أسس النظام السياسي الديمقراطي د. زهير الخويلدي

زهير الخويلدي أستاذ مبرز وكاتب فلسفي وباحث أكاديمي – تونس

” عندما يكون للشعب في الجمهورية سلطة سيادية ، فإنها ديمقراطية. عندما تكون السلطة السيادية في يد قسم من الشعب ، فإنها تسمى أرستقراطية”[1]

من المتعارف عليه أن السياسة هي بالمعنى الواسع تشير إلى سمة الحياة المشتركة عند مجموعة من الناس التنظيم العقلاني للعلاقات بينهم، وأول ما ظهر اللفظ هو متعلق بالاقتصاد السياسي. أما المعنى الاصطلاحي للسياسة فيشير الى الدولة والحكومة بالتعارض مع الظواهر الاقتصادية والمسائل الاجتماعية سواء تعلق الأمر بالعدالة والادارة أو بالأنشطة المدنية للحياة مثل التعليم والثقافة والبحث العلمي والدفاع الوطني.

ان السياسة الجيدة هي التنظيم العقلاني للعلاقات بين الأفراد وتحييد العنف وتفادي النزاعات. كما أن الديمقراطية هي نظام سياسي تنتمي من خلاله السيادة الى  مجموع المواطنين أي الى الشعب. ومن المعلوم أن الديمقراطية هي نظام سياسي واجتماعي يكون فيها الشعب هو مصدر السيادة والسلطة، فهو يجعل المجتمع يحكم نفسه عن طريق ممثلين عنه. في هذا الاطار صرح مونتسكيو في كتابه الشهير روح القوانين:”توجد الديمقراطية حينما يكون الشعب في الجمهورية جسدا واحدا مع القدرة السيدة “. من هذا المنطلق يمكن ان نميز الديمقراطية المباشرة التي يمارس من خلالها الشعب السلطة دون وسائط، والديمقراطية التمثيلية أو البرلمانية التي يفوض من خلالها الشعب برلمانا بواسطة القرعة أو الانتخاب لكي يمارس دور السلطة التشريعية. أما الديمقراطية الحاكمة أو الدكتاتورية فهي التي ينتخب فيها الشعب حاكما واحدا يحتكر لنفسه جميع السلطات كل حياته ، ويتعارض هذا النمط مع الحكم الأرستقراطي أو الحكم التقليدي. في حين أن الديمقراطية الليبرالية هي التي تحترم الحريات الفردية وتعطي الحقوق كاملة بالنسبة الى المعارضة السياسية وتعمل على طرد الديكتاتورية دون رجعة سواء تعلق الأمر بشخص أو بحزب.

لقد تطورت فكرة الديمقراطية تاريخيا: فإذا كانت عند الاغريق تعني المساواة أمام القانون من طرف المواطنين وتستثني العبيد والنساء من الحياة السياسية، واذا كان روسو أسسها على العقد الاجتماعي وعلى السيادة الشعبية اللاّمنقسمة واللاّمحدودة التي لا تخضع الى أي حق طبيعي ولا تعطي أي حق للمعارضة ويمكن أن تفرض  دينا مدنيا، فإن دي توكفيل يحدد الديمقراطية بالطموح نحو تحقيق العدالة في الشروط التي تمكنها من مواجهة للتراتبية التي تشرعها الأرستقراطية ويسميها الديمقراطية المساواتيةegalitarisme، اذ يصرح في هذا المجال:” ان التطور التدريجي للمساواة هو واقع كوني ومستمر وينفلت في كل يوم عن القدرة الانسانية.” لكن ما يتخوف منه هو تحول الديمقراطية الى استبداد ديمقراطي تذيب في الحشود الفردانيات والحريات. كما نجد أنواع أخرى مثل ديمقراطية الرأي حيث ينغمس الفرد في تلبية مشاغله الخاصة ويتخلى عن دوره الايجابي كمواطن ويترك المجال لسلطة الرأي العام. وثمة ديمقراطية صورية تحترم الشكل القانوني دون المضمون وديمقراطية واقعية تضمن العدالة الاجتماعية وتسمى ديمقراطية شعبية.

هكذا يمكن أن نميز بين الديمقراطية على نطاق ضيق وتعني دمقرطة الحياة الأسرية أو الجماعة الدينية والديمقراطية على نطاق واسع وتعني دمقرطة المجتمع والمعمور واعتماد الديمقراطية المباشرة والحكم المحلي والتسيير الذاتي واحترام إرادة الشعب والعودة المستمر الى أصوات الناخبين عبر الاستشارة الدورية.

يمكن تلخيص خصائص النظام الديمقراطي بالنقاط التالية:

  •  1.     ينتخب الشعب ممثليه عن طريق انتخابات عامة
  •  2.     تمارس الأغلبية المنتخبة الحكم، هذه الأغلبية  الصادرة عن فئات الشعب المختلفة هي جماعة سياسية بالتعريف وليست عرقية أو إثنية أو دينية.
  •  3.     تصان حقوق المعارضة عبر مؤسسات وقوانين.
  •  4.     تصان الحريات العامة للمجتمع، منها حرية التعبير وحرية العقيدة وحرية الاجتماع وحرية الصحافة
  •  5.     وجود دولة القانون التي تحترم وتضمن حقوق المواطنين والمساواة بينهم.
  •  6.     الحد من اعتباطية سلطة الحاكم عن طريق مؤسسات ورقابة دائمة وآليات للدفاع عن المواطنين.
  •  7.     ضمان عدم الجمع بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وترسيخ مبدأ التكامل الوظيفي بينها وتمييز المسؤوليات وتوزيعها باستقلالية تامة.
  •  8.     ترسيخ مبدأ الدستورية، أي أن السلطات تستمد مشروعيتها من مرجعية قانونية عليا والمواطنين يحترمون الدستور ويرجعون إلى القضاء لحل الخلافات والنزاعات بالطرق السلمية.

تعلن هذه الخصائص في دستور ديمقراطي يعتبر بمثابة تعاقد بين المواطنين. تتم مناقشته بشكل علني وبحرية كاملة مع شروحات كافية، ويتم إقراره من قبل جمعية  تأسيسية منتخبة من الشعب، ويعرض نص الدستور عليه في استفتاء عام. لكن ماهي الأسس التي يقوم عليها النظام السياسي الديمقراطي؟

الأساس الأول هو مبدأ السيادة للشعب· وقد يبدو هذا المبدأ بديهيا باعتبار أن أحد التعريفات الذائعة للديمقراطية التي تنسب إلى إبراهام لينكولن ‘إنها هي حكومة الشعب التي يؤسسها الشعب وتعمل لصالح الشعب’·
والأساس الثاني أن تتكون الحكومات بناء على رضا المحكومين وموافقتهم، وهذا الأساس هو في الواقع لب مسألة شرعية النظم السياسية· فالنظام السياسي الذي يتمتع بالشرعية، هو بكل بساطة النظام الذي ينال رضا غالبية المواطنين.
ولو انتقلنا إلى الأساس الثالث وهو تطبيق حكم الأغلبية وعن طريق الاجماع.
ونصل بعد ذلك إلى الأساس الرابع وهو ضرورة احترام حقوق الأقليات·
هناك أسس أخرى ترتكز عليها الديمقراطية، مثل ضمان حقوق الإنسان الأساسية، وتنظيم الانتخابات الحرة العادلة والمساواة أمام القانون· كما ينبغي أن تؤمن المجموعة بالتداول السلمي للسلطة وبفصل السلطات الثلاثة ، وتؤمن للأفراد والجماعات ممارسة حقوقهم السياسية من خلال المشاركة السياسية في صناعة القرار. فماهي ميزات النظام الديمقراطي؟

للديمقراطية قوة هائلة في تحريك المجتمعات الإنسانية. فهي أرضية خصبة لكي يعي الناس مكانتهم وحقوقهم وواجباتهم وتحقيق  مصيرهم.

تجعل من الحرية عاملا مشتركا لكافة المواطنين.

تقوي قناعة المواطنين لتفعيلها والدفاع عنها وإلزام الحكام بها.

ترفع الخوف عن قلوب الناس بسبب وعيهم بحقوقهم ومراقبتهم للحكام.

ترسخ كرامة الناس وتنمي استقلاليتهم ونضوج تفكيرهم وسلوكهم الاجتماعي.

توجد توازنا بين الحكومة والمعارضة.

تفسح مجالا واسعا للجميع للنقاش الحر والاتجاه إلى العقل لإقناع الآخر .

تفتح آفاقا جديدة للإبداع في كثير من المجالات لإيجاد حلول أكثر ملاءمة.

تدير الصراع السياسي والاجتماعي بشكل سلمي.

تعطي الناس فرصا أكبر للتأثير على مجريات الأحداث وليساهموا بالحياة العامة عن طريق العمل السياسي والمدني وعن طريق وسائل  النشر والاتصالات الحديثة المتاحة في المجتمع.

توجد  آلية واضحة لتطبيق مفهوم السلطة وممارستها في كافة مستويات العلاقات الإنسانية.

تجعل من الشعب في نفس الوقت حاكما ومحكوما وتضمن التوليف بين السيادة والمواطنة.

