نظام التفاهة: الداء الذي يخترق المجتمعات الإنسانية – محمد الورداشي

محمد الورداشي كاتب وباحث مغربي له مجموعتان قصصيتان: “حينما يتنكر الوطن لبنيه” (المغرب)، “القرية المهجورة ” (مصر). ومجموعة من المقالات نشرت في جرائد ورقية وإلكترونية داخل المغرب وخارجه.

– على سبيل التقديم:

غالبا ما يميل القراء المبتدئون إلى قراءة الأعمال الروائية التي تملأ لهم فراغهم من خلال التسلية والمتعة، كما أن هنالك صنفا آخرَ من القراء الذين لا يطمئنون إلى التسلية والمتعة فحسب، وإنما يتطلعون إلى مطالعة ذلك النوع من الكتب الذي يخاطب عقولهم قبل قلوبهم، ويخلق  لديهم قلقا معرفيا لا تكفي معه عمليةُ القراءة فقط، بل إنه يدفعهم إلى مزيدِ بحثٍ وتحليلٍ متتابعين متلازمين حتى يشفوا غليلَهم، وما أظن أن إشفاء الغليلِ ممكنٌ ما دامت هذه الكتبُ تنقلُ القارئَ من حيرةِ سؤالٍ إلى آخر يليه إلى ما لا نهاية من الأسئلة. وفي هذا السياق، يمكننا أن نتحدث عن كتاب “نظام التفاهة la mediocratie” للأستاذ الباحث والفيلسوف الكندي ألان دونو، أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية، جامعة كبيك-كندا. هذا الكتاب الذي يشد قارئَه من خلالِ قيامه على دعامتين أساسيتين: أولاهما، تتمظهر في أسلوبه السلس والممتع، وثانيتها يحسها القارئُ من خلال القلق المعرفي الذي يخلقه لديه، إلى جانب الدفعِ به إلى التساؤل حول واقعه المحلي، والقضايا المحيطةِ به في مختلِف نشاطات المجتمع، فضلا عن النظرِ نظرةً متريثةً نقديةً إلى كل نظم مجتمعه ومؤسساته السياسية والثقافية والاجتماعية والفكرية والعلمية. إن هذا الكتابَ متفردٌ بأطروحته الجريئة، وخوضِه في الإشكالات الشائكة والقضايا المختلفة التي باتت تكتسح المشهدَ العامَّ للنظامِ السياسيِّ الحديثِ. ومن هنا، نطرحُ التساؤلاتِ التاليةَ: كيف عرّف المؤلفُ نظامَ التفاهة؟ وكيف تُنتجُ التفاهة؟ ومنْ ينتجها؟ وما مميزاتُ الشخصِ التافه؟ وما وسائلُ التفاهةِ ووسائطُها وأدواتُها؟ ما الغاية/ الغايات المتوخاةُ من هذا النظام؟ وما الذي يجعلنا تائهين عنه، غيرَ مُكترثين ومُنتبهين له، علما أنه يحيطُ بنا في كلّ المجالاتِ التي نتحرك فيها؟ كيف يمكننا معرفةُ التافهين؟ وما العلاجُ الذي قدمه ألان دونو للتفاهة؟ لنتفادى  التافهينَ في حياتنا العملية؟ لتكون لنا مناعةٌ قويةٌ للتصدي لتفاهتهم؟ للتعايشِ معهم مع الحفاظِ على الحسِّ النقدي تجاه تفاهتهم؟ 
كلّ هذه أسئلة، وغيرها كثيرٌ، تتبادر إلى ذهن كل قارئ لهذا الكتابِ المستفز بطريقة تناوله لهذه القضايا، وبأسلوبه الهادئ الذي يأخذ القارئَ، بتسلسل، إلى أن يضعَه أمام موضعِ الداء وجها لوجه. ومن ثم، لسنا مُطالبين بالإجابة عنها؛ لأننا لمْ نتوخَّ منْ بسطها إلاّ دفعَ القارئِ وحفزَه لمطالعةِ الكتاب، وتتبعِ تمظهُراتِ الإجابة في صفحاته الطوال.
 

– لماذا يجبُ عليَّ قراءةُ الكتابِ؟

أعتقد أن هذا الكتابَ البالغَ ثلاثمائة وثمان وستين صفحةً، في ترجمته العربية الأولى 2020، للمترجمة الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري، الكويت، يذكرنا بكتاب “مطامع الاستبداد ومصارع الاستعباد” لعبد الرحمان الكواكبي، و”الإنسان المتخلف: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور” لعالم النفس اللبناني مصطفى حجازي. إذن، ما الجامعُ بين هؤلاء الثلاثة، علما أنهم يختلفون من حيثُ الزمانُ والمكانُ، وزوايا النظرِ، والمادةُ المدروسةُ، والمرجعياتُ المنطلقُ منها؟
أعتقد أن ما يجمع بين هؤلاءِ هو تلك النظرةُ التحليليةُ والشاملةُ التي تقدم لنا مشاهدَ حول الزمانِ والمكانِ الذي عاشوا فيه، وكذا الهمّ المشترك الذي يتمظهر في محاولتهم وضعَ الإصبعِ على الداءِ المُستشري في مجتمعاتهم: الأول ينسحب تحليلُه على الأمة العربية والإسلامية وما انتشر فيها من ضعف وتقهقر وهوان واستبداد. والثاني، انطلق من المجتمع العربي عامة، ولبنان على وجه الخصوص، فضلا عن إشارته السريعة إلى إمكانية انسحاب دراسته السيكولوجية على مجتمعات أخرى. والثالث، تبرز لديه تمظهرات التفاهة في المجتمعات الأوربية عامة، ويعزى هذا إلى الأمثلة التي تأخذ نصيبا أوفر في الكتاب، والدولة الكندية، كيبيك على وجه الخصوص. ومن ثم نصل إلى القول إن الجامعَ بين هؤلاءِ هو محاولتهم وضعَ الإصبع على الداء المستشري في الأنظمة التي عاصروها؛ إذ أن الكواكبي حدد الداءَ في الاستبداد والاستعباد السياسيين، وعلاقتهما بالعلم والدين والمال والحكم…إلخ. فيما حصر حجازي دراسته في البنية السيكولوجية للإنسان المقهور التي تتجلى في التسلط والقهر من قبل الطبيعة والإنسان المستبد، فضلا عن الخوف والرعب، وما يترتب على ذلك من أمراضٍ نفسية، كازدواجية الشخصية(1)… أما ألان دونو، فإنه خلص بعد تحليلاتٍ مُستفيضة وعميقة لنظام الدولة الحديثة ومؤسساتها إلى أن الداء هو نظام التفاهة والتافهين.

