الأسطورة الوسيلة والغاية، أفلاطون انموذجا.

زياد حمادي طالب باحث – المدرسة العليا للأساتذة – الرباط – المغرب

 

الأسطورة في “لسان العرب” (1) “وقال ابن بزرج: يقولون للرجل إذا أخطأ فكنوا عن خطئه: أسطر فلان اليوم وهو الاسطار بمعنى الأخطاء… والأساطير: الأباطيل، والأساطير أحاديث لا نظام لها، واحدتها اسطار واسطارة، بالكسر، وأسيطر وأسيطرة وأسطور وأسطورة، بالضم. و بالمعنى الواسع للكلمة، هي حكاية مكتوبة أو موروث شفهي، عبارة عن حكايات خرافية مستقاة من ثقافة معينة ; لكل شعب أساطيره المعبرة تقاليده ومعتقداته، وفي الغالب تأخذ شكل “أساطير بطولية” ترمي لوصف وسرد حكايات , ذات طابع رمزي , لكنها-الأسطورة- لعبت دورا غير مباشر كذاكرة تأريخية-ثقافية لدى ما يطلق عليه ستراوس “الإنسان غير الكاتب” (2)

أما الميثولوجيا بالضبط هي ما يعنينا في هاته الورقة , لا شك لدينا أن أصلها الإيتيمولوجي اغريقي النحت ; ينقسم مفهوم الميثولوجيا إلى شقين , “ميثوس” – ” Mythe” , وتعني حسب معجم “Le Grand  Larousse ” (رغم عدم استقرار التعاريف إلى واحد “جامع مانع” ) , “تقديم تصور ما عن حدث أو شخص كان له وجود تاريخي ولكن تدخل الخيال الشعبي أو التراث قد غير إلى حد كبير في صفته الواقعية باتجاه التضخيم طبعا” , أو ” ما هو خيالي صرف وعار من كل حقيقة.” , الشق الثاني “لوغوس” -“logos” , ومن معانيها : علم , نقد , نظرية , دراسة… إدن فالميثولوجيا هي علم الاساطير أو مبحث الأساطير , تهتم بدراسة الأساطير على اختلافها وتتناولها من زاوية الفهم والتحليل وتسلط عليها الضوء لكشف أسرارها وما بين طياتها .

يمكننا القول بتحفظ أن الأسطورة ظهرت والإنسان فهما متلازمين مع بعضهما بيد أن “الميثولوجيا” اشتد عودها واستقوت مع اليونانيين القدامى، فالمتصفح لكتب هزيود وهوميروس سيلفي في مؤلفاتهم قدرا هائلا من الأساطير الشعبية، بل تجاوز بعضهم درجات “أسطرة” الحكايات إلى دمجها مع شيء من الأحداث الواقعية كحرب طروادة في إلياذة هوميروس. “اتخذت الأسطورة في الفلسفة طابعا عقلانيا”(3) بمعنى أنها تأخذ “في الفلسفة” صورة إشكالات صريحة الصياغة , بعيدا عن التوظيفات التي كانت لدى الأمم الشرقية القديمة , ففي اليونان ومع ازدهار الدولة-المدينة وتوسع النشاط السياسي , لم يتبق من الاستعمال السابق للأسطورة شيء فقدت المعنى وانتزعت منها دلالاتها , بل توسل بعض الفلاسفة بها كوسيلة بيداغوجية في أعمالهم لشرح أفكارهم وإنزالها إلى قلب الخطاب المتداول في قالب رمزي دلالي , ونجمل ما قلناه عن وظيفة الأسطورة ونقول إنها خطاب- بدائي غايته رمزية تفسيرية أو دلالية إما خرافية أسطورية أو إقناعية .

أفلاطون كأي فيلسوف آخر بن بيئته، لم يكن بالإمكان أن يتفلسف خارج النظام الإيستيمي للمجتمع اليوناني الذي كان يحيا في كنفه، لكل عصر ضوابطه ومحدداته ومعاييره السوسيوتاريخية، الجغرافية، الفكرية السائدة، القيمية …. التي تحكمه و يتماهى وفق نظامها. فلا غرو إن قلنا مع ماركس “إن كل فلسفة هي خلاصة لروح عصرها” ; الأسطورة هي اللغة التي كان يتكلمها أولئك الناس في ذلك الزمان فليس من الغريب أو النشاز أن يتكلم بها فيلسوف كبير كأفلاطون , و يوظفها في أعماله , ويتوسل بها من أجل تصوير نظرياته وتبيان تصوراته التي تندرج ضمن نسقه ككل , والحال أنها -الأسطورة- قد توحي للوهلة الأولى  أنها شد عن الصواب أو نتم عن جهل أو تشبث بتقاليد بالية أو بحال من الأحوال تناقض “صارخ” , لشخص نفى الشعراء من مدينه , ومنع أنسنة الآلهة , وحرم تداول الأساطير في صفوف المربين لأنها “تفسد العقول” , لكن يكفي لكل ذي عقل أن ينظر مع “ريجيس دوبريه” من منظوره الميديولوجي , وليرى أن ذلك العصر – على اختلاف الرقعة الجغرافية – هو عصر “اللوغوسفير” (4) , وتنبغي الإشارة أنه من أجل فهم غاية توظيف الأسطورة من لدن أفلاطون , مراعاة السياق والرجوع إلى المتن الأفلاطون وتمحيصه وبالضبط الإلمام بنظريته في المعرفة التي شكلت الأرضية التي افترشها -أفلاطون-  ليشيد عليها صرحه الفلسفي الرصين , “فإن وسيلة أفلاطون في التعبير عن المثال الذي يتجلى فقط لعين النفس هي الأسطورة , من حيث أن تقنية الصور والرموز والمجاز والصياغة المسرحية التي تنطوي عليها الأسطورة هي , حسب أفلاطون , طريقة الإنسان لبلوغ الحقيقة المطلقة .وذلك ما توضحه في صورة أدبية رائعة أسطورة الكهف الشهيرة. ” (5) في حين يرى بول ريكور أن “الأسطورة هي قاعدة اللوغوس , بمعنى أنها طريقة تأويلية تحاول أن تبعث في الإنسان شعورا قادرا على ارجاعه , إلى أصل فقده , ومن التعبير عن الذي يمكن التعبير عنه . بهذا المعنى تلعب الأسطورة في النظام الفلسفي الأفلاطوني دور إدخال اللازمان في حديث البشر ووظيفة تعيين الواحد/ الماهية داخل اطر الخطاب الإنساني. إنها وظيفة تربوية في الأساس” (6)، في رأينا المتواضع أن استعمال الميتوس داخل خطاب “يدعي” اللوغوس ما هو إلا اعتراف ضمني بهيمنة الميتوس، وما هو إلا مؤشر على احتواء الفلسفة لأسطورة وترويضها لا التخلي عنها وقتلها، وقد كان هذا الاحتواء عن طريق إلباسها لبوس الرمز.

كما هو متعارف في الأوساط الفلسفية والعلمية والمنطقية أن ادراج الخطاب الأسطوري أو التوسل بالأسطورة في نص من النصوص أو خطبة من الخطب لهو ضعف مبين ورجعية خالصة , وصاحبه يفتقر لأسس المنطق وآليات الاستدلال الصحيحة , وحسبنا أن فيلسوفا كبيرا ك “ليون برانشفيك” رأى أن استعمال الأسطورة من لدن أفلاطون نوعا من التفكير البدائي (7) , ولما كانت الآراء هكذا تطعن في استعمال الأسطورة بدا لنا أنه من البديهي التصريح بأنها لا تقنع بشيء بل لا تشجب ولا تفيد في مصلحة , بيد أننا سنقول مع الفيلسوف باسكال ” للقلب أسبابه التي لا يعلم العقل عنها شيئًا” ما يحيى الإنسان بالعقل وحده , بل العقل قاصر وهذا ما يكشف عنه العلم الشيء الكثير , بل العلم نفسه ما هو إلا اعتراف بجهلنا . الأسطورة تخاطب الوجدان وتقتحم المناطق المظلمة التي يعجز العقل عن دخولها بالرغم من ملكاته، وجانب آخر علينا مراعاته هو مستويات الإدراك التي تتباين من شخص لآخر، فليس كل الناس يفهمون بالقدر نفسه، وأحيانا تكون الأسطورة أجدى نفعا من اللوغوس نفسه، صحيح أنه لا يمكننا الجزم بفعالية الأسطورة على حساب الحجج العقلية وقد يكون هذا مستحيلا، لكن للأسطورة منطقها الخاص ومن الخاطئ مقارنة التبر بالتراب، لكل منفعته الخاصة وما يفيد فيه، فمآزق المقارنات هاته لا تزيد إلا الوحل طينا.

     الإحالات والهوامش :

1-    – ابن منظور، لسان العرب، طبعة جديدة محققة، تحقيق عبد الله علي الكبير-محمد أحمد حسب الله- هاشم محمد شاذلي ،دار المعارف، القاهرة، بدون تاريخ، المجلد 3

2-      ليفي ستراوس : الأسطورة والمعنى  – ترجمة: صبحي حديدي

3-       دفاتر فلسفية -نصوص مختارة: “التفكير الفلسفي” – إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي ، ص 18  .

4-      الميديولوجيا- ريجيس دوبريه 

5-      محمد هشام -في النظرية الفلسفية للمعرفة: أفلاطون، ديكارت ,كانط- ص22 , منشورات أفريقيا الشرق

6-      المرجع السابق. ص41

7-      المرجع السابق نفس الصفحة

 

إغلاق