تجارب التنوير ومخاطر اللاّتسامح د زهير الخويلدي
زهير الخويلدي أستاذ مبرز وكاتب فلسفي وباحث أكاديمي – تونس
” يجب تحرير الناقد من قدسية النظرية ومخاطبة السلطة بلسان الحقيقة”
– إدوارد سعيد-
انتشرت العديد من الكتابات النقدية للظاهرة الدينية من مشارب مختلف وضمن استراتيجيات متعددة واختلط فيها النقد الكانطي مع النفي الهيجلي والقلب الفيورباخي مع القراءة التاريخية المادية للماركسية، والجنيالوجيا النتشوية مع التحليل النفسي الفرودي والتقويض الهيدجري مع الوجودية العدمية عند سارتر، واختلاف دولوز مع خلخلة دريدا، والتشريح الأركيولوجي لفوكو مع البراغماتية الجذرية عند رورتي.
كل هذه النصوص التي كتبت في الفضاء الغربي من الفلسفة المعاصرة وكسبت شهرة كبيرة في العالم وعمّقت من درجات العلمنة والأنسنة والعقلنة في الديانات الكبرى والمعتقدات المروثة لدى العديد من الشعوب قد أنتجت جملة من النصوص الاستشراقية والمباحث الاستشراقية المعكوسة في الثقافة الشرقية تزعم ممارسة النقد والتفكيك والتشريح والمراجعة الجذري وتبشر بالتنوير والعقلانية والإنسية والمدنية، في حين أنها لم تتمكن على مستوى الواقع الاجتماعي من القضاء على التطرف والتشدد والغلو والتعصب ولم تقدر على إلغاء الإرهاب والعنف والتوحش الذي يستعمر ميكروفيزياء السلطة ويستوطن في الخطاب.
كما عرف الفكر العربي منذ قرابة قرنين انتشار تجارب تونير متعددة المشارب والمجالات وارتبطت بالداروينية والوجودية والفرويدية والماركسية واللبيرالية والعقلانية الديكارتية والنقدية الكانطية ولكنها أثمرت محاولات جدية في بعث مشاريع حضارية تنهمك في قراءة التراث من زاوية معاصرة بروح الحاضر وتدفع نحو اللحاق بالعالم المتقدم عن طريق تطبيق مناهج التحديث وسبل التطوير التي اتبعها.
والحق أن القراءة التي أخضعت لها الدين من خلال هذه التجارب التجديدية توزعت بين محاور ثلاث: قراءة استرجاعية احيائية تدعو إلى المحافظة وقراءة إلغائية استبعادية للعقائد وقراءة توفيقية تصالحية.
لقد كان سلاح التنوير عملية نخبوية بامتياز تم توجيهها للتحكم في الثقافة التقليدية للجمهور والسيطرة عليها من وجهة نظر معيارية واعتبارها فاقدة للقيمة والمعنى وفي عداد الماضي التاريخي اللاّعلمي.
لقد فشلت في اجتثاث ثقافة اللاّتسامح وعقلية الاستئصال وأعادت إنتاج آليات الإقصاء والإقصاء المضاد وبررت أسوأ الإيديولوجيات المفلسفة التي تستند إلى نظرة مانوية للحياة وتقر بامبريالية المعرفة المطلقة.
لقد ترتب عن اللاتسامح تجاه الذات الكثير من الويلات وتزايد الانقسام والتجزئة والضعف وسوء التفاهم الثقافي مع الآخر والدخول في صراع دائم مع المغاير والاشتباك العنيف مع القوى العالمية والقيم الكونية.
لم يكن نقد الفكر الديني الطريق السريع نحو التخلص من هيمنة الدين على مختلف أروقة الثقافة الشرقية وتاريخية المعتقدات والأديان لم تترجم إلى حركة مدنية ترجع النصوص المقدسة إلى طبيعتها البشرية ولم تتجاوز ذهنية التحريم وثنائيات الخير والشر، والإيمان واللاإيمان ولم تتمكن من إنتاج رؤية معيارية بعدية ومن فهم الوضع البشري خارج إطار المقدس والمدنس وفي السياق العادي للتحولات التاريخية والعلمانية.
علاوة على أن محاولات التوفيق بين الماضي والحاضر وبين الأصالة والمعاصرة وبين التقليد والتحديث فشلت بشكل لافت ولاقت امتعاض من الماضويين والمستقبليين ومن الذين يؤمنون بأهمية الاعتناء بالحال الحاضر وعطلت كل التجارب التنموية التي تريد مغادرة التخلف والخروج من التأخر ومقاومة الارتداد.
لقد ظهر بعد ذلك وعي بالمأزق وإحساس بعمق الأزمة وإرادة فعلية للرد على التحديات عبر مدارس نقد النقد ومابعد الحداثة والتفكيك المزدوج والتشريح المضاعف وعلم الاستغراب والنظرية مابعد الكولونيالية ولكن الفوضى الاجتماعية وقع تعميمها وأصبحت تنذر بالخطر والتفسير المنغلق للدين صار هو الملجأ والخلط بين المرجعيات وحرتقة المفاهيم أدى إلى نهاية المثقف وإفلاس السياسي وعودة الداعية والخبير وتصدعت الذات الحضارية بشكل غير مسبوق وبرز زمن الاضطراب واللاّيقين واليأس والبدائل السائلة.
من هذا المنطلق يظل مطلب التخلص من أشكال اللاّتسامح والإقصاء في ارتباط مع القضاء على منطق امتلاك الحقيقة المطلقة والانتماء إلى المذهب الصحيح يقتضي إجراء نقد متكامل للدين والمقدس والعقائد.
أما التسامح الفعلي فهي قيمة حضارية يجدر الاشتغال عليه بين مكونات الفضاء العمومي وضمن مجتمع المواطنين داخل السياق الحضاري وضمن التنوير الأصيل وبعد تنضيج أداة الوعي والنقد الثقافي الملتزم.
التسامح يبدأ بالحوار ويستدعي اللاّعنف ويكرس التفاهم بين مكونات الذات الجمعية ويشيد التوافق البناء والتعاقد الاستراتيجي على الخيارات الوطنية الكبرى التي تؤسس مستقبل الجماعة التاريخية التي تنتمي للوجود البشري وتبجل أسلوب فض النزاعات بالطرق السلمية ودفع النقاشات المصيرية إلى حدودها القصوى وتأجيل المعارك الإيديولوجية الطاحنة إلى مرحلة لاحقة واعتماد آلية الكتلة التاريخية للخلاص.
فماهو المخرج من هذه المراوحات التي أوقعنا فيها النقد الجانبي والتحديث المسقط والتفكيك الفوضوي؟ وكيف يتم بصورة مشروعة ربط التنوير الديني بالتصدي للإرهاب والتطرف؟ ألا يجب العمل على إيقاظ الوعي الذاتي وتفعيل حركات النقد من الداخل؟ وماهي القيمة الإجرائية لمحاولات النقد الثقافي لم تتمكن من مبارحة الصالونات الضيقة ومخابر الجامعات ولم تترجم إلى حركة أنسنة مجتمعية تُقِرُّ التعدد وتقطع مع الإقصاء؟ وكيف السبيل إلى اكتساب القدرة على التحمل من أجل تفكيك اللاّتسامح والاستفادة من النقد؟