– ما علاقة الكتابِ بي كقارئ عربي؟

تقول المترجمةُ في معرض تقديمها للكتاب: “ويهمني هنا أن أذكّر بما أشرت إليه فيما تقدم من أنه وإن كانت بعض أمثلة الكتاب كندية وأوربية، إلا أن أطروحته عالمية (…) بذلك، وبشيء من الصبر، ستكتشف أن كل ما يتحدث عنه المؤلف في أماكن بعينها، إنما يحدث في الحقيقة في العالم بأكمله”(2). وهكذا، نجد أن تشخيص المؤلف لداء التفاهة باعتباره نظاما اكتسح المشهد وأحكم قبضته على نظام الدولة الحديثة ومؤسساتها، يؤكد لنا أن هذا النظام مُتخطٍّ للحدودِ الجغرافية ضاربٌ بجذورهِ في مجتمعاتنا، وقد رصده المؤلفُ في السياسة (الاستبداد والشمولية، استعمار الشعوب، فساد البرلمانات، والأحزاب، ولاَّ نزاهة الانتخابات، تركُّز السلطة في يد الأقلية الأوليغارشية والبلوتوقراطية…)، وفي الاقتصاد (الرأسمالية المتوحشة، عبادة المال، الفساد المالي، امتلاك الأقلية لوسائل الإنتاج، استغلال العمال، الجِنان الضريبية، تبييض الأموال…)، في الجامعة ( بيعُ بحوث الأساتذة والطلبة للمموِّلين، وتسخيرهم لخدمة شركات تجارية ونظم في أغراض بعيدة عن البحث العلمي، استبدال المثقف بالخبير، الاستغلال الجنسي…)، في الإدارة (الحوكمة، استبدال الحرفة والابتكار بالوظيفة وتنزيل الأوامر حرفيا، الاختلاسات، التزوير، النفاق الوظيفي…)، في القانون (تسخير القانون لخدمة رأس المال والمستثمرين، والشركات متعددة الجنسيات، شرعنَةُ التسلط على ثروات الشعوب المستعمَرة…)، في الثقافة (فرض ثقافة الأقلية المسيطِرةِ والماسكة بزمام الأمور، تذويب الحس الثقافي لدى المواطنين، تصنيع الثقافة وتسليعها لخدمة رأس المال…)، في اللغة (إنتاج نظام لغوي خالٍ من أي معنى أو إضافة، والنتيجة هي اكتساح “لغة الخشب” المشهدَ باعتبارها وسيطا لنقل التفاهة)، في الإعلام( سيادة صحافة التبلويد التافهة، تشويه الواقع وتقطيعه على مقاس المتحكمين بزمام السلطة، وتغريب المواطن/ المشاهد عن الصورة الحقيقية لواقعه، توظيف الإعلام للتسويق وتنمية ثقافة الاستهلاك، تغييب ثقافة النقد…)، في المجتمع (الفساد والانحلال الخلقي، الفقر والهشاشة، اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، الإقصاء المُمنهج من كل المجالات والقطاعات، تحكم الأقلية المالكة في حياة الأغلبية التي لا تملك حتى قوت يومها…)، في البيئة (التصنيع المفرط على حساب البيئة، والنتيجة: حياةٌ مهددةٌ بالإبادة بفعل التلوث الفوضوي…). هذه بعض المجالات والقطاعات التي تطرق إليها المؤلف مبينا تجليات نظام التفاهة فيها، فضلا عن سيطرته عليها، باعتبار التفاهة “تقتضي أن نتذكر أن الأمر بالنهاية لا يعدو أن يكون “لعبة”(3) يشارك فيها جميعُ الأطراف سواء أكانوا منتجيها أم ضحاياها، لتكون النتيجة، في الأخير، هي “إسباغ الأهمية على الصغائر”(4)، وإنتاج نظام لغوي تافه “لغة الخشب” يقدم للمتلقي أشياءَ يصعب عليه إعمال عقله فيها، ومن ثم الدفع به إلى اعتبارها اعتيادية بديهية، والخضوع والاستسلام، ومحاربة الإبداع النابع من الذات ذي المصلحة العامة، وتغييب العقل والحس النقدي، ومن ثم إقصاء ممنهج للمثقف الناقد الثوري، وبإزاحة هذا الأخير، يكون نظام التفاهة قد أفسح المجالَ واسعا أمامَ فئة الأميين الجدد، والأمي ثانويا، وهذا الأخير هو” شخص مكون من معارف عملية، من دون أن تقوده معارفه إلى مساءلة ما تستند إليه من ركائز أيديولوجية”(5). وما أن نتتبع الكتاب سطرا سطرا، محاولين مساءلة نُظُمنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية حتى نردد مع المؤلف، وبحرقة وحسرة عميقتين: “لقد صارت التفاهة مطلوبة بالفعل”(6). لكن، هل سنظل مكتوفي الأيدي أمامها؟ وما العلاج المقترح من قبل المؤلف؟ والجواب: لا علاج إلا المساءلة النقدية والعقلية لكل ما يُقدم إلينا في كل مناحي حياتنا، وإعلانها حربا ضارية على التافهين الفارغين، وهذا لا يتم إلا بتدريب أنفسنا على الحس النقدي الثوري؛ فخذْ نصيحةَ المؤلفِ التي تعد آخر سطر في الكتاب “كن راديكاليا”(7) لئلا تذوب في لعبة التفاهة الدنيئة، وتغدو كائنا تافها.

– الإحالات والمراجع:

– (1): أنظر مقالينا المعنونين ب “مأزق الإنسان المقهور عند ابن خلدون وحجاي” جريدة الاتحاد الاشتراكي، و””البنية النفسية للإنسان المتخلف بين التطابق والاختلاف” موقع نادي الفلسفة الإلكتروني. كما أن هنالك كتابا للدكتور العراقي علي الوردي بعنوان: شخصية الفرد العراقي، إذ حاول فيه تقديم مظاهر وتجليات هذه الازدواجية في سلوك الفرد العراقي، وهذا ما ينضاف إلى أطروحاته حول الصراع بين قيم البداوة والحضارة، والتناشز الاجتماعي…إلخ. هذا، ونشير إلى أن مقدمة ابن خلدون كذلك كتبت بعدما لاحظ تراجع اهتمام ذوي الأقلام بعلم التاريخ، لهذا قدم نقدا إلى المؤرخين السابقين عليه مبينا بذلك فضل هذا العلم على الأناسي والأمم والشعوب، وراسما طريقا واضحا للخلف حتى يتمموا ما بدأه من تنظير للعمران البشري بناء على تحليل مستفيض وعميق للواقع الذي كان قبله والذي عاصره، فضلا عن استشراف المستقبل.
– (2): ألان دونو: نظام التفاهة، ترجمة وتعليق الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري، ط 1: 2020، دار سؤال. ص17 (بتصرف).
– (3): المرجع نفسه، ص 26.
– (4): المرجع نفسه، ص64
– (5): المرجع نفسه، ص76
– (6): المرجع نفسه، ص77.
– (7): نفسه: ص 365.

إغلاق