من أوهام العقل إلى منهجية التفكير في فلسفة فرنسيس بيكون – علي أسعد وطفة

من أجل بناء وضعية جديدة عمل بيكون على إبداع منهج جديد يمكن الإنسانية من تجاوز حالة الضعف المنهجي وبناء العلوم والمعرفة العلمية في أبهى صورها وأعمق أبعادها.

مقدمة :

د. أ. علي أسعد وطفة

ولد فرنسيس بيكون (Francis-Bacon) (1561 – 1626) في مدينة لندن في الثاني والعشرين من يناير عام 1561. ويتحدّر بيكون من عائلة ارستقراطية معروفة بمركزها السياسي والاجتماعي في بريطانيا. وقد شغل أفراد هذه العائلة عبر الزمن مناصب سياسية رفيعة في قصور ملوك إنجلترا. وكان أبوه السير نيكولاس بيكون حامل أختام الملكة إليزابيث وهو من أعلى مناصب الدولة في العصر، انتسب بيكون إلى جامعة كمبردج في الثالثة عشرة من عمره، وترك الجامعة بعد ثلاث سنوات من الدراسة فيها دون الحصول على شهادته العلمية وفي نفسه ازدراء لما كان يدرس فيها من علوم الأقدمين ومناهجهم([1]).

رحل إلى فرنسا وعمل في سفارة بلاده هناك ثم عاد إلى البلاد على اثر وفاة والده عام 1582. وبعد عامين انتخب عضوا في مجلس النواب البريطاني واحتل فيه مكانة مرموقة لما تميز به من قدرة كبيرة على الخطابة حيث أدهش الناس بخطبه السياسية المصقعة([2]). وقد عينته الملكة مستشارا فوق العادة للتاج الملكي في بريطانيا فتفنى في خدمة الملكة إلى حد أنه رافع ضد صديقه الكونت إسكس مطالبا بإنزال أشد العقوبة ضده وذلك بعد اتهام الملكة للكونت بالتآمر عليها.

تقلب بعدها في مناصب عديدة في عهد جاك الأول حيث شغل منصب الوزير الأول عام 1618. ولم يكن بيكون كما يبدو نزيها في تعامله حيث أتهم بالرشوة وجُرد من ألقابه وحقوقه بعد إثبات صحتها وسجن لبضع سنوات، وأصدر الملك عفواً عاما، ولكنً حقوقه لم تعد إليه سوى في أيام شارل الأول.

وعلى الرغم من أهمية الأدوار السياسية التي لعبها بيكون إلا أنه لم ينقطع عن متابعة نشاطه الفكري والعلمي في مجال الفلسفة حيث استطاع أم يسجل نفسه بين علامة فارقة في عصره في مجال التفكير الفلسفي والمنهجي. كان بيكون مفكراً متعدد المواهب إذ ترك تراثا فكريا في القانون والتاريخ والفلسفة. لكن التأثير الكبير الذي تركه بيكون كان في حقل في حقل الفلسفة والمنهج الفلسفي في التفكير وبناء المعرفة العلمية.

كان بيكون منهمكا في التفكير بمسألة العلوم وبناء مشروع لإصلاحها وقد شكل هذا المشروع هاجس بيكون العلمي وقد أطلق على مشروعه هذا “التأسيس العظيم للعلوم” (The Great Instauration of Sciences) ويمثل هذا المشروع تصورات بيكون لمفهوم العلم ومنهجه.

في مشروع هذا يصنف بيكون العلوم وفقا لمعيار صلتها بالطبيعة الإنسانية: فالفلسفة تعبر عن العقل، والشعر عن قوة التخيل، والتاريخ عن ملكة التذكر (الذاكرة). ويرى بيكون أن الفلسفة تتألف من ثلاثة مجالات رئيسية منفصلة: معرفة الله والطبيعة والإنسان. وذهب بيكون إلى أن البحث في الطبيعة يتفرع إلى نوعين: المعرفة النظرية والمعرفة العملية.

وتشمل المعرفة النظرية للطبيعة معرفة أصل الأشياء والحركات والخواص والأنواع؛ أما المعرفة العملية فتشمل الميكانيكا وأسرارها. وتحتم المعرفة النظرية دراسة الرياضيات، إذ بدون ذلك يستحيل فهم الطبيعة. ويشير بيكون إلى إحدى غايات معرفة الطبيعة الجوهرية: استخدامها للمنفعة الإنسانية، أو السيطرة على الطبيعة. وللوصول إلى هذه الغاية الكبرى يحتاج الدارس إلى منهج علمي واضح.

