تحليل قولة فلسفية (المنهجية – نموذج تطبيقي: الحقيقي هو المفيد)

المفهوم: مفهوم الحقيقة

المحور الثالث: محور الحقيقة بوصفها قيمة

تحليل قولة فلسفية: الحقيقي هو المفيد

المحاور:

  • أولا: منهجية تحليل القولة الفلسفية
  • ثانيا: نموذج تطبيقي “الحقيقي هو المفيد”

 

أولا: منهجية تحليل القولة الفلسفية

تعريف المنهجية:

يقصد بالمنهجية، خطة العمل التي يجب أن ينضبط لها المتعلم، ولا تعني تلك الصيغ اللغوية الجاهزة، التي يعمل المتعلم على حفظها وملء فراغاتها. وتُحدد المنهجية القدرات التي يجب للمتعلم أن يبرزها فقط، ولا تحدد الأساليب اللغوية أو الصيغ اللغوية التي يمكن اعتمادها. كل هذا سيتضح من خلال الوقوف عند العناصر المنهجية الخاصة بتحليل القولة الفلسفة.

العناصر المنهجية لتحليل القولة الفلسفية

أولا: لحظة الفهم

في هذه اللحظة يجب على المتعلم أن يعبر عن فهمه للموضوع من خلال:

  1. تحديد موضوع القولة، من خلال إبراز المجال أو المفهوم العام ( موضوع المعرفة، قضية المعرفة، الفلسفة السياسية، مفهوم السياسية، حقل الممارسة السياسية…) وتحديد المجال أو المفهوم الخاص (الحقيقة، الدولة، العنف، الغير، الحقيقية…) وتحديد الموضوع أو الإشكال الخاص والموضوع الإشكالي للقولة مع التفصيل فيه (إشكال مشروعية الدولة وغاياتها مثلا)
  2. صياغة إشكال القولة وأسئلته الأساسية الموجهة للتحليل والمناقشة.

ثانيا: لحظة التحليل

في هذه اللحظة يجب على المتعلم أن يعبر عن قدرته على تحليل القولة وذلك من خلال

  • تحديد الأطروحة وشرحها
  • تحليل الأطروحة عبر: أولا تحليل بنيتها المفاهيمية، وذلك من خلال الوقوف عند مفاهيمها وتعريفها وكشف العلاقة التي تربط بينها وتوظيفها في شرح مضمون القولة. ثانيا كشف المنطق الحجاجي الذي يفترض أنه سيؤكد ويدعم أطروحة القولة، ومن بين الحجج التي يمكن الاستناد إليها نذكر: المواقف والتصورات الفلسفية أو العلمية، الأمثلة سواء العلمية أو التاريخية أو الواقعية أو المتخيلة… الأقوال الفلسفية أو العلمية…

ثالثا: لحظة المناقشة:

في هذه اللحظة يجب على المتعلم أن يعبر عن قدرته على مناقشة مضمون القولة، وموقفها وأطروحتها، ويتم ذلك من خلال:

  • الوقف عند قيمة الأطروحة بإبراز أهميتها وحدودها. ويتم إبراز أهمية الأطروحة عبر كشف إضافتها النوعية للمعرفة الفلسفية خاصة والإنسانية عامة، وكشف مدى راهنيتها، ومدى توافقها مع الواقع، أو تحديد إن كانت تدافع عن قيمة أو قيم أخلاقية. أما بخصوص حدود الأطروحة، فيتم عبر محاولة تكذيبها أو دحضها أو تقويمها إما كليا أو جزئيا، ونفس الآليات التي نستند إليها في التثمين يمكن أن نستند إليها في تبيان الحدود.
  • فتح إمكانات أخرى للتفكير في الإشكال الذي تثيره القولة باستحضار تصورات أخرى أو أقوال أو أمثلة…

رابعا: لحظة التركيب

في هذه اللحظة، يتعين على المتعلم أن يعبر عن قدرته على التركيب من خلال:

  • استخلاص نتائج التحليل والمناقشة
  • إمكان تقديم رأي شخصي مدعم



  • ثانيا: تحليل قولة فلسفية

الحقيقي هو المفيد

اشرح مضمون القولة وبين كيف يمكن أن ترتبط قيمة الحقيقة بفائدتها

لا يستقيم أي بحث في موضوع المعرفة، إلا بالبحث في قضية فلسفية مرتبطة بها وهي قضية الحقيقة. فمما لا شك فيه أن الحقيقة تعتبر غاية كل بحث سواء كان فلسفيا أو علميا أو دينيا… كما تعتبر غاية كل إنسان. ففي المجال العلمي، تكون غاية العلماء هي كشف حقيقة الطبيعة، وحقيقة الظواهر والوقائع الطبيعية، وكشف القوانين المتحكمة فيها. وكذلك في المجال الفلسفي، فالحقيقة ذات أهمية قصوى، وذلك ما يعبر عنه قول أرسطو، والذي قال في حق أستاذه أفلاطون: “إني أحبك يا أستاذي، لكنني أحب الحقيقة أكثر منك”. وحتى في المجال الديني، فللحقيقة أهمية مركزية، إذ تقوم الديانات على مجموعة من الحقائق بخصوص أمور مثل نشأة الكون، ونهاية التاريخ، ومسألة الموت… وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الحقيقة قيمة، وأن للحقيقة قيمة، تجعلها شيئا مرغوبا فيه، وشيئا مطلوبا من طرف جميع الناس. غير أن قيمة الحقيقة تختلف من إنسان إلى آخر، ومن فيلسوف إلى آخر، ومن مذهب إلى آخر، ومن مجال معرفي إلى آخر، وهذا المعطى يقودنا إلى استنتاج مفاده أن موضوع قيمة الحقيقة موضوع إشكالي، يستحق من التفكير والبحث فيه فلسفيا، من أجل تحديد ما قد يشكل أساسا لقيمة الحقيقة، وما يجعلها شيئا مرغوبا فيه، وهو البحث الذي سنقوم به مسلطين الضوء على القولة الفلسفية قيد التحليل والمناقشة. وهنا يمكن بسط مجموعة الإشكالات والتساؤلات الفلسفية من قبيل:

ما الحقيقة، وما القيمة؟ وما هو أساس قيمة الحقيقة؟ بتعبير آخر، ما الذي يمنح الحقيقة قيمة ويجعلها شيئا مرغوبا فيها؟ هل ما يمنح الحقيقة قيمتها هو المنفعة والفائدة التي يمكن تحقيقها من خلالها أم أن ما يمنح الحقيقة قيمة هو الحقيقة ذاتها؟ إضافة إلى ذلك، يمكن أن نتساءل: هل يمكن النظر إلى الحقيقة بوصفها وسيلة لتحقيق غاية نفعية، أم أنه يتعين علينا النظر إليها بوصفها غاية في ذاتها؟ وهل للحقيقة قيمة أخلاقية أم واقعية نفعية؟ وهل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟

إجابة عن التساؤلات والإشكالات المطروحة، يمكن أن ننطلق من القولة موضوع اشتغالنا، والتي تتضمن موقفا فلسفيا وتؤكد على أطروحة مضمونها أن قيمة الحقيقة تتجلى في الفائدة التي تحققها. ومضمون هذا القول، أن ما يمنح الحقيقة قيمتها هو ما قد نجنيه منها من نفع وفائدة. وبالتالي، فالحقيقة التي لا تحقق نفعا ولا فائدة ليست حقيقة ذات قيمة، بل إنها ليست بالحقيقة. وبما أن الاشتغال الفلسفي يقتضي منا الاشتغال على البنية المفاهيمية لأي قول فلسفي، فلابد لنا أن نقف عند البنية المفاهيمية للقولة الفلسفية، وكشف دلالة مفاهيمها وطبيعة العلاقة القائمة بينها.

يعتبر مفهوم الحقيقة المفهوم المركزي ضمن مفاهيم القولة، فهو موضوعها الرئيسي. وتحيل الحقيقة من الناحية اللغوية على اليقين والحق والصدق، وتأتي في تعارض مع الكذب والوهم والزيف. أما من الناحية الفلسفية، فالحقيقة تعني الاتساق بين الفكر وذاته أو بينه وبين الواقع أو بينهما معا. لكن هذه الدلالة يمكن تجاوزها أحيانا، ذلك أن الحقيقي ليس دائما هو المطابق والمتسق، وهو ما سيتضح بعد التحليل الحجاجي لأطروحة القولة.  إضافة إلى مفهوم الحقيقة، نجد مفهوم القيمة، والذي يعني الخاصية التي إذا توفرت في شيء ما جعلته شيئا قيما، وشيئا مرغوبا فيه. إضافة إلى المفهومين السابقي الذكر نجد مفهوم الفائدة، والذي يحيل على المنفعة، وعلى القيمة المضافة التي قد نجنيها من فعل أو شيء ما، فنقول هذا شيء مفيد أي أنه يحقق لنا نفعا، ونجني من وراءه منفعة ما. ويتضح من خلال مضمون القولة، أن هناك ارتباطا وتلازما بين قيمة الحقيقة والفائدة، فالحقيقة إذا حققت نفعا وفائدة فهي حقيقة ذات قيمة، أما إذا كانت بدون نفع فهي حقيقة لا قيمة لها، أكثر من ذلك فهي ليست بحقيقة.

