درس موضعة الظاهرة الإنسانية (الموضوعية في العلوم الإنسانية)
المجزوءة: مجزوءة المعرفة
المفهوم: مسألة العلمية في العلوم الإنسانية
المحور الأول: موضعة الظاهرة الإنسانية (الموضوعية في العلوم الإنسانية)
التأطير الإشكالي للمحور
يدفعنا البحث في مسألة العلمية في العلوم الإنسانية، إلى البحث في مسألة الموضوعية، أي البحث في مدى قدرة العلوم الإنسانية بما هي العلم الذي يدرس الإنسان في مختلف جوانبه السيكولوجية والاجتماعية والثقافية، على دراسة الإنسان، والظواهر الإنسانية، دراسة موضوعية بعيدا عن كل أشكال الذاتية. إذن، هل يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة موضوعية، يتم فيها فصل الذات العارفة عن موضوع المعرفة، أم أن دراسة الظاهرة الإنسانية لا يمكن أن تكون إلا دراسة ذاتية؟ وإن كانت الدراسة الموضوعية للظاهرة الإنسانية ممكنة، فما الذي يجعلها ذلك؟ وإذا كانت موضوعة الظاهرة الإنسانية أمرا صعبا أو مستحيلا، فما العوائق والصعوبات التي تؤدي إلى ذلك؟
-
الموقف الأول: إمكانية دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة موضوعية
تأثر مجموعة من علماء الإنسان، بما حققته العلوم الطبيعية من نتائج مبهرة، وانبهروا بقدرتها على دراسة الظواهر الطبيعية دراسة موضوعية. كل ذلك دفعهم إلى تبني تصور يقول بإمكانية دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية ودراسة موضوعية، وذلك من خلال اعتبار الظاهرة الإنسانية كشيء، يتميز بنفس خصائص الظاهرة الطبيعية.
من بين هؤلاء العلماء، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم (1858_1917م). فقد أكد هذا الأخير أن ” إن الظواهر الاجتماعية تشكل أشياء، ويجب أن تدرس كأشياء.. لأن كل ما يعطى لنا أو يفرض نفسه على الملاحظة يعتبر في عداد الأشياء.. وإذا يجب علينا أن ندرس الظواهر الاجتماعية في ذاتها، وفي انفصال تام عن الأفراد الواعين الذين يمثلونها فكريا، ينبغي أن ندرسها من الخارج كأشياء منفصلة عنا.. إن هذه القاعدة تنطبق على الواقع الاجتماعي برمته”. ويتضح من هذا القول، أن الظاهرة الاجتماعية، يمكن النظر إليها كشيء، وبما أنه يمكننا النظر إليها كشيء، فهذا يعني أنه يمكننا دراستها دراسة موضوعية. فالأشياء تتمز بالخارجية، أي أنها تقع خارج وعي الإنسان، وهذه الخاصية، تؤكد أن الباحث يمكنه دراستها دون أن يقحم ذاتها، ودون أن يتأثر بها أو يؤثر بها.
من بين الأمثلة التي يمكن أن نقدمها في هذا السياق، مثال ظاهرة الانتحار، والتي خصص لها دوركايم كتابا عنونه بـ “الانتحار”. فهذه الظاهرة تصنف عموما ضمن الظواهر الانسانية، وخصوصا ضمن الظواهر الاجتماعية، وتتميز بمجموعة من الخصائص تجعل إمكانية دراستها دراسة موضوعية أمرا ممكنا، وهذه الخصائص حسب إميل دوركايم هي: الخارجية، القهرية، العمومية.. أما الآلية التي اعتمدها دوركايم في دراسة هذه الظاهرة فهي الإحصاء، والذي قاده إلى مجموعة من الخلاصات من بينها أن الانتحار يكثر في صفوف غير المتزوجين، كما أنه يكثر في صفوف البروتستانت مقارنة بالكاثوليك.