لكن ماهي المنزلة التي تحتلها المواطنة في النظام الديمقراطي؟

المواطنة هي الفعل الذي يتم به الاعتراف بشخص او عائلة أو مجموعة على أنه عضو في المدينة أو الدولة يساهم من موقعه وبطريقة فاعلة في تغذية المشروع المشترك. كما تتضمن المواطنة مجموعة من الحقوق المدنية والسياسية والواجبات القانونية وتحدد دور المواطن داخل المدينة وفي علاقة بالمؤسسات. ان المواطنة بالمعنى القانوني هي مبدأ المشروعية، وان المواطن هو محور الحق. لكن كيف ننتقل من الحديث عن المواطنة الى التطرق الى المواطن؟

توجد ثلاثة معان لمفهوم المواطن:

معنى سياسي: مفهوم مواطن ليس له معنى الا في اطار مجتمع يخضع الى قوانين . ان القانون هو الذي يحدد الحقوق والواجبات بالنسبة الى المواطنين. بواسطة المواطنة تعترف الدولة للأفراد المواطنين بحريات متساوية وتضمن لهم حماية معينة.

ان المشكل الأساسي السياسي للمواطنة في الديمقراطية الحالية هو مشكل المشاركة الفاعلة لكل المواطنين في الحياة السياسية  وسن القوانين. في يوم الناس هذا تعني الصفة مواطني احترام القوانين والحريات الأساسية والعناية بالخير المشترك.

معنى تاريخي: المواطنون في المدينة الاغريقية يعتبرون أنفسهم أناس أحرار ومتساوين في الطبيعة وفي المشاركة في الحياة العامة وفي تقلد المناصب القيادية. لكن تم اقصاء من هذا الحق المدني كل من النساء والغرباء والعبيد والمرضى والأطفال والشيوخ. لكن مع نظرية العقد الاجتماعي لروسو في القرن18 وفلسفته السياسية أخذ مفهوم المواطن قيمته المطلقة.

ان الفرد الذي يخضع الى الحكم السياسي لا يبقى حرا الا من جهة كونه مواطنا وبالتالي هو سيد نفسه ولا يخضع الا الى القانون الذي سنه بالاتفاق مع غيره وبالاعتماد على قاعدة عقلية.

يميز الدستور الفرنسي لعام 1789 بين المواطن الفاعل الذي يمتلك حق الانتخاب ويؤثر في القرار السياسي والمواطن المنفعل الذي يتمتع بالحريات الأساسية دون أن يناضل من أجل حمايتها.

معنى كوني:  ان الانتماء الى الانسانية يؤسس المساواة في الحقوق والواجبات بالنسبة الى الناس دون الأخذ بعين الاعتبار الانقسام بين الدول والمجتمعات والفوارق بين الجهات واللغات والديانات والثقافات والأعراق. ان الفكرة الكوسموبوليتية للمواطن عند الرواقية محكومة من طرف العناية الالهية والعدل الالهي. أما كانط فقد جعل من الفكرة الكوسموبوليتية فكرة ناظمة لنظريته السياسية وعرفها في كتاب ميتافيزيقا الأخلاق بأنها ” فكرة الجماعة العامة والمتسامحة وبخلاف ذلك متواددة مع كل شعوب الأرض.”.

لقد أصبح طموح الفكر السياسي المعاصر هو تشييد دولة عالمية موحدة تمكن أن تكون مهيمنة ومطلقة مثل الامبراطورية والامبريالية والعولمة المتوحشة ولكن يمكن أن تكون دولة فدرالية تجمع مختلف الدول والأمم والشعوب أو دولة تضم المواطنين العالميين. ان المدينة الحقيقية للإنسان تتعدى المدينة التي يقطن فيها كل انسان لتصل الى العالم برمته وتكون المعمورة هي المدينة الكونية التي يقطنها النوع البشري.

هكذا تكون المواطنة هي صفة المواطن وفي معناها المحدود تشير الى الانتماء الى مدينة أو دولة ولكنها بالمعنى الدقيق هي غير مفصولة عن مشاركة فعالة في الشؤون العمومية. ان المواطنة هي البعد السياسي للوجود المدني الذي لا يمكن اختزاله الى المجموع المكون بواسطة النشاط الاقتصادي والسجل الخاص. لكن ألا يوجد تناقض بين سيادة الدولة وحقوق المواطنة؟

المصدر:

1-Montesquieu, l’Esprit des lois,1748,  II, 2.

الإحالات والهوامش

[1] Montesquieu, l’Esprit des lois,1748, II, 2.

إغلاق