بعد التحليل المفاهيمي لأطروحة القولة، يمكن أن نقف عند ما يمكن أن يؤكدها من حجاج. وفي هذا السياق، يمكن أن نقف عند موقف أحد أعمدة الفلسفة البراجماتية، وهو الفيلسوف الأمريكي وليمام جيمس. يؤكد وليام جميس في كتابه البراغماتية La pragmatisme، على أن الحقيقة لا تكتسي قيمة إلا إذا حققت منفعة سواء على المستوى النظري أو العملي، ومعنى ذلك، أن القيمة الحقيقة مرتبطة بالأثر الذي يترتب عنها، وأنها تفقد قيمتها إن لم تحقق نفعا، وإن لم تترك أثرا. وهكذا فامتلاك الإنسان لأفكار صحيحة، يعنى امتلاكه لأدوات ثمينة تسمح له بالقيام بأعمال ذات مردودية وإنتاج خصب، فوجوب اكتساب الحقائق إذن، يستمد مبرره من النتائج الممتازة التي يجنيها الإنسان. كما أن التجربة ستتيح للصدق فرصة التمتع بما في الواقع من حيوية وثراء. وبالتالي فالحقيقة تبقى مجرد وسيلة  تتحقق من خلالها أغراض عملية، وليست غاية في ذاتها، وليست كواجب أخلاقي ينشد لذاته.

وفي نفس السياق الحجاجي، يمكن أن نقدم مثالا، لكي نوضح كيف يمكن أن ترتبط قيمة الحقيقة بالمنفعة والفائدة، وهو مثال النقاش الدائر بين المفكرين في مجموعة من المجالات، بخصوص نشأة الكون. حيث كثرت التفسيرات، فنجد تفسيرات ميتافيزيقية و أخرى لاهوتية وأخرى علمية… لكن رغم اختلاف تلك التفسيرات ورغم تعدد الحقائق، إلا أنها تبقى كلها قيمة، شريطة أن تحقق لنا نفعا سواء على المستوى النظري أو العملي. وكذلك بالنسبة للحقيقة الرياضية 1+1=2، فالذي يمنحها قيمة، هو كونها تقدم للإنسان نفعا عمليا ونظريا، وخاصة في مجال الحساب، ولولا تلك الفائدة وذلك النفع لفقدت قيمتها، ولتم وضعها خارج إطار الحقائق.

إذن، فقيمة الحقيقة تتجلى في الفائدة والمنفعة، أي الفائدة والمنفعة التي قد نجنيها منها. لكن، ألا يمكن أن يؤدي هذا القول إلى نسف الحقيقة، وإلى الخلط بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي؟ ألا يجب أن تتأسس قيمة الحقيقة على أساس ثابت يجعل قيمتها في ذاتها، ويجعل قيمتها قيمة مطلقة لا مجرد قيمة نسبية؟

لا يمكن أن ننكر أن لموقف وأطروحة القولة قيمتها الفكرية والعملية، فهذا الموقف أغنى وأثرى النقاش الفلسفي والابستمولوجي بخصوص قضية الحقيقة وخاصة قيمتها وأهميتها. إضافة إلى ذلك، فالحقيقة إذا ارتبطت بالواقع وبالفائدة والمنفعة، كان لها نفع وأثر على أرض الواقع، وهو ما يمكن تأكيده في الكثير من المجالات، كمجال التكنولوجيا والعلوم والمواصلات، حيث يتم توظيف الحقاءق لغايات عملية، وحيث لا تبقى الحقائق ككيانات جامدة. كما أن الكثير من الحقائق يستحيل الحسم فيها، وذلك لصعوبة تأكيدها أو تفنيدها، ولذلك سيكون من الأفضل البحث في أثرها على الواقع بدل البحث عن ما يؤكدها أو يفندها. لكن ربط الحقيقة بالمنفعة والفائدة، سيجعل منها مجرد وسيلة لا غاية، وسيجعل الحقائق مجرد حقائق نسبية لا مطلقة، حقائق تتغير بتغير الفائدة والنفع، وبتغير الأزمنة والأمكنة، وأيضا بتغير الأشخاص، كما أننا سنكون في وضع يصعب علينا فيه التمييز بين الحقيقة واللاحقيقة. وهنا يمكن أن نتساءل: كيف يمكن أن نجعل من الحقيقة غاية، وأن نجعل قيمة الحقيقة في ذاتها؟

