المحور الثاني: الفرد والمجتمع

  • المادة: مادة الفلسفة
  • المجزوءة: مجزوءة ما الإنسان؟
  • المفهوم: مفهوم المجتمع

المحور الثاني: الفرد والمجتمع

محاور الدرس:

  1.  التأطير الإشكالي
  2. أولا: تحليل نص نوربرت إلياس
  3. ثانيا: تحليل نص ألان رونو
  4. خلاصة تركيبية للمحور

التأطير الإشكالي للمحور:

ليس عبثا أن قال الروائي الفرنسي هونوري دي بالزاك أن “العزلة أمر جيد ولكنك تحتاج شخصا لتخبره أن العزلة أمر جيد”، فالإنسان كائن اجتماعي. ولذلك، فيمكن القول، انه رغم اختلاف  الفلاسفة والمفكرين حول الأساس الذي يقوم عليه الاجتماع البشري، وحول ما يدفع الإنسان إلى الاجتماع، حيث ذهب بعضهم إلى أن اساس هذا الاجتماع هو الطبع والطبيعة، بينما ذهب البعض الآخر إلى أن الاساس هو الاتفاق والتعاقد، رغم هذا الاختلاف، يبقى الإنسان ميالا للاجتماع. فالمجتمع بيت الإنسان، وفيه يستطيع تطوير قدراته العقلية، وتوسيع أفكاره، في المجتمع تسمو النفس وتنبل العواطف كما قال الفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي. إلا أن هذا القول يجعل الفرد كائنا سلبيا، خاضعا للمجتمع، وهو ما يجب مساءلته والبحث فيه. وبالتالي سننتقل من البحث في اساس الاجتماع إلى البحث في العلاقة القائمة بين الفرد والمجتمع، وإن كانت العلاقة بينهما علاقة تأثير وتأثر، أم أنها علاقة أحادية الجانب، يؤثر أحدهما في الآخر فقط. ليس هذا فقط، فالإشكال يمتد إلى إشكال الحرية، أي حرية واستقلالية الفرد داخل المجتمع. وحتى يتضح المعنى والقول، فمفهوم المجتمع وخاصة علاقة الفرد بالمجتمع يدفعنا إلى طرح الإشكالات  والتساؤلات الفلسفية التالية:
·       ما طبيعة العلاقة القائمة بين بين الفرد والمجتمع؟
·       هل الفرد ذات مستقلة عن المجتمع وعن إكراهاته وإشراطاته أم أنه ذات خاضعة، خاضعة لبنياته ومؤسساته؟
·       ألا يمكن القول أن العلاقة بين الفرد علاقة جدلية، علاقة تأثير وتأثر، وليست علاقة أحادية الجانب؟

أولا: تحليل نص نروبرت إلياس

1 – تعريف نوربرت إلياس

نوربرت إلياس عالم اجتماع ألماني معاصر، عاش بين سنتي1887 و 1990م، اهتم بدراسة مظاهر الحضارة الغربية من منظور تركيبي، من أعماله نذكر: كتاب “مجتمع الأفراد” وكتاب “دينامية الغرب”.

2 – موقف نوربرت إلياس من علاقة الفرد بالمجتمع

في كتابه مجتمع الأفراد، يؤكد نوربرت إلياس على أن علاقة الفرد بالمجتمع علاقة جدلية، علاقة تأثير وتأثر، ليبقى السؤال المطروح هو: ما الذي اعتمده نوربرت إلياس ليؤكد ويثبت موقفه هذا؟
انطلق نوربرت إلياس من الحوارات التي دارت بين مجموعة من المفكرين حول علاقة الفرد بالمجتمع، ليخلص إلا أن هناك موقفين متناقضين متقابلين، الأول يؤكد أن “كل شيء يرجع إلى المجتمع”، وأن الأفراد المنعزلين هم من يؤثرون في المجتمع، وأنه حتى إذا افترضنا أن فعل الفرد مشروط اجتماعيا، فما ذلك إلا بسبب تأثرهم بأفراد آخرين، ومعنى كل ذلك هو أن الفرد  أساس المجتمع وأنه هو الذي يؤثر فيه. أما الموقف الثاني، فيذهب إلى عكس ما ذهب إليه الموقف الأول، حيث يرى أن “كل شيء يرجع للمجتمع”، وأن جميع قرارات  الافراد مشروطة بشروط اجتماعية، وكذلك بالنسبة لإرادة الأفراد، ومضمون هذا القول أن الأفراد يظلون خاضعين للمجتمع وإشراطاته.
أما نوربرت إلياس فلا يتبنى لا الموقف الأول ولا الموقف الثاني، كما أنه يعتبر هذا الحوار حوارا متجاوزا، وأنه فقد جاذبيته. لماذا؟ لأن الطريقة التي يتبعها الفرد في اتخاذ قراراته ويسلك وفقها، حسب نوربرت إلياس،  هي طريقة محددة وفق علاقات ذلك الفرد بالغير، والتي تتدخل فيها سيرورات اجتماعية والتي تروض طبيعته. لكن نوربرت إلياس لا يرى أن الفرد يبقى خاضعا فقط، كما أنه لا يرى أنه يبقى مجرد موضوع سلبي خاضع لتأثيرات المجتمع وإشراطاته،  بل يؤكد أن الفرد هو الآخر يؤثر في المجتمع ويطبعه بطابعه الشخصي. وهكذا تكون علاقة الفرد بالمجتمع وكما عبر عن ذلك نوربرت إلياس كالعملة النقدية، حيث يكون الفرد هو العملة المطبوعة، وفي الوقت نفسه هو الآلة الطابعة، رغم اختلاف نسبة تأثير أحدهما في الآخر.
في السياق ذاته، وفي نفس الكتاب، يذهب نوربرت إلياس إلى أن الحوار السابق  لم ستغرق وقتا طويلا إلا لأن الناس كانوا يناقشون علاقة الفرد بالمجتمع على أساس أنهما جوهران متمايزان، أي أن لكل منهما وجوده المستقل عن الآخر، ليؤكد أن الأمر ليس كذلك، فالفرد والمجتمع يