حاجيات المدرسة المغربية اليوم.. بين التمني والواقع. احسيني عبد الحميد

احسيني عبد الحميد، أستاذ مادة الفلسفة / المغرب

افتتح الروائي المغربي اللطيف “عادل أوتنيل” روايته” اللصيلصون في قصر المتعة” بهذا المقطع – المتخيل- الذي يصور فيه  جزءً من حياة التلميذ في المدرسة المغربية، إذ أسرد قائلاً:

دق جرس إحدى المدارس الابتدائية معلناَ بدء أول حصة صباحية لهذا اليوم، فتدافع حشود التلاميذ بقوة وعنفوان كأنهم فوارس قدامى يقتحمون إحدى القلاع، يشهرون سيوفهم والشرر يتطاير من أقدامهم وهم يتصايحون ويهللون…

في أحد الفصول وقف التلاميذ إجلالاَ وتبجيلاَ للمعلم أو نفاقاً وتزلفا له..المهم أنهم وقفوا…بعد تحية تلامذته اتجه بصر المعلم صوب مقعد معين فوجده كعادته خالياَ.

سأل مستفسراَ زملاء الغائب:

هل لدى أحدكم أخبار جديدة عن علي الزواق؟

وبعد مدة قصيرة أجاب تلميذ في نبرة تنضح بالسخرية والاستهزاء:

لقد استيقظت هذا الصباح على صوته الرنان وهو يصيح جا….بيل جابييل.

ما إن أتم هذا التلميذ الخبيث كلامه حتى انفجرت موجة من الضحك بين صفوف التلاميذ، وعم الهرج والمرج وسرى غمز ولمز فصاح المعلم بملء فيه:

  • سكوت

بدأ الضجيج  ينحسر تدريجياً، وسرعان ما ساد هدوء غريب ينذر بعاصفة هوجاء، فلقد صاح المعلم بصوت عال كالزئير تكاد الجدران تهتز لقوته:

ما هذا الضجيج وما هذا العجيج؟.. لقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين..كيف تسخرون من زميلكم بهذا الكلام السوقي؟..ما فائدة تلقين الآداب للمتعلم إذن، إلم يطبقها على أرض الواقع وفي حياته العملية؟.. أم أن الدراسة ليست سوى سلم ترتقونه للوصول إلى قوت يومكم والعيش في بيت جميل تزرعون فيه زهوراً انتشرت بكثرة في هذا الزمن الموبوء كالأنانية وحب الذات والتغافل عن أنين الجار واَلام الجوعان ولهم جراً…ولكن للأسف فهذه الزهور سامة وشائكة مهما تجنبها الزراع فإنها ستفتك به لا محالة وعلاوة على ذلك فإن العمل يكسب المرء قيمة وجودية ويجعل لحياته معنى شريطة أن يلائم مزاجه ومستواه الفكري والثقافي، أم أنكم لا تحترمون  سوى اللصوص الكبار ذوي ربطات العنق الذين يصولون ويجولون وينهبون أموال البلاد والعباد ولا رقيب  ولا حسيب يضع حدا لهم وليجم سلطتهم…و..

هنا سكت المعلم عن الكلام المباح ونظر صوب الباب ولكن لم يحدث ما كان يتوقه وحمد الله وشكره، هذه المرة سلمت الجرة واستمر في الدرس وكأن شيئا لم يحدث”.

إن هذا المشهد الطريف والمتخيل؛  يجسد  فقط صورة مصغرة عن واقع التعليم بالمغرب وما يدور في كواليس بعض الحصص الدراسية، غير أنه لا يمكن اعتباره- المشهد- واقعاً معمماَ، فشخصية “علي الزواق”؛ تعبرعن واقع تلميذ يبحث عن ذاته خارج أسوار المؤسسة، كي يثبت وجوده اجتماعياً، وهذا في حد ذاته واقع نعيشه، ومألوف نظراَ للظروف الاجتماعية المتباينة، على الرغم من أنه لا يمكن فصل الواقع الاجتماعي عن الفضاء المدرسي، وانعكاس ذلك على بنية التلميذ التربوية والمعرفية والأخلاقية سواء بالسلب أو بالإيجاب، لكن وددت أن أركز أساساً على  ردود أفعال أصدقائه في الفصل، والطريقة التي تحدث بها أحدهم عنه أمام أنظار أستاذه، لأن ذلك يطرح أكثر من تساؤل حول حاجيات التلميذ المغربي اليوم للقيم الأخلاقية والتربوية والمعرفية، وحتى على مستوى ما هو ذاتي فردي، فهل يمكن حصر دور المؤسسة التعلمية فيما هو معرفي فقط؟ أم أنه حان الوقت أكثر من أي وقت مضى لانفتاحها على المجتمع ككل؟ أي دور لمؤسسة الأسرة في التربية؟ هل يتكامل التشريب الأخلاقي والتربوي الأسري والمنهج التعليمي التعلمي في المدارس المغربية؟ أم أنه يجب إعادة النظر في الواقع الاجتماعي ككل، وإسقاط ذلك على الفضاء العام للمؤسسات التربوية؟.

لا ينكر أحد أن المجتمعات الراقية، اجتماعيا واقتصادياً وسياسياً وفكريا، لم يكن لها أن تصل لهذا الرقى؛ لولا توفر الأرضية الخصبة لذلك، أولها: بناء الإنسان. يرى المفكر الجزائري “مالك بن نبي”، أنه بدون وجود إنسان بمعناه الأسمى؛ لا يمكن بناء حضارة مستقلة ومزدهرة إطلاقاً، وذلك من خلال توجيه ثقافته، أي ضرورة الاحتفاء بموروثه الثقافي وتوجيهه نحو المستقبل المشرق، وأهم توجيه  بهذا الخصوص بالنسبة له، هو التوجيه الأخلاقي ثم التوجيه الجمالي (أي تجويد ملكة الذوق). إني أرى، بأن الاحتفاء بالإنسان إنما يكون بالتركيز على جوهر فيه؛ ألا وهو عقله، فالعقل: أساس لبناء المعرفة أولاَ، والمنطلق الأساسي لتكوين مواطن يدرك قيمة وجوده كذات حرة وفاعلة، أو بالأحرى؛ ما يمكن أن أسميه “بتكوين المواطن” على عدة مستويات، سواء السياسية والفكرية والثقافية والرياضية والأخلاقية والتربوية، وهنا لا يمكن أن نستثني التلميذ ضمن هذه المنظومة الكبرى، باعتباره فرداً وجزء أصغر من المجتمع، فعندما يصير هذا التكوين واقعاً اجتماعياً يسري في دماء ثقافته كسريان الدماء في العروق، هنا يمكن الحديث عن تلميذ مؤهل اجتماعياً، وهنا تلعب المؤسسات التربوية التعليمية  دور الموجه فقط، لكن عندما تصبح المؤسسة فضاء يقاتل من أجل محاربة مع علق من أدران و سلوكيات لا تربوية استشربها التلميذ من المجتمع، وفضاء يكد من أجل التأهيل المعرفي والتربوي معا، تكون  مهمتها بذلك صعبة للغاية، كأنها تقوم بعملية قيصرية غاية في التعقيد.

إن التلميذ المغربي اليوم، محتاج أكثر من أي وقت مضى، لدراسة ثلاثة مواد أساسية، أو بالأحرى ثلاثة مجالات مهمة، أولها؛ الثقافة الجنسية،  لماذا؟ ذلك لأن هذه المادة ستجعل من التلميذ تلميذاً متصالحاً مع ذاته ومع أعضائه الجنسية، ومن جهة أخرى، كيفية الدفاع عن نفسه عند التعرض لتحرش جنسي معين (التعامل مع المواقف)، فما نسمعه اليوم من جرائم اغتصاب وقتل يندى لها الجبين، خصوصاً ذلك التلميذ الذي لم يصل لمرحلة النضج، ولا يدرك أهمية جسده كمادة حيوية يجب تقديريها والحفاظ عليها، ثانيها؛ التربية الموسيقية والفنية،  فالموسيقى تهذيب للنفوس ومجال أرحب ليعبر التلميذ عن إبداعه وتفريغ جملة من الشحنات السالبة فيه، بما في ذلك الرسم أيضاً، أي الرقي بملكة الذوق الفني لديه، بالإضافة إلى مادة الفنون التشكيلية التي لا تقل قيمة عن عالم الموسيقى، ثالثهما؛ التربية الدينية، وأهم  ما فيها تربية التلميذ على احترام الأديان مهما كانت، هنا تكون المدرسة قد رسخت في التلميذ كمتعلم أهمية  الاستقلالية الفكرية، أي عدم الخضوع لأية أيدولوجية  دينية متطرفة كيفما كانت، وبالتالي تصبح لدى المتعلم قناعة ومناعة فكرية ضد أي جماعة فكرية متطرفة، أو فكر إرهابي يدعو إلى قتل الأبرياء باسم وعد لا أساس له من العقلانية في شيء، وأيضاً، لابد من الإشارة إلى أهمية تدريس ما يسمى ب”التفكير النقدي” ويمكن إجمال كل المواد الثلاث السالفة الذكر في المجال الأخير، ففي نهاية المطاف؛ الأساس بالنسبة للمدرسة: هو تكوين مواطن حر له قناعات ومبادئ، وله نظرة مستقبلية، معرفياً وعملياً، ولا يمكن أن يتحقق هذا دون الرجوع للأساس، المتمثل في “الإنسان” (تكوين المواطن) والثقافة الجنسية والثقافة الموسيقية الفنية والتربية الدينية، وترسيخ مبادئ التفكير النقدي ( بناء الذات وتجويد التفكير).

بعض المراجع والمصادر المعتمدة:

  • اللصيلصون في قصر المتعة؛ أوتنيل عادل؛ أفريقيا الشرق؛ الصفحة 11-12- 13.
  • شروط النهضة؛ بن مالك نبي؛ دار الوطن للطبع والنشر والتوزيع بتصرف.

إغلاق