إن ما قد يجعل الحقيقة قيمة في ذاتها، هو تأسسها على أساس ثابت، لا يتغير بتغير الغايات والمصالح، وبتغير والأزمنة والأمكنة… ولعل الأساس الذي قد يجعل الحقيقة مطلوبة لذاتها، هو الأساس الأخلاقي، حيث يكون قول الحقيقة واجبا أخلاقيا منزها عن كل منفعة وعن كل مصلحة. في هذا السياق يمكن الوقوف عند موقف وتصور الفيلسوف الألماني، رائدة الفلسفة الأخلاقية، إيمانويل كانط، والذي أقر بضرورة النظر إلى الحقيقة بوصفها غاية في ذاتها لا مجرد وسيلة. لقد نظر كانط إلى الحقيقة كقيمة أخلاقية وكغاية في ذاتها، وهذه الغاية  تتمثل في قول الصدق لذاته لا لأغراض عملية نفعية، لان قول الصدق في نظره يعتبر واجبا أخلاقيا، أو كما يقول كانط: “قول الحقيقة واجب أخلاقي”. إضافة إلى ذلك، يرى كانط أن “قول الحقيقة واجب يتعين اعتباره بمثابة أساس وقاعدة لكل الواجبات”. ويقدم كانط مثالا ليؤكد على عدم وجود حالات استثنائية يجوز فيها الكذب، مثال شخص يكذب على مجرمين سألاه عما إذا كان صديقه الذي يتعقبانه مختبئا في منزله، فإذا كذب يكون قد ارتكب جرما في حق الإنسانية، وبهذا يتحمل مسؤولية فعله الإجرامي. يقول كانط لنفترض أن هذا الصديق تسلل خلسة، ودون علمك، وهرب إلى الخارج، ولم تحصل الجريمة، لكن بالصدفة صادفه المجرمان في الشارع وقتلاه، في هذه الحالة تكون قد ساهمت بشكل غير مباشر في موته، وتصبح متهما أنت أيضا. وبموجب هذا الموقف تصبح قيمة الحقيقة في ذاتها، لا في نفعها وفائدتها كما، وفي هذا القول، نقد للذين اعتبروا الحقيقة مجرد وسيلة.

لكن الحقيقة ليست دائما غاية في ذاتها، ولا يمكن دائما أن نقول الصدق لأنه واجب أخلاقي. فقد أكد نيتشه مثلا، أن القيم الأخلاقية تتحدد من خلال الصراع بين العبيد والأسياد، وبالتالي لا وجود لخير في ذاتها كما ادعا كانط. إضافة إلى ذلك، أكد الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، أن الحقيقة تتخطى مجال المعرفة العلمية، إلى مجال السياسة، حيث لم يعد الحكم على الحقيقة من مهمة العلم والعلماء، بل من مهمة من يملك السلطة. ولربما هذا ما أراد عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو تأكيده من خلال كتابه، الذي اختار له عنوان “التلفزيون وآلية التلاعب بالعقول”.

خاتمة القول، أن قضية الحقيقة قضية فلسفية  موضوع إشكالي بامتياز. حيث أثيرت بخصوصها العديد من التساؤلات والإشكالات، وكانت موضوع نقاش وجدال في شتى المجالات: العلمية والفلسفية والدينية والفلسفة… وهو ما يؤكد أن للحقيقة قيمة وأهمية. لكن أساس قيمة الحقيقة ليس بالأساس الواحد، فالحقيقة تجد قيمتها تارة في ما تحققه من نفع وفائدة، وذلك حين يتم التعامل معها بوصفها مجرد وسيلة لا غاية. وتارة أخرى تجد قيمتها وأهميتها في ذاتها، وذلك حين يتم التعامل معها كغاية تنشد لذاتها وكواجب أخلاقي منزه عن كل مصلحة ومنفعة. لكن ألا يمكن أن تكون الحقيقة مجرد وهم كما اعتقد فريديريك نيتشه؟

إغلاق