أنا ديكارتي مع عدم وقف التفنيد – ذ. احسيني عبد الحميد

احسيني عبد الحميد، أستاذ مادة الفلسفة / المغرب

“أنا أفكر إذن أنا موجود”؛ الكوجيطو الديكارتي، أو المنطلق الفلسفي الأول منذ القرن 17 لفلسفة الحضور(الذات). إن المؤكد من الجملة الشهيرة؛ أن الفكر سابق عن الوجود؛ أي بمعنى؛ أنه متى فكرت أنني موجود، حينها أكون موجوداً؛ وجوداً مقترناً بالفكر المفكر في طبيعة وجودي الخالص كذات، فلو اعتقدت بالعكس؛ أي أنني موجود لذلك أفكر، لكان وجودي سابق عن فكري، والواضح أنه لا يمكن لجسدي فيزيقيا أن يوجد بلا تفكير، وإن اعتبرته كذلك؛ فسيصير مجرد جثة ليس إلا، ولو انفتحت على الوجود من حولي، بالخصوص الكائنات مثلي (الإنسان) لأدركت وجودها بالفكر فقط، ولو أن الفيلسوف ديكارت (1596-1650) كانت فلسفته منغلقة حول الذات المفكرة الواعية. لو سلمنا جدلاً أن وجود الإنسان سابق عن فكره، لقلنا بأن الكائنات الأخرى هي موجودة، بما في ذلك الحيوان أيضاً، فيصير في نفس المستوى مع الإنسان، ولا ينقصه بذلك سوى الوعي. لكن بمجرد أن نقول: “أنا أفكر”؛ فمعنى ذلك أنني أفكر في ذاتي ككيان موجود، له جسم ونفس وروح، عكس الحيوان الذي يوجد ولا يدرك طبيعة وجوده، وهذا هو مفترق الطرق بينه وبين الإنسان، ولو عرفنا الإنسان باعتباره “حيوانا ناطقا”؛ فمنطقا لا يستقيم هذا التعريف، لأن الإنسان لا يمكنه أن يكون حيواناُ؛ هو كائن بيولوجي ضمن المنظومة البيولوجية، لكن ميزة “العقل” تسمو به إلى درجة الإنسانية لا الحيوانية، لذلك، يجب أولاً؛ أن  نفكك كلمات هذا التعريف. ومن جهة أخرى، يجب أن نفهم بأن النقد يعتبر من أسس العقل، ولا يمكن ممارسته، دون الاحتكام إلى قواعده ومنهجه، والاختلاف يكمن فقط في درجات ممارسة هذا النقد. تلك الأفكار التي لم تصل لدي إلى درجة اليقين، يجب أولاً أن أحدد طبيعتها، ثم أفككها إلى عناصر لأفهمها جيداً، على أن أحتكم إلى منهج أبعد فيه كل الإيديولوجيات التي يحملها فكري، فالنقد يجب أن يكون شمولياً وعلمياً، لا تابعاً للأهواء، على أن أعرف طبيعة العقل المخاطب، فالنقد اللاذع للعقول الضيقة، قد يكون لردها عنف مادي لا يردعه عقل ولا وعي، وفهم الذات الواعية يمكنني من فهم العالم الخارجي وتأويله أيضا، خصوصاً ذلك العالم الذي تترسخ فيه إيديولوجيات متزمتة، تدافع عن أفكارها كما يدافع الجندي عن سيده. سأبدأ بأهمية الوعي؛ فلو ناديت باسم فلان، واستدار؛ أكون هنا قد حققت معه نوعا من التواصل، لا تعتبر فيه “اللغة” سوى وسيلة، لأنه لولا الوعي ما أمكن الحديث عن لغة منطوقة، وهذا ما أسميه بالإدراك الذي يهم العالم الخارجي. أيضاً، فكلما تعمقت في أفكاري، إلا وحدث هنالك تواصل فعال مع عالمي الداخلي، وهذا كله لا يمكن وجوده إلا بوجود الفكر الخالص، وحتى عندما أفكر، فمن البديهي أنني افكر في شيء ما، إما وجودي، أو وجود الآخرين، أو وجود الكائنات الأخرى، والأشياء من حولي، نستنتج إذن، أن الفكر صرح من الأفكار القبلية، وحتى تشكل اللاوعي؛ الذي اعتبره فرويد (1858-1939)؛ أساس بناء الذات، ما هو إلا نتاج خالص لهذا الوعي، (حسب اعتقادي) لماذا؟ لابد أولاً من التركيز على الأفكار الأولى التي تترسخ في العقل، والأكيد أنها تترسخ بالوعي، فمثلاً؛ معرفة الأسماء والأشخاص والأماكن والأحداث والمواقف، مستحيل أن تتشكل في الذاكرة دون الوعي، ومنه فاللاوعي المزعوم ليس سوى نزراً يسيراً من الوعي الذي يلازمني كذات في الواقع أوالحلم، والدليل أنني متى فقدته فقدت وجودي الخالص، كذات مفكرة، وإذا فقدته إذن، فعن أي لاوعي نتحدث؟ ولو سلمنا بالذاكرة والأحلام، فما السبيل لفهم طبيعة الذاكرة والأحلام دون التمسك بالوعي الذي يعتبر ملكاً، ولديه مفاتيح أبوابهما معاً، لو سلمنا بأن عقلي عبارة عن صفحة بيضاء؛ يتم فيها النقش وفقا لمعطيات التجربة، فالسؤال الذي أطرحه، كيف يمكنني أن أفهم طبيعة تلك التجربة دون وعي؟ فالعالم الداخلي والخارجي من حولي، في الأصل ليس لهما معنى دون وعي، فأنا الذي سميت الأشياء، ونسجت حروفاً وكلمات شكلت بها ما يسمى “لغة”، وبالتالي؛ فاللغة التي أتواصل بها مع ذاتي ومع الاًخرين، مصدرها الوعي، وهذا ما يمكن أن أسميه بالتجربة. صحيح أنه لا يمكن أن نستثني التجربة كعنصر أساسي من الذات،  لكن، لا يمكن اعتبارها في مقدمة الوعي، لتفهم المقصود، سأطرح عليك سؤالاً، كيف لي أن أجرب وأنا لا أعي؟ الجواب، أنني عندما أجرب؛ أكون حينها واعياً بما أجربه، لكنني لا أعرف فقط نتائج تلك التجربة – إلم أقم بها قبلا- وهذا ما أسميه ب”التكامل”؛ لأن الذات الإنسانية، لا يمكنها ان تبنى إلا بالوعي والتجربة، لكن الأسبقية للوعي في كل الأحوال، قد يبدو لك أنني متناقض مع القول الديكارتي القائل بالعقل الخالص دون التجربة، الجواب متضمن في عنوان المقال “أنا ديكارتي مع عدم وقف التفنيد”؛ أي بمعنى أنه بقدر ما يوجد ديكارت ،فهنالك ديكارتيات، كما هو الشأن مثلا لماركس (1818-1883) فهنالك ماركسيات، فقد نأخذ بالأصل (الوعي الخالص للذات) ونختلف في الفروع (إدراك الواقع الخارجي). يجب أن نعترف بأن ديكارت، أسس لما يسمى ب”العلم”، وفتح لأوروبا خلال القرن الحديث، أبواب النقد البناء فيما بعد، خصوصاً مع الفيلسوف اسبينوزا (1632-1677)؛ ذلك لأن فلسفته كانت علمية، وفردية وكونية بالأساس. وقد يقول قائل بأن فلسفته (ديكارت) منغلقة على ذاتها، أي أنه لم يفكر في الأغيار ولا يهمه وعيهم؛ الحقيقة ( حسب تصوري) أن بناء الفكر الممنهج، يبدأ أولاً من فهم الذات، لأن ممارسة النقد وبناء الأفكار إنما تبدأ من فهم جوهرها وطبيعة تفكيرها، وثانيا؛ يمكن إدراك العالم الذي يتواجد فيه الأغيار والاَخرين بالوعي فقط، فعلى الرغم من وجود ذوات متعددة، إلا أن القاسم المشترك فيما بينها هو “العقل”، والفارق فقط، يكمن في طريقة استخدامه، والأهم أنها كائنات واعية، مادامت تفكر، ولذلك هي تسمى إنساناُ.        

إغلاق