نقد بيكون للفلسفة القديمة

وجه بيكون نقداً شديداً لفلسفة العصور الوسطى ولأتباع منهج أرسطو في دراسة الطبيعة. ولم يسلم بعض الاستقرائيين من نقده، رغم أن بيكون دعا إلى منهج استقرائي في البحث، لكنه منهج استقرائي مغاير.

يقول بيكون في كتابه “التأسيس العظيم”: ” لو تصفح المرء بعناية كافة أنواع الكتب في الآداب والعلوم، لوجد تكراراً لا نهائَيٍ للشيء نفسه. هناك اختلاف في طريقة المعالجة، لكن لا جديد في المضمون، إلى درجة أن هذا المخزون من الكتب، على كثرته لأول وهلة، تتبين ضحالته بعد الفحص. أما من حيث قيمته وفائدته، فيجب الإقرار بصراحة بأن الحكمة المستمَدة أساساً من الإغريق هي بمثابة صبا المعرفة ليس إلا، وأنها تتسم بالصفة الرئيسية للصبية: تستطيع الكلام، لكنها عاجزة عن الخلق، وذلك لأنها مثمرة في مجال الخلاف، لكنها عقيمة في مجال الإنتاج. وحالة المعرفة كما هي عليه الآن يمكن أن نرمز لها بالأسطورة القديمة عن سيلا (Seylla) التي لها وجه ورأس عذراء بينما رحمها محاط بالوحوش النابحة التي يتعذر الإفلات منها. وبالمقارنة، فإن العلوم التي تعودناها مواقف عامة تتحلى بحسن المظهر والمداهنة، ولكنها حين تعرض للجزئيات، حيث يتوجب عليها أن تنتج الثمر والأعمال، تَبرز الخلافات والمناظرات الصاخبة، والتي هي نهاية الأمر، وكل القضية الناتجة (عن هذه المواقف العامة). نصيحتي الأولى (وهي أيضاً دعائي) أن يحصر الناس الحاسة”([3]).

ويمكن القول باختصار أن بيكون هاجم الأوضاع القديمة ونقدها ويتمحور نقده في أمرين:

1- المناهج التي اعتمدها القدماء غير نافعة في الوصول إلى نتائج عملية و لم يكن هف القدماء الوصول إلى نتائج عملية.

2- المنطق الصوري الذي اعتمدوه لا يفيد علما جديدا، إنما هو ترسيخ للمعلومات السابقة وتأكيد لها.

ومن أجل بناء وضعية جديدة عمل بيكون على أبداع منهج جديد يمكن الإنسانية من تجاوز حالة الضعف المنهجي وبناء العلوم والمعرفة العلمية في أبهى صورها وأعمق أبعادها.

المنهج الجديد ( الأورغانون الجديد)

يهاجم بيكون المنهج الكلاسيكي الصوري الذي يتمثل في المنطق القديم عند أرسطو. وينطل في نقده على أساس أن المنطق الكلاسيكي هذا لا يقدم جديدا حيث تكمن الحقائق في المقدمات التي يجب التسليم بمضامينها. ومهما أمعنت في البحث والتقصي فأنت محاصر بحدود المقدمات التي تفرض نفسها بأنها مسلمات لا يعتريها الخلل. وعلى هذا الأساس أراد ابتداع منهج آخر في البحث يمكن أن يعوّل عليه في عملية بناء المعرفة الإنسانية على دعائم علمية وركائز منطقية ثابتة. وفي معارضته للأورغانون القديم لأرسطو أسس بيكون ما يسمى بالأورغانون الجديد ليعارض به منطق أرسطو ومنهجه الكلاسيكي. والأورغانون الجديد هذا لا ينطلق من المقدمات المنطقية بل ينطلق من الواقع ويعتمد على الملاحظة والتجربة في إقرار هذا الواقع والكشف عن الحقائق الجديدة التي ينطوي عليها.

لقد أدرك بيكون أن المنهج الاستقرائي ليس جديدا على المعرفة في عصره أو في العصور التي سبقته ولكنه كان يسعى إلى وضع نظام استقرائي حسي دقيق ومنظم يمكن المعرفة من الانطلاق بعيدا في غور الزمن القادم. لقد أراد بيكون أن يضع للعقل الإنساني خطة حسية تجريبية جديدة تأخذ به إلى آفاق رحبة. ولكن بيكون كان يرى أنه من الضرورة بمكان قبل البدء بممارسة المنهج الجديد أن يتم تطهير العقل من أوهامه وتحطيم الأصنام التاريخية التي تدمر كل إمكانية تتجه إلى تطوير العقل والانتقال بالمعرفة إلى مراحل متقدمة.

