موت الانسان أنثروبولوجيا وإحيائه كإيتيقا

أسامة الدرقاوي : باحث في الفلسفة

نستهل الزفرة الفلسفية “الاناسة” في عصر يتسربل بين أزمنة بعدية، لنستحظر الاعلان الفوكولتي وفق مساق الأنثروبولوجيا ألا وهو موت الإنسان، إنسان سليل صنع الأنوار والحداثة الذي قضى نحبه مفجوعا جراء النظم المعرفية المتخلخلة، بمطرقة نيتشوية محضة اذ ينهدم الكوجيطو الديكارتي العقلاني حتى رحاب الترنسدنتالية الكانطية، وتنبجس أولى مراحل فضح الخطاب المؤسسي ويبدأ تأويل اللامفكر /اللامعقلن فيه .
وعليه جاءت الصرخة الفوكولتية: “إن الحداثة تبدأ عندما يشرع الإنسان في الوجود داخل عضويته وفي جمجمته وهيكل إعضائه وفي كل عرق من فيزيولوجيته”
    إن  تعريف فوكو هذا نابع من منهج أنثروبولوجي واضح الدلالة، أي من المنطلق الفلسفي الذي يري بأن الانسان ابتكار قريب من الناحية التاريخية، إذ هو يدخل ظمن محيط المعرفة الغربية وعليه فهو معرّض للتخفي والغياب فور أن يتغير نظام المعرفة ؛انه بتعبير أدق بين فكّي سلطة الخطاب/ خطاب السلطة، يقول فوكو “إن اللغة الكلاسيكية خطاب تتقاطع داخله الطبيعة مع الطبيعة الإنسانية”¹

وعلى هذا المقتضى نجد أن الفلسفة مع فوكو وقبله نيتشه لم تعد تثق بوجود مندثر ،بل تثق في اللغة من حيث كونها تقصّي لما لم يوجد بعد.
ولما كان أن مقولات العقل أعلنت إفلاسها، ألا يمكن لنا ان نوقظ الاناسة من موتها الفينيقي² ،وتخرج من بوتقة وجود منهك الى وجود ظفر ؟
هنا كان لزاما علينا أن نشرّح الاناسة تحت مذبح نظام معرفي قائم على قوة “الحدث” ،وأيّ حدث غير أفق دولوزي متمّم معه يتسنبل مفهوم اناسة في خضم “فلسفة تسعى لإدراك العالم في حدثيته وحيويته الجزئية والفردية ، وليس تفسيره أو تمثله في كليته ودلالته ( الجوهرية)”³ .
    ربما قد يجد القارئ التباسا في التوليف بين مقولة فوكو التي أعلنت موت الانسان سليل العصر الكلاسيكي، والدعوة لولادة جديدة منفلتة من سطوة الماهيات وترنوا إلى المغيّب، المقصيّ ، غير أنها ولادة متشبعة بقيم الإتباث وبساط المحايثة؛ “إذ الفلسفة عند دولوز بحث عن ممكن الفكر القادم ، وليست حكما على ماهو قائم”⁴ .

هنا تنبلج وشائج قربى بحفريات فوكو الانثروبولوجية ومفاهيم دولوز الخلافية التي تنصهر داخل بوتقة النقد النيتشوي للحداثة، وما يتمم هذا الرأي هو مقولة فوكو ‘إن القرن الآتي اما ان يكون دولوزيا أو لا يكون ‘⁵ ،

 انه ومن هذا المقتضى الثاني نستحضر العبارة الدولوزية المنفعلة التي تنظر الى الوجود الاناسي من حيث هو قائم على بساط المحايثة
إذ يعتبر الكل خاضع لنظم التوليف والتأثير والتأثر ومبدأ الأنفع والأصلح ، إنها قيم زمن منشدّ الى الحدث الذي يقبض بتلابيب ماكان وما سيكون ؛بيد أنه لايحتكم لأيّ مسار معد سلفا بل هو قائم على مبدأ الكاووس، إذ تحتفي الاناسة مع دولوز بهذا التصور كونها تحيل إلى دفق مستمر لا يبغي عمقا أكثر من الرّفل في السطوح أي أرضنة الفكر والانقلاب الكلي على الديكارتية وقلب الأفلاطونية المثالية ؛

انها شماتة منهجية يعمد اليها دولوز لكي يسبر أغوار الاناسة التي لا مفرّ لها من الترحل والترسّم في نظام محايث للعالم ،فبحسب دولوز كل ما في العالم هو مجموعة من ” الخطوط” تنصهر فيها الذوات والأشياء والجماعات والنظم المادية والمجردة مخترقة بخطوط تحيكُها وتتقاطع غير انه وجب تتبع مسار هذه الخطوط التي هي ليست امتداد لجواهر بل تراكيب متداخلة وجب تتبعها لرصد اللحظة التي تتحول هذه الخطوط الى اتجاه آخر لتحيل على “الطي” الذي يجسد الحدث.
ان مفهوم الخط والطي عند دولوز لهما مكانة بارزة في رصد طبيعة الحدث ،على أن دولوز يعطي تقسيمات ثلاتة لهذه الخطوط ،اذ هناك خطوط كبرى تنظم الوجود من حيث علاقته بالكاووس وخطوط صغرى تفتح الأشياء على الصيرورة وخطوط إنفلاتية وهي الجديرة عند دولوز بالتأمل فهي ” في نفس الآن-وبشكل مفارق-خطوط الحياة وخطوط الموت، إذ هي من ناحية ما يحل التركيبات ويردها إلى مصهر الشدة والإختلاف الأوليين”⁶

_________________________________
¹ ميشال فوكو، الكلمات والأشياء، مركز الإنماء القومي ص259.
² هي دعوة لخروج الاناسة التراجيدية من موتها المتجدد الى موت ذو جذور جينالوجية يؤسس لعودة حيوية .
³ عادل حدجامي ، فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف، دار توبقال للنشر ص 146.
⁴ مرجع سابق ص146
⁵ ذكرت المقولة تحت لسان فوكو في إحدى محاضراته بالكوليج دي فرنس.
⁶ عادل حدجامي ،فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف ص 215.

إغلاق