الرأي المستنير والتفكير الإرادي د. زهير الخويلدي
زهير الخويلدي أستاذ مبرز وكاتب فلسفي وباحث أكاديمي – تونس
“التفكير الإرادي لا يوجد إلا لتحقيق الدوافع التي هي في أساسها غير إرادية”[1]
لقد درجنا بحكم تأثرنا بأفلاطون على وضع الرأي في مرحلة متدنية من سلم التفكير وتعودنا على اعتبار الموجود بالذات أهم من الموجود بالعرض. وسلمنا تحت هيمنة المنطق الأرسطي بأن المعرفة المنتظمة والمثمرة هي التي تستعمل العلة أولا وتدرك الغاية من وجود الشيء ثانيا. ولكن هذه العادات ليست سوى اعتقادات قاصرة تنم عن خضوعنا لسلطة الإغريق وعدم جديتنا في مباشرتنا لفعل المعرفة وعدم قدرتنا على إنتاج نمط في التفكير يخصنا، إذا ماذا لو سلكنا الطريق المعاكس ووضعنا التفكير في الدرجة السفلى من السلم المعرفي والرأي في الدرجة العليا وماذا لو اعتبرنا التفكير نفسه مجرد اعتقاد يخلو من الاختيار وفهمنا الرأي على أنه جودة الروية والتعقل السديد نرجح به كفة الصواب على الخطأ. لكن ماذا يعني التفكير أولا؟ وما منزلته من المنطق؟ وماهو الاعتقاد ثانيا؟ وكيف تجري المقارنة بينه وبين العلم؟ وما السبيل إلى التمييز بين الرأي والرأي الآخر؟
ما يسترعي الانتباه هو أن التفكير تجربة صعبة تقتضي المكابدة والتسلح بالإرادة والعزيمة ونصح الحكماء الناس بضرورة تعلم التفكير وطلب العلم وتحصيل المعرفة وعدم التعويل على المعرفة المباشرة والتفكير المشترك وبرروا ذلك بأن التفكير الحاذق هو الذي يعتمد على منهج واضح ويقوم بترتيب أدواته وتنظيم معارفه ويضع نصب عينه بلوغ جملة من الغايات وتحقيق عدد من الأهداف، وفهموا أن غاية الغايات هي معرفة الحقيقة وأن ذلك لا يتم بالإدراك الحسي أو بالحدس المباشر وإنما عن طريق انعكاس الفكر على ذاته والحدس العقلي والبحث الحر والمتروي وسموا ذلك تفلسفا أو تفكيرا فلسفيا ونعتوه بجملة من الصفات مثل كونه ينبع من الذات وتجربة شخصية ويتجه إلى المواضيع قصد إدراك العالم الخارجي وبالتالي هو أبعد من أن يكون مجرد جهد عقلي عقيم بل هو تجربة حية وحركة جدلية وطاقة ديناميكية يفجرها الإنسان ويغادر بها الجمود والسكون والثبات التي تميز الأشياء الميتة. كما أن التفكير ينبض بالحياة والتجدد وتعبث به الصيرورة ويتغذى من الحرية ويثور على القيود وينبذ البرمجة ويعشق التحليق ويستقل بمقولاته ومنهجه ولا يقف عند باب إلا وطرقه وعند سؤال إلا وطرحه ولا يتبع المناهج المستهلكة والأساليب المعتادة بل يبتكر بنفسه أسلوبه. ولعل أفدح الأخطاء التي وقع فيها المحدثون أنهم ألحقوه بالمنطق وقالوا عن هذا الأخير أنه علم العقل وفن التفكير وقانون التفكير الصحيح وعلم يبحث عن القواعد العامة للتفكير الصحيح وآلة قانونية تعصم عند مراعاتها الذهن في الوقوع في الزلل وتقوده إلى الحقيقة، وقد استنتجوا من ذلك أن من مقتضيات التفكير الإنساني اعتماد منهج والمرور بمراحل وتنظيم الآراء وترتيت الأفكار والبداية بالأسهل والبسيط والانتقال بعد ذلك إلى الأصعب والمعقد وهذا الأمر يسمى التفكير المنطقي وأن التفكير بحق هو الاستدلال المنطقي وأن الاستدلال هو أسلوب يسلكه الخطاب الحجاجي ونموذج صوري برهاني يشكل البنية الأساس في أي خطاب طبيعي وهذا الأخير عبارة عن نص مبني يتركب من عدد من الجمل السليمة مرتبطة فيما بينها بعدد من العلاقات تكون مثنوية أو جمعية، ثم يمكن ان يكون هذا الربط مباشرا وغير مباشر.وقد يكون النص الاستدلالي من الصنف التدريجي التي تسبق فيه المقدمات النتيجة أو من الصنف التراجعي الذي تأتي فيه النتيجة قبل بيان المقدمات.