أوهام العقل وأصنامه:

يتحدث بيكون عن مجموعة كبيرة من العوامل والمؤثرات التي تمنع العقل من الوصول إلى الحقيقية الموضوعية ويطلق على هذه العوامل المعطلة لحركة العقل ونشاطه الموضوعي تسمية الأصنام حينا والأوهام حينا وأخطاء العقل في أكثر الأحيان. وترمز أوهام العقل إلى الصور التي ترتسم في العقل عن الحقيقة دون الحقيقة نفسها، كما ترمز إلى الأفكار التي تؤخذ على أنها صحيحة وهي ليست من الصحة في شيء. ويرى بيكون أن هذه الأوهام هي مصدر العطالة العقلية والجمود. فهذه الأوهام تمنع العقل من الانطلاق إلى غايته كما أنها تعطل فيه القدرة على بناء الحقيقة الموضوعية.

وعلى هذا الأساس يرى بيكون أن بناء المعرفة الصحيحة لا يمكن أن تتم إلا بعد تصفية هذه الأوهام وتدميرها وتطهير العقل من أدرانها. وهكذا تبدأ الخطوة الأولى في إعادة الاعتبار إلى العقل في تحرير العقل من أوهامه وتحطيم الأصفاد التي تمنع انطلاقته. ومن أجل هذه الغاية فإن بيكون يقترح منهجه المعرفي الحسي التجريبي من أجل تخليص العقل ن محنته ومساعدته على تجاوز أوهامه وتحطيم أصنامه في عملية الكشف عن خفايا الكون وغوامض الحقيقية.

ويصنف بيكون هذه الأوهام والأخطاء والأصنام إلى أربعة أصناف أساسية وفقا لطبيعتها ومصدرها وهي: أوهام القبيلة (الجنس) وأوهام الكهف ثم أوهام السوق وأوهام المسرح.

1- أوهام القبيلة (Idols of the tribe)

 تجد أصنام القبيلة أساساً لها في الطبيعة البشرية ذاتها وهي واحدة بالنسبة إلى البشرية جميعا. فالطبيعة الإنسانية بخصائصها الإنسانية تشكل مصدر هذه الأوهام وهي موجودة في الجنس البشري بعامة وليست حكرا على جماعة من الناس. وعلى هذا الأساس فإن بيكون يطلق عليها أوهام القبيلة أو الجنس.

لقد زعم الإنسان أنه مقياس الأشياء كما لاحظنا ذلك في مبدأ بروتاغوراس ولكن الحقيقية هي أن الإنسان مقياس لنفسه أو لجنسه فالحقيقة هي كما تبدو له وليس كما تتجلى في الكون. فأحاسيس الإنسان ليست مطابقة للأشياء التي توجد في الواقع. يقول بيكون في وصفه لهذا النوع من الأصنام :” هذه هي إذا الأصنام التي أدعوها أصنام القبيلة، والتي تنشأ من تجانس مادة الروح البشرية، أو من انهماكها، أو من ضيق أفقها، أو من حركتها الدائمة، أو من تأثير العواطف، أو من عدم أهلية الحواس، أو من طريقة التأثر”.

فالعقل الإنساني ليس كالمرآة الصافية التي تعكس صور الأشياء كما هي دون زيادة أو نقصان، بل هو أشبه بالمرآة المقعرة أو المحدبة التي تعكس صور الأشياء لا الأشياء نفسها. وهذه الصور المعكوسة لا تطابق الواقع كما هي عليه بل تضفي عليها تحولا وتغييرا لا يوجد في صورة الأشياء ذاتها. وهذا يعني أن الإدراك الإنساني لا يقدم لنا صورا مطابقة للحقيقية في الواقع.

 فالإنسان على سبيل المثال يضفي درجة من النظام والدقة على الكون أكثر مما هو عليه الأمر في الواقع. ومن أوهام الجنس مثلا أن الإنسان إذا سلم بصحة قضية ما فإنه يرفض أن يرى ما يناقض هذا التسليم وهنا ينشأ ما يسمى بالتعصب للرأي. والإنسان مثلا ينسى المواقف المحرجة والمخجلة في حياته بينما يذكر بقوة الأشياء الجميلة. ويمكن أن نسوق عددا كبيرا من الأمثلة الحيّة على وجود هذا النوع من الأخطاء المطبوعة. وهناك تدخل كبير للعواطف والانفعالات الإنسانية. فالإنسان لا يرى عيوب من يحب ولكنه يرى أدق عيوب الذي يكره وفي هذا يقول الشاعر العربي :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

كما أن عين السخط تبدي المساويا

2- أوهام الكهف (Idols of the cave)

أوهام الكهف هي الأوهام التي يختص بها الإنسان الفرد منفردا بذاته عن غيره. فلكل إنسان كهف خاص به، ويرمز الكهف إلى طبع الإنسان المنفرد ومزاجه كما كونته الطبيعة. فبعض العقول مثلا تنزع إلى التحليل وترى أوجه التباين الدقيقة في بنية الأشياء، أما بعض العقول فتميل إلى الكشف عن أوجه التكامل في الأشياء وهي عقول أميل إلى التركيب منه إلى التحليل. وبعض العقول تقدر القديم وتهفو إليه لأما بعض العقول الأخرى فهي تقدر الجديد وتسعى إليه وتبتهج به. إذن فإن روح الإنسان (كما هي موزعة على الأفراد المختلفين) قابلة للتغير ومليئة بالاضطراب، وكأن الصدفة تتحكم بها. فقد صدق هرقليطس (Heraclitus) حين لاحظ أن الناس يبحثون عن العلوم في عوالمهم الخاصة الضيقة، وليس في العالم الكبير أو المشترك. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن أصنام الكهف تنشأ من التكوين المتميز، البدني والذهني، لكل فرد، وتنشأ أيضاً عن التربية، العادة، والصدفة.

3 – أوهام السوق (Idols of the market)

 تتشكل أوهام السوق من خلال التعامل والمخالطة بين الناس، وقد أطلق على هذه أصنام السوق، وذلك لأنها تنشأ أثناء تبادل العلاقات والمشاركة بين الناس هناك (أي، في السوق). بواسطة الكلام يتفاعل الناس مع بعضهم البعض، ويتم فرض الكلمات حسب فهم العامة لها. ونتيجة لذلك فإن سوء اختيار الكلمات يشكل حجر عثرة في طريق الفهم. ولا تساعد التعريفات والتفسيرات التي دأب المتعلمون على الدفاع عن أنفسهم بها في بعض الأمور، في أي حال من الأحوال، على تقويم ما اعوجّ من الأمور. ومن الواضح أن الكلمات تكره الفهم وتتغلب عليه، وتخلق البلبلة لدى الجميع، وتؤدي بالناس إلى جدالات عقيمة لا حصر لها وإلى خيالات عابثة([4]).

4- أوهام المسرح (Idols of the theater)

هنالك أوهام هاجرت إلى عقول الناس من العقائد المختلفة في الفلسفة، ومن قوانين البراهين الخاطئة. هذه الأصنام يعوها أصنام المسرح، فكل النظريات الشائعة ليست إلا مسرحيات تمثل عوالم خلقتها هي بصورة غير واقعية وشكلية. فعلى سبيل المثال العالم الذي يصفه أفلاطون ليس إلا عالم بناه أفلاطون وهو يعكس روح أفلاطون أكثر مما يعكس العالم الحقيقي. وأوهام المسرح ليست فطرية، ولا تتسلل إلى الفهم خلسة، ولكنها تنطبع في الذهن عن طريق الكتب المسرحية لنظريات الفلسفة وقواعد البراهين الخاطئة

خلاصة في الأوهام

هذه الأوهام الأربعة للعقل قد تجتمع في شخص واحد وقد يكون بعضها أكثر تأثيرا وحضورا من الآخر. فبعض الأشخاص مثلا تتأصل فيهم أوهام المسرح أكثر من البعض الآخر وبعض الناس تجدهم أكثر تأثرا بأوهام السوق من الآخرين.

فلكل شخص معادلته من الأوهام الأربعة التي يميزها بيكون. ويمكن التمييز بين هذه الأوهام في مواقف محددة فالشخص الذي يقول بأن الشمس تدور حول الأرض فإنه يخضع لتأثر وهم القبيلة لأنه يرى ما تدله عليه عيناه وهذا مشترك بين البشر وخداع الحواس عام بين البشر. فإذا قام هذا الشخص بتعليل دورانها حول الأرض بالكلمات التي يستخدمها الناس وبما هو ذائع بين البشر فإنه يخضع لتأثير أوهام السوق لأن هذا الوهم ينشأ عن تبادل العلاقات والكلمات بين الناس. وإن دلل هذا اشخص على صحة قوله بما جاء به بطليموس في هذا الموضوع فإن الوهم يكون مسرحيا أي هذا التأثر الذي ينجم عن عقائد الفلسفة ومسرحياتها. ولكن إذا كان هذا الرأي الذي كونه الشخص عن ملاحظاته الخاصة ومحاكماته الخاصة فإن هذا الوهم يكون كهفيا لأن الشخص هو مصدر هذه المحاكمة الخاطئة([5]).

