن المعيار العقلي يظل عاجزا أمام قضايا الواقع المادي؟ أليس المعيار الذي يمكن اعتماده بخصوص مثل هذه القضايا هي المعيار المادي؟

  • دافيد هيوم: الواقع المادي معيار الحقيقة

لم ينف الفيلسوف الانجليزي دافيد هيوم أن بعض الموضوعات يتم التحقق من صدقها عبر الحدس والبرهان، وهي الموضوعات التي تكون فيها العلاقة علاقة الأفكار ببعضها البعض، وهي الموضوعات التي تشمل علوم الهندسة والجبر والرياضيات، ويقدم أمثلة من قبيل: قولنا أن وتر المثلث يساوي تربيع الضلعين، وقولنا أن ثلاثة مضروبة في خمسة تساوي نصف ثلاثين، فهذه الموضوعات يتم التحقق من صدقها عبر البرهان أو عبر الحدس العقلي.

لكن هناك صنف آخر من الموضوعات، وهي التي تعبر عن علاقة الأفكار بالواقع. وهذه الموضوعات لا يمكن أن نتحقق من صدقها عبر البحث فيما إن كانت تتضمن تناقضا أم لا،  أي عبر البرهان والحدس العقلي، بل يتم التحقق من صدقها عبر العودة إلى الواقع، لأنها موضوعات الواقع وليست موضوعات الفكر. والمثال على ذلك، قولنا أن الشمس لن تشرق غدا، فهذا القول يستحيل أن نبرهن عليه، أو نكشف تناقضه.

مثال آخر خارج موقف دافيد هيوم: إذا قال شخص ما أن الدجاج يلد، فسيكون من الحمق إن نحن حاولنا تأكيد أو تفنيد هذا القول برهانيا، لأن معيار التحقق هو الواقع المادي، أي أن نعود للواقع التجريبي ونرى إن كان الدجاج يلد أو يبيض.

  • أهمية الموقف:

تتجلي قيمة هذا الموقف الفلسفي في قيمة معيار الواقع، فلا يمكن أن يختلف اثنان في أن المعيار الذي يمكن اعتماده في التحقق من صدق وحقيقة المعرفة التي تفسر أو تتحدث عن  وقائع مادية، هو العودة إلى الواقع، فلكي نتحقق أن الماء يتبخر عند ارتفاع درجة الحرارة، ويتجمد عند انخفاضها، لابد أن نعود إلى الواقع التجريبي والتحقق تجريبيا.

لكن ما أدرانا أنا الشمس ستشرق غدا؟ وما أدرانا أن الأجسام تسقط بنفس السرعة في الفراغ في جميع الأمكنة والأزمنة؟ إن هذا السؤال ليس للسؤال، بل للتأكيد أن معيار التحقق عبر التجربة معيار قاصر، خاصة وأننا نتحدث في اللحظة المعاصرة عن معرفة علمية تفسير ظواهر لا يمكن دراستها تجريبيا.

إضافة إلى ذلك، فالحقيقة لم تعد تعني الاتساق والتطابق، ذلك لأنها أصبحت موضوع صراع وتجاذب، خاصة داخل المجالين السياسي والاجتماعي. هذا المعطى دفع بعض الفلاسفة إلى القول أن للحقيقة معايير أخرى نذكر من بينها:

  • معيار المنفعة – وليام جيمس
  • معيار القوة – فريدريك نيتشه
  • معيار السلطة – ميشيل فوكو

  • خلاصة تركيبة:

يتضح مما سبق أن معايير الحقيقة متعددة، وذلك راجع لتعدد مجالاتها، وأيضا لاختلاف منطلقات الفلاسفة والمفكرين. لكن رغم اختلاف الموقف والتصورات، ورغم اختلاف المعايير، فتبقى الحقيقة ذات قيمة وأهمية تجعلها غاية كل إنسان، وغاية كل بحث سواء كان فلسفيا أو علميا أو دينيا….. من يتضح ضرورة البحث في مسألة قيمة الحقيقة.

إغلاق