بهذا المعنى اعتبروا الاستلال الأنموذج الحاضر في جميع المعارف الإنسانية سواء كانت صورية – برهانية أم رمزية –طبيعية وأحصوا أنواع من الاستدلالات مثل الاستدلال الصحيح والاستدلال الخاطئ والدحض والقياس والاستنتاج المباشر والاستقراء. غير أن مثل هذا الصنيع ليس سوى إلجام العقل عن التفكير وفسح البساط للمنطق لكي يهيمن على المعرفة ويستبد بالحقيقة بينما هو في الواقع فن أكثر منه قانون وأسلوب أكثر منه منهجا صارما واستمدت مقولاته من اللغة أكثر من الفكر ومن التاريخ الطبيعي أكثر من التاريخ البشري وتحتاج أولياته الى النقد والمراجعة أكثر من حاجة الفكر البشري اليه لكي يراجع أولياته ويسكت عن الكثير من النقائض والبديهيات التي يجب الآن مناقشتها وتسليط الضوء عليها وتفكيكها. وعوض التقدم نحو الأمام ومواصلة تسلق السلم المعرفي والذهاب الى الحدس خيرنا أن نعود إلى الوراء وأن نفتش في ما تركه المنطق خلفه واعتبره تافها ولا يرتقي إلى مرتبة العلم واليقين والبرهان ومجرد ظن سائد ووهم زائف، فهل يمكن أن نجد في الاعتقاد ما لم نجده في الاستدلال؟ وأليس الرأي أقرب الأشياء إلى قلب الانسان ودليله؟
أيها الإنسان أنظر في معتقداتك عسى أن تعثر فيها على حقيقة نفسك التي أضعتها في تفكيرك وتركتها في النسق المنطقي الذي احتميت به من الخطأ، أيها الآدمي فتش في آرائك لعلك تجد فيها نبراس الحكمة ومنبع الهداية وطريق النجاة وسبب السعادة وكنز الحياة ومنهاج العمل.
الاعتقاد هو الحكم الذهني الجازم القابل للتشكيك بخلاف اليقين الذي هو حكم ذهني جازم لا يقبل التشكيك. يفتقر الاعتقاد إلى الخصائص المنطقية والعقلية التي تتوفر عليها المعرفة وسبب تمسك الإنسان به دفع الضرر وجلب المنفعة. وبالتالي هو ظن لا ندري إن كان صادقا أو كاذبا لأننا لم نخضعه للنقد ولم نتثبت من صحته أو خطئه. كما يخلو الاعتقاد من الاختيار والحرية لأن المرء يكون مدفوعا إليه مضطرا بحكم الحاجة النفسية والضرورة الاجتماعية والعوز المعرفي. وبالتالي يفيد اطمئنان القلوب إلى شيء ما وتصديقها القاطع بفكرة معينة يؤمن بها مجموعة من الأشخاص مثل الاعتقاد في أهمية الدين أو العلم أو الفن.
في حين أن الرأي هو لغة من الرؤية والنظر والمعرفة العفوية. واصطلاحا هو الاعتقاد والظن والتصور الفردي. أما المعنى الفلسفي فيشير إلى الموقف الذي يتخذه الإنسان من قضية معينة ووجهة نظره الخاصة به والمتماشية مع قناعاته وأفكاره. أما الرأي الآخر هو تصور إنسان آخر مغاير للذات وهو حق الاختلاف والموقف المعارض والاتجاه المعاكس وحرية النقد وقبول نسبية الإعتقادات وتعددية المعرفة وتطور الحقيقة. لكن هناك الرأي المستنير الذي يصل إليه الإنسان بعد مداولة وحوار عقلاني مع نفسه ونقاش مستفيض مع غيره ويكون مثبتا عن طريق حجج ثابتة وبراهين صلبة ويمكن اعتماده كواسطة لإرضاء الطرفين: الأنا والآخر. ويمكن التمييز بين رأي فاسد يجلب المضرة على صاحبه ويوقعه في الجهل والتعصب ورأي سديد يجلب المنفعة لمعتقده ويقوده إلى المعرفة وكذلك يجب التفريق بين الرأي الشخصي الذي هو كلمة حاسمة موقف نقدي وشهادة على العصر والرأي العام الذي هو قوة رقابة وسلطة مضادة للحكم القائم ولا يمكن الاستهانة به.
لقد ذكر أبو نصر الفارابي:” إذا كان كل إنسان له رأي ما فإن قوله هذا رأي له”[2]، وبالتالي لا يجوز أن نعرف الرأي على أنه فكرة بما أنه في منطقة وسطى بين الباطل والصحة وبين الخطأ واليقين وبين الجهل والمعرفة ويمكن أن يرفض ويعتبر مجرد ظن أو يقبل ويتحول إلى علم إذا ما توفرت الأدلة على ذلك بينما الفكرة لا تقاس بعدد الذين يعتقدون فيها وقدرتها على الصمود أمام الدحض والتبكيت بل بمدى قربها من العقل ومطابقتها للواقع. فإذا كان الاعتقاد هو التصديق والتسليم بصحة أمرا ما والإيمان بأنه مطلق ونهائي وكلي فإن الرأي فهو الظن والشك والريبة والاحتمال وتعليق الحكم دون ترجيح أمر على أمر ولا يكفي الاعتقاد في رأي حتى نعتبره حقيقة لسببين: الأول هو أن الاعتقاد رأي دون حجة أو دليل والثني هو أن الرأي هو ما يحتمل التكذيب أو التصديق. هذا النحو يكون الرأي هو الاستعمال الحسن والعمومي للعقل ويتعاضد مع الحس السليم والفهم المشترك الذي لم يتثقف بعد عن طريق التعليم والتربية والتنوير الذي نجده لدى كل الناس وبالتالي هو “فكرة حس مشترك لدى الجميع أي فكرة ملكة حكم تأخذ بعين الاعتبار نمط تمثل كل الكائنات البشرية الأخرى عندما تفكر قبليا وذلك لكي تجعل أحكامها متفقة مع العقل الإنساني في كليته.”[3]
هكذا نصل إلى هذه النتيجة: لا يتحدد رأي الإنسان إلا بالتعارض مع آراء الآخرين والدخول معهم في نقاش وتفاوض والوصول إلى اتفاق وتفاهم، وان الرأي المشترك هو الذي يضمن توافق الحكم الشخصي مع سائر الكائنات العاقلة ويتوسط بين ماهو خصوصي وماهو كوني.
في نهاية المطاف هل يصنع الإنسان رأيه بنفسه أم أن الآراء هي التي تصنعه؟ ألا يؤدي إتباع العقل لعلم المنطق واحترام قواعده إلى الوقوع في التقليد ذاته؟ كيف يستطيع أن يعيش دون اعتقاد؟ ومتى رجع إنسان عن رأي اعتقد أنه يقين؟ وأليس لكل إنسان رأي حتى الذي لا رأي له؟ ولماذا حينما يكون العقل من دون منطق هو أكثر قدرة على التفكير وأكثر جرأة على نقد الواقع وأكثر حرية في التعامل مع الأفكار؟ ألم يجانب حكماء العرب الصواب لما حاولوا هدم المنطق الإغريقي وبحثوا بلا هوادة عن صناعة منطق لغوي له منزع كوني؟
المصادروالمراجع:
برندان ولسن، الفلسفة ببساطة، ترجمة آصف ناصر، كلمة ، أبو ظبي، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2009،
أبو نصر الفارابي، كتاب في المنطق، الخطابة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1976
Emmanuel Kant, Critique de la faculté de juger, éditions G. Flammarion, Paris, 2000.