هذه هي أوهام العقل وتلك هي أصنامه وبالتالي ولابد للعقل إذا أراد أن ينطلق من أن يحطم هذه الأصنام ويدمر هذه الأغلال ويطهر نفسه من هذه الأخطاء التي تمنعه من الانطلاق نحو الحقيقة. ولا بد للإنسان من طريقة جديدة يعتمدها في البحث عن الحقيقية في أصفى وجوهها وأنقى تجلياتها في مأمن من هذه الأوهام. وهذه الطريقة التي يعلنها بيكون هي منهج البحث التجريبي وهو اسلوب جديد في النظر والتأمل يمّكن الإنسان من الوصول إلى عين الحقيقة بأقل درجة من الخطأ الممكن والمحتمل([6]).

طريقة بيكون ومنهجه

يؤسس بيكون لمنهج أصيل في البحث والنظر يمكن توظيفه بفعالية في غسل العقل من الأوهام والانطلاق بقوة ورشاقة إلى عين الحقيقة. يطلق على هذا المنهج الجديد اسم المنهج التجريبي ” ويودع أسرار هذا المنهج في كتابه المعروف “الأورغانون الجديد” تيمنا بكتاب أرسطو في المنطق الذي أطلق عليه “الأورغانون ” أي آلة التفكير. فبيكون يطرح منطقا جديدا للبحث يتمثل في خطوات البحث التجريبي الذي يبدأ بالملاحظة ثم بالفرضية ثم بالاختبار وينتهي بالكشف عن قانونية الظاهرة.

يرى بيكون أن منهجه التجريبي هو المنهج الصحيح والطريق السليم من أجل الوصول إلى المعرفة. ويرى بأن إتباع هذا الطريق يؤدي إلى الكشف عن الحقائق كشفا علميا يتميز بالأصالة والدقة. وهو في هذا السياق يرى بأن اختلافه مع الآخرين إلا اختلافا في الطريقة وليس في غيرها. ويورد بيكون هذا المثل في التدليل على موقفه وفي اعتراضه على منهج الأقدمين في الكشف عن الحقيقة يقول المثل: إن الأعرج الذي يسلك الطريق الصحيح أسبق من العداء الذي يسلك الطريق الخطأ. وأكثر من ذلك، من الواضح أنه عندما يسلك المرء الطريق الخطأ، فكلما كان أنشط وأسرع كلما حاد عن الطريق الصحيح أكثر.

تبدأ طريقة بيكون بالشك في المسلمات القائمة وفي البديهيات الناظمة وهو إذ يبدأ بالشك يخالف الآخرين الذين يسلمون بطائفة من القضايا والمقدمات. ويورد بيكون في هذا الاتجاه رأيا يتصف بالجمال والحكمة حين يقول: إن الإنسان عندما يبدأ باليقينيات فإنه سينتهي بالشك ولكنه عندما يبدأ راضيا بالشط فإنه ينتهي باليقين([7]). فالبداية في منهج بيكون هي رفض اليقين والبداية بالشك في المسلمات والمقدمات التي تؤخذ على أنها ثابتة نهائية مطلقة.

ثم تأتي المرحلة الثانية حيث يلاحظ بيكون بأن المنطق الكلاسيكي في البحث يبدأ من المقدمات في اتجاه الكشف عن الواقع وهو بذلك لا يقدم جديدا فالحقيقة كامنة في المقدمات والمسلمات والبديهيات. فما هي مثلا النتيجة الجديدة التي نكتشفها من هذه المقدمة المعروفة في المنطق الكلاسيكي: كل إنسان فان، وسقراط إنسان، والنتيجة هي أن سقراط فان. ألا نرى مثلا بأن النتيجة موجودة في المقدمة وأن هذه المحاكمة صورية لا معنى لها ولا جديد فيها.