لكن، ألا يمكن القول أن النظر إلى الظاهرة الإنسانية كشيء، يفقدها خصائصها ومميزاتها كالوعي والحرية؟ وألا يمكن القول أن دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة موضوعية أمر صعب، نظرا لما تتميز به الظاهرة الإنسانية، ولاختلاف الباحث في العلوم الإنسانية عن نظيره في العلوم الطبيعية؟
-
الموقف الثاني: صعوبة موضعة الظاهرة الإنسانية
يذهب مجموعة من علماء الإنسان، إلى صعوبة موضعة الظاهرة الإنسانية، نظرا لخصوصية العلوم الإنسانية، فالموضوع في العلوم الانسانية ليس كالموضوع في العلوم الطبيعية، فالأول يتميز بالوعي والحرية، أما الثاني فيعتبر شيئا، وكما هو معلوم فالأشياء تفتقد للوعي والحرية، كما أنها تخضع لقوانين ثابتة. هذا الاختلاف يقودنا إلى استنتاج مفاده أن الظاهرة الإنسانية لا يمكن أن تدرس كما تدرس الظواهر الطبيعية.
ومن بين الذين أكدوا على صعوبة موضعة الظاهرة الإنسانية، نذكر على سبيل المثال عالم النفس، الإبستمولوجي والفيلسوف السويسري جان بياجي (1896_1980). فقد ذهب هذا الأخير في كتابه “إبستمولوجيا علوم الإنسان”، إلى صعوبة موضعة الظاهرة الإنسانية، وذلك لعدة أسباب. ومن بين تلك الأسباب وضعية العلوم الإنسانية، والتي هي وضعية معقدة مقارنة بمجموعة من العلوم كالفيزياء، فالذات في العلوم الإنسانية لا تلاحظ غيرها وتجرب على غيرها فقط، بل إنها في الوقت نفسه تلاحظ ذاتها وتجرب على ذاتها، كما يمكنها أن تتغير بحكم ما لاحظته وما جربت عليه، كما يمكنها أن تؤثر في الظاهرة المدروسة. إن الوضعية التي تجعل من موضوعة الظاهرة الإنسانية أمرا صعبا هنا، هي وضعية التداخل بين الذات والموضوع، هذا التداخل يتجلى بشكل بارز في ما اصطلح عليه بياجي بتمركز الذات حول ذاتها. ويرجع ذلك حسب جان بياجي إلى سببين: ” أولهما، أن الحد الفاصل بين الذات المتمركزة حول ذاتها والذات العارفة يكون أقل وضوحا عندما تكون أنا الملاحظ جزءا من الظاهرة التي يجب عليه أن يدرسها من الخارج، ثانيهما، يكمن في أن الملاحظ يكون أكثر ميلا للاعتقاد في معرفته الحدسية بالوقائع لانخراطه في هذه الأخيرة ولإضفائه قيما محددة عليها، مما يجعله أقل إحساسا بضرورة التقنيات الموضوعية”
ويختصر جان بياجي الأسباب التي تقف عائقا أمام إمكانية موضع الظاهرة الإنسانية، في كون “الوضعية الإبستمولوجية المركزية في علوم الإنسان تكمن في كون الإنسان ذاتا وموضوعا، بل ذاتا واعية ومتكلمة وقادرة على أنواع من الترميز، مما يجعل الموضوعية وشروطها الأولية المتمثلة أساسا في إزاحة تمركز الذات من حول ذاتها(…) فالعَالِمُ لا يكون أبدا عالِما معزولاً، بل هو ملتزم بشكل ما بموقف فلسفي أو إيديولوجي”.
-
خلاصة تركيبية بخصوص موضعة الظاهرة الإنسانية
حاص القول، أن دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة موضوعية ليست بالأمر المستحيل، لكنها ليست بالأمر الممكن دائما. حيث يمكن دراستها دراسة موضوعية إن تم التعامل معها بوصفها شيئا، وأيضا إن استطاع الباحث في العلوم الإنسانية التجرد من ذاتيته، أي من انتماءاها ومواقفه وايديولوجيته. لكنها تكون صعبة أحيانا، لأن الظاهرة الإنسانية تتميز بمجموعة من الخصائص كالوعي والحرية، وهو ما يجعل مسألة موضوعتها أمرا صعبا، كما أن الباحث في العلوم الإنسانية لا يستطيع دائما، التجرد من أحكامه المسبقة، ومن معرفته الحدسية، ومن انتمائه سواء الديني أو العرقي أو السياسي.
لكن، ورغم كل ذلك، فللعلوم الإنسانية قيمتها المعرفية والعلمية، خاصة وأنها تهتم بدراسة موضوع معقد، موضوع يتميز بالوعي والحرية، وهو الإنسان. وكما يقول جان جاك روسو: “إن أكثر المعارف فائدة وأقلها تقدما من كل المعارف الإنسانية في الآن نفسه هي تلك المتعلقة بالإنسان”.