محور العقلانية العلمية – مفهوم النظرية والتجرية

  • المادة: مادة الفلسفة
  • المستوى: الثانية باكالوريا
  • المجزوءة: مجزوءة المعرفة
  • المفهوم: مفهوم النظرية والتجربة

المحور الأول : محور العقلانية العلمية

التأطير الإشكالي لمحور العقلانية العلمية

إن البحث في مسألة العقلانية العلمية، يعني البحث في العلاقة بين المعرفة العلمية والعقل،  وأيضا البحث في الكيفية التي تكون بها  المعرفة العلمية، وما تشمله من نظريات، معرفة معقولة، كما يعني البحث في الأدوار الممكنة للعقل في العلم. ومنه يمكن أن نتساءل:

أي دور للعقل في العلم؟ هل يتخذ العقل دور المبادرة والريادة في بناء المعرفة العلمية وفي صياغة النظريات العلمية، أم أن المبادرة والريادة تبقى للتجربة وللاختبار التجريبي؟ هل ما يضفي على العلم معقوليته، وعلى النظريات طابع العلمية هو العقل، والأبنية الرياضية والتماسك المنطقي بين المبادئ والنتائج، أم هي التجربة والاختبار التجريبي والمطابقة للواقع؟ وهل يمكن  للعقل أن يبني معرفة علمية دونما حاجة إلى التجربة؟ ألا يمكن القول أن بناء المعرفة العمية لا يتحقق إلا من خلال الحوار الجدلي بين مبادئ العقل ومعطيات الواقع؟

موقف العقلانية الخلاقة : موقف ألبرت آينشتاين

دفع القول بأهمية التجربة وأولويتها في بناء المعرفة العلمية وفي صياغة النظريات العلمية، دفع العالم الفيزيائي ألبرت آينشتاين صاحب نظرية النسبية، إلى التساؤل: “إذا كانت التجربة هي منطلق ونهاية معارفنا حول الواقع، فأي دور يبقى للعقل في العلم؟“. ليجيب آينشتاين مؤكدا أن العقل هو صاحب المبادرة والأولوية مقارنة بالتجربة، أما التجربة فيجب أن ترتبط بالعقل، وهنا يظهر آينشتاين معارضا للاختباريين الذين يؤكدون على أولوية التجربة على العقل. وفي هذا السياق يقول آينشتاين: “إن العقل يمنح النسق الفيزيائي بنيته، أما التجربة وعلاقتها المتبادلة فيجب أن تطابق نتائج النظرية“. ورغم التأكيد على أهمية العقل والتأكيد على قدرته على صياغة النظرية العلمية في استقلاه عن التجربة.  فإن آينشتاين يرى أن التجربة يمكنها ترشدنا في اختيار المفاهيم الرياضية التي سنستعملها، إلا أنها لا يمكن أن تكون المنبع الذي تصدر عنه. ويضيف آينشتاين قائلا: أنا متيقن أن البناء الرياضي الخالص يمكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي تربط بينها والتي تمكننا من مفتاح فهم ظواهر الطبيعة“. وفي هذا القول تأكيد على أهمية العقل، وعلى أهمية الأبنية الرياضية، في فك ألغاز الطبيعة، وكشف القوانين التي تحكمها.

وهنا لا يمكن أن نستنتج إلا ما استنتجه آينشتاين حين قال: إن المبدأ الخلاق في العلم هو الرياضيات“. أي أن الرياضيات تمكننا عبر الاستنباط المنطقي من معرفة الطبيعية وكشف أسرارها، ومن صياغة النظريات العلمية. والتأكيد على الرياضيات هو تأكيد على أهمية العقل ودوره الحاسم في العلم.

للانفتاح: يقول روني طوم: إن التجريب وحده عاجز عن اكتشاف سبب أو أسباب ظاهرة ما… ولا يمكن له لكي يكون علميا وذا مغزى أن يستغني عن التفكير”

الموقف الاختباري: موقف هانز رايشنباخ                 

يرفض أعلام الوضعية المنطقية، إعطاء الأولوية للعقل على التجربة، كما ترفض أي تعال عن الواقع. ومن ضمن هؤلاء نجد الفيلسوف وعالم المنطق ولفيزياء الألماني، هانز رايشنباخ، والذي يرفض  استعمال مفهوم ال”العقلانية العلمية” في مجال العلوم التجريبية. فالعقلانية -في نظره-  مذهب مثالي مجرد، يعتبر العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة، في حين أن التجربة وفق منظور رايشنباخ تعتبر مصدر كل معرفة.

لكن لا يعد إبعاد مصطلح العقلانية العلمية إبعادا للعقل عن العلم، لأن العلم يقتضي “استخدام العقل مطبقا على مادة الملاحظة”، اي استخدام العقل من خلال القيام بالممارسة التجريبية لا منفصلا عنها، وهذا ما يسميه هانز رايشنباخ ب”المعقولية العلمية”. وبالتالي فالاعتماد على العقل فقط بعيدا عن التجربة والملاحظة لا يؤسس معرفة علمية، بقدر ما ينتج عقلية مثالية.

للانفتاح: يقول كلود برنارد: “ليست النظرية عدا الفكرة العلمية المراقبة من طرف التجربة”

موقف العقلانية المطبقة: موقف غاستون باشلار

معاينة نص باشلار

على خلاف العقلانية المثالية التي ترفض الإقرار بأهمية التجربة ودورها الحاسم في العلم، وعلى خلاف الاختبارية التي ترى أن للعقل دورا ثانويا فقط، يؤكد باشلار على أن كلا من العقل والتجربة في حاجة إلى بعضهما البعض، وأن المعرفة العلمية وخاصة في الفيزياء المعاصرة لا يمكن أن تتم إذا تم الاستغناء عن أحد الطرفين، وهذا ما يؤكده قوله: ” لا توجد عقلانية فارغة، كما لا توجد اختبارية عمياء”، ومضمون هذا القول، أن العقلانية في حاجة إلى العودة إلى الواقع، وإلا كانت عقلانية فارغة، وأن الاختبارية يجب أن توجه عبر العقل ومبادئه، وإلا كانت اختبارية فارغة.

في ذات السياق  يؤكد باشلار على ضرورة إجراء حوار دقيق ووثيق بين كل من العقل والواقع، في بناء المعرفة العلمية، وهو الحوار الذي كان غائبا قديما بين العقلانيين والتجريبيين.  كما أن باشلار يؤكد أن عالِم الفيزياء المعاصر يحتاج ليقين مزدوج:  اليقين الأول هو يقين بوجود الواقع في قبضة ما هو عقلي، فيكون بذلك مستحقا لاسم الواقع العلمي؛ أما اليقين الثاني فهو يقين بأن الحجج العقلية المرتبطة بالتجربة هي من صميم لحظات هذه التجربة.

من هنا يتبين كيف أن غاستون باشلار ينتقد الفلسفة الوضعية كنزعة تجريبية وينتقد الفلسفات العقلانية في تنوعها واختلاف توجهاتها الفلسفية والعلمية على السواء، ويدعوا إلى اعتماد التجربة والعقل معا، وعقد حوار جدلي بينهما.

للانفتاح: يقول إيمانويل كانط : “على عقلنا أن يتوجه نحو الطبيعة ماسكا بإحدى يديه مبادئه وبيده الأخرى التجربة”.

خلاصة تركيبية لدرس العقلانية العلمية

حاصل القول أن العقل يبقى عمادا من أعمدة العلم، فهو الذي يمنح المعرفة العلمية وما تتضمنه من نظريات معقوليتها، وترابطها، وتماسكها المنطقي، والاقرار بأهمية العقل، هو إقرار بأهمية الأبنية النظرية، والأنساق الرياضية، وهو أيضا إقرار بأهمية الخيال. لكن العقل العلمي لا يمكنه الاستغناء عن التجربة، كما لا يمكنه الانفصال عن الواقع، الذي يلعب دورا أساسيا في العلم، فهو الذي يغني المعرفة العلمية بالحجج والأدلة الواقعية. أما الاختلاف بين العلماء والإبستمولوجيين بخصوص أولوية العقل والواقع، فمرده خصوصية الوقائع المدروسة، فدراسة واقعة مادية يمكن اخضاعها للمنهج التجريبي ويمكن ملاحظتها بشكل مباشر، ليس كدراسة واقعة لا يمكن ملاحظتها مباشرة، ولا يمكن إخضاعها للمنهج التجريبي، كالظواهر الميكروفيزيائية متناهية الصغر، و الظواهر الماكروفيزياءية متناهية الكبر. وإذا كنا نعتمد في دراسة الأولى على الاختبار التجريبي بشكل أساسي، ففي دراسة الثانية يستحيل ذلك، ويتوجب علينا اعتماد العقل والخيال والاستنباط المنطقي بشكل أساسي.

ويمكن أن نختم حديثنا عن  العقلانية العلمية، بالتشبيه الذي أقامه فرانسيس بيكون، حيث شبه  العقلانيين المتعالين عن الواقع بالعناكب، لأن العناكب تبني بيوتها اعتمادا فقط على مادة تستخلصها من ذاتها. بينما شبه الاختباريين بالنمل، لأن النمل يعتمد فقط على ما خارجي. أما الفيلسوف الحق، فشبه عمله بعمل النحل، الذي لا يعتمد فقط على قدراته الطبيعية، وإنما يعتمد على قدراتها الخاصة وأيضا على ما هو خارجي..

شاهد أيضا:

محور معايير علمية النظريات العلمية  (رابط معاينة الدرس)

إغلاق