خطوات المنهج التجريبي عند بيكون

تتمثل مراحل المنهج التجريبي عند بيكون بالخطوات التالية :

1- الملاحظة جمع المعلومات:

تبدأ منهجية بيكون في ملاحظة الظواهر والأشياء في الواقع بصورة منهجية ومستمرة. وهنا على الباحث أن يواظب على جمع المعلومات والبيانات. فالإنسان لا يستطيع أن يفهم من الظاهر أكثر مما يلاحظه. يقول بيكون في هذا الخصوص: يستطيع الإنسان، وهو خادم الطبيعة ومفسرها، أن يعمل وأن يفهم، فــقط بقدر ما يلاحظه في الواقع، أما خارج حدود ذلك فهو لا يعرف شيئاً ولا يستطيع أن يفعل شيئا ً. وهذا يتطلب من الباحث أن ينطلق من ملاحظة الظاهرة التي يبحث فيها وأن يقوم بتنظيم هذه الملاحظات بصورة منهجية حيث يستطيع أن يجمع ما يكفي من المعلومات حول الظاهرة المدروسة.

2- كشف الصور (قانونية الظاهرة):

في هذه المرحلة يقارن الباحث بين جوانب الملاحظات التي جمعها. ويتم تنظيم هذه الملاحظات وجولتها والكشف عن مظاهر الاتفاق والاختلاف في حدوثها. ويبدو أن تعريف بيكون للصورة كان غامضا إلى حد ما فهو يعرفها بقوله ” صورة الظاهرة هي التي أذا أضيفت إليها أكسبتها ماهيتها، وإذا ما انتزعت منها تلاشت طبيعتها “. ويمكن القول بأن صورة الظاهرة هي القانون الذي يحركها ويسيرها. فصورة الحرارة أو صورة الضوء لا تعني أكثر من قانون الحرارة أو قانون الضوء. وهذا هو الأمر الذي يدركه سبينوزا الذي يقول بأن قانون الدائرة هو جوهرها([8]). وباختصار يمكن القول بأن كشف الصور هو الكشف عن القانونية التي تحكم الظاهرة الخاضعة للملاحظة.

3- جداول الاستنتاج:

في هذه المرحلة يقارن الباحث بين الملاحظات لاستخراج ما هو عرضي وما هو جوهري ثابت فيها. وهنا يتوجب على الباحث بناء قوائم يسجل فيها الأمثلة المؤيدة والمضادة للتأكد من صدق المعطيات الدالة على جوهر الحقيقة للظاهرة المدروسة.

4- التنحية والعزل:

في هذه المرحلة حيث يتم عزل الملاحظات الجوهرية بعد المقارنة عن الملاحظات العرضية. وهنا يتم رفض الملاحظات الجزئية غير الدالة على القانون ويحتفظ بالملاحظات القوية التي تؤيد فرضية الباحث في اتجاه البحث عن الحقيقة. وهن بالتأكيد يعتمد الباحث على القوائم التي سبق له أن قام بتنظيمها وتدوينها.

5- الأمثلة المرجحة:

قد يحدث نوع من التوازن بين الملاحظات القائمة ومعطياتها ةقد يصعب على الباحث أن يرجع بعضها دون البعض الآخر. وهنا يتوجب على الباحث من جديد أن يتقفى بعض المعطيات بالعودة إلى ملاحظة الظاهرة من جديد لتقفي وضعية التوازن وترجيح الملاحظات الأكثر قوة هذه المرة في الوصول إلى قانونية الظاهرة المدروسة([9]).

ويمكن باختصار ترجمة هذه المراحل بصورة أكثر سهولة إذا قلنا بأن مراحل المنهج التجريبي عند بيكون تتمثل في الخطوات الأربعة التالية :

  • جمع البيانات والمعلومات عن طريق الملاحظة.
  • ترتيب هذه المعلومات وتصنيفها وفق قوائم محددة
  • الاستقراء الحقيقي أي الكشف عن الخصائص الذاتية للظاهرة المدروسة.
  • التحقق والإثبات ومراجعة المعطيات من أجل الوصول إلى القانون الكلي ([10]).

هذا ويمننا أن نميز في هذا المنهج الخطوات الكلاسيكية للبحث العلمي وهي: الملاحظة، والفرضية، والتجربة، ثم التعميم أو الوصول إلى قانونية الظاهرة.

ويقارن بيكون بين منهجه الحدسي التجريبي هذا وبين المناهج الكلاسيكية السائدة في عصره، فيتحدث بيكون عن ثلاثة مناهج أساسية ممكنة وهي:

1- منهج النمل: وهو المنهج التجريبي الخالص فالنمل يجمع الحب من كل مكان ثم لا يستطيع أكله والباحث التجريبي الذي يعتمد على التجربة يجمع معطيات ثم لا يستطيع معالجتها والاستفادة منها.

2- منهج العنكبوت: وهو المنهج التأملي الخالص حيث يعتمد فيه الباحث على التأمل دون التجربة وهو أشبه بالعنكبوت الذي ينسج خيوطا من ذاته حيث لا يطبق النظرية ولا يراها في الواقع

 3- منهج النحل: وهو المنهج العلمي الصحيح، فالنحل ينطلق في الحقول ويلعق الأزهار ثم يحول رحيق الأزهار إلى عسل مصفى مباشرة. وهذا يعني أن الباحث العلمي يجب أن يجمع ويكامل بين المنهج التجريبي والمنهج التأملي. وهذا المنهج هو المنهج العلمي الصحيح الذي يعتمده بيكون في بحثه عن الحقيقة وفي تقصيه للمعرفة الإنسانية.

يقول بيكون في هذا الخصوص شارحا طبيعة المناهج القائمة :

” أولئك الذين انشغلوا بالعلوم كانوا إما رجال تجارب أو رجال مذاهب، رجال التجارب يشبهون النملة، يجمعون ويستهلكون فقط. أما رجال العقل فيشبهون العناكب التي تنسج بيوتها من خيوطها. ولكن النحلة تأخذ طريقا وسطا: تجمع موادها من زهور الحديقة والحقل ثم تحولها وتهضمها بقواها الذاتية”.

الفكر التربوي عند بيكون :

يقول فاخر عاقل في وصف العطاء التربوي لبيكون :” إن بيكون أعظم من امتد بصرهم إلى التغييرات المقبلة في طبيعة الحياة الفكرية والتربية. نعم إن معلوماته عن المشاكل والعمليات التربوية قليلة واهتمامه بها ضحل وكتاباته عنها نادرة، إلا انه هدى الفلسفة والحياة العقلية جمعاء إلى أهداف جديدة. لقد رفض الهدف القديم الذي كان مقبولاً في أيامه (ونعني به الصياغة النظرية للمعرفة) وتبنى الهدف العملي المفيد وقال بأن من الواجب أن تكون الحياة العقلية مثمرة عن طريق جعلها عملية، وما يصح قوله عن الحياة العقلية عامة يصح عن التربية أي طريقة الحصول على هذه المعرفة ومتى أصبحت مثمرة تصبح مفيدة لجمهرة الناس بدلاً من الخاصة الذين كانوا يحصلون عليها “([11]).

وفي هذا القول تكمن جوهر الفلسفة التربوية عند بيكون. لقد أراد بيكون أن يجعل التربية مثمرة عمليا وقادرة على التجاوب مع الحياة الإنسانية تجاوبا حيا وفعالا. لقد حدد وبصورة عامة منهج التفكير والبحث وهو أعظم ما وهبه للتربية وأكد على أهمية العلوم والعلوم الطبيعية وعمل على تحرير الإنسان من أوهام العقل ليصبح أكثر قدرة على اكتناه الحقيقة.

مادة التربية ومنهجها

كان بيكون يعمل علة بناء مملكة للمعرفة الإنسانية وكان يسعى إلى تنظيم هذه المملكة وتصنيفها. وفي مملكته هذه كان يؤسس لمعرفة علمية طبيعية ترتبط بحاجات الإنسان وهمومه ومشكلاته وكان في ذلك رافضا للتربية على أساس العلوم الشكلية والأدبية التي كانت سائدة في عصره. فالمعرفة العلمية التي تدور حول الطبيعة يمكنها أن تتجاوز بالإنسان مرحلة الاختلافات والصراعات الناجمة عن العلوم الأدبية والشكلية. والمعرفة العلمية الجديدة يمكنها أن تدفع بالتقدم الإنساني خطوات بعيدة المدى إلى الأمام.

فبيكون يعطي العلوم التي تدور حول الطبيعة موقعا مركزيا في فكره التربوي، ثم يأني دور المعرفة التي تدور حول عقل الإنسان وهي: اللغة والآداب والفنون.

وهنا نجد أن بيكون كان يعمل على ترسيخ المعرفة التي تأتي عن طريق الحواس وهي المعرفة العلمية المثمرة في المدارس وفي غيرها من المؤسسات التربوية لأن هذه المعرفة هي المعرفة الوحيدة النافعة وبالتالي فإن هذه المعرفة هي جوهر المشروع الكبير الذي يسعى إليه بيكون. ولكنه في الوقت نفسه يرى بأن العلوم القائمة على الحواس لا يمكنها في أي حال أن تضيء الجوانب المعرفية التي لا ترتبط بواقع الإنسان الحياتي مثل الدين والعقائد حيث يقول في ذلك: ” فالحاسة مثل الشمس التي تكشف وجه الأرض وتحجب وجه السماء “.

لقد كانت التربية بالنسبة لبيكون مثلها مثل العلم فما هي إلا وسيلة لغاية وهي سيطرة الإنسان على الطبيعة (فالعلم البشري والسعادة البشرية صنوان). وفي هذا السياق يورد بول منرو في كتابه المرجع في تاريخ التربية نصا يرى أنه يلخص موقف بيكون من غرض التربية :” ليس الإنسان سوى خادم للطبيعة ومترجم لها، فكل ما يصدر عنه وما يلم به ما هو إلا ما يلاحظه عن نظام الطبيعة في الحقيقة والفكر. وفيما عدا هذا فإنه لا يعلم شيئا ولا يمكنه القيام بشيء، لأن سلسلة الأسباب لا يمكن لأي قوة فصم عراها، ولا يمكن السيطرة على الطبيعة إلا بالخضوع لها. وعلى ذلك فإن هذين الموضوعين التوأمين وهما المعرفة البشرية والقوة البشرية يلتقيان في الواقع في نقطة واحدة، وسبب الفشل يكون في جهلنا بالأسباب “([12]).

وقد جسد بيكون هذه الأفكار في كتابه ” الإتلانتس الجديدة” حي خصص الفصول الأخيرة منها لوصف الجامعة الخيالية التي أطلق عليها ” بيت سليمان ” حيث نجد مناهجها ومباحثها تدور حول الطبيعة وحول المنهج العلمي وهي جامعة عملية تهمل على خدمة أغراض الناس وحياتهم أكثر مما كان سائدا في عصره ولعله أراد أم يجعل من هذه الجامعة المتخيلة صورة لأحلامه الفلسفية والفكرية.

أما فيما يتعلق بطريقة التربية: فالطريقة التربوية هي محض تطبيق لنظريته الحدسية. فالتربية يجب أن تنهج منهجا حسيا حدسيا. وقوام هذا المنهج كما فصلنا فيه يعتمد على المنهجية العلمية التي يعتمدها بيكون وهي الانتقال من الجزئيات إلى الكليات عبر منهج منظم ومحدود ورفض المنهج التأملي العنكبوتي او التجريبي الخالص في عملية تحصيل المعرفة والمعرفة العلمية تحديدا.

خلاصة

 وباختصار يمكن القول بأن بيكون استطاع أن يرسخ منهجا جديدا وأصيلا في التفكير والنظر والعمل كما أنه تمكن من إعادة الاعتبار إلى العلوم الطبيعة، واستطاع بعبقرية نادرة أن يحدد لنا منهجا أصيلا في التفكير والعمل والنظر، كما أنه تمكن من التأثير في كثير من المفكرين والمنظرين التربويين في مختلف أصقاع الدنيا. وهو يعد بحق كما سبقت الإشارة مؤسس النزعة الحسية التجريبية في الفكر والتربية على حدّ سواء. ويمكن لنا في هذه اللحظة الختامية أن نحدد أهم الأفكار التربوية للنزعة الحسية التجريبية عند بيكون.

مراجع وهوامش المقالة :

[1]- ول ديورانت، قصة الفلسفة، ، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، مكتبة العارف، بيروت، 1985،  ، ص 136.

[2]- محمد عبد الرزاق شفشق، الأصول الفلسفية للتربية، دار البحوث العلمية، الكويت، 1980، ص 195.

[3]- فرنسيس بيكون، “التأسيس العظيم”، ترجمة سعيد زيداني، موقع جامعة بيرزيت، http://home.birzeit.edu/phil-cs/arabic/publications/book/beacon.html.

[4]- ول ديورات، قصة الفلسفة، مرجع سابق، ص 166.

[5]- محمد عبد الرزاق شفشق، الأصول الفلسفية للتربية، مرجع سابق، ص 203.

[6]- وليم كلى رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمود سيد أحمد، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2001، ص62.

[7]- ول ديورانت، قصة الفلسفة مرجع سابق، ص 167.

[8]- ول ديورانت، قصة الفلسفة، مرجع سابق، ص 169.

[9]- محمد عبد الرزاق شفشق، الأصول الفلسفية للتربية، مرجع سابق، ص 207،208.

[10]- صالحة سنقر، الثقافة الفلسفية، مرجع سابق، ص 77.

[11]- فاخر عاقل، التربية قديمها وحديثها، دار العلم للملايين، بيروت، 1977 ص 119.

[12]- بول منرو، المرجع في تاريخ التربية، الجزء الأول، ترجمة صالح عبد العزيز و حامد عبد القادر، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1949 ، ص 147.

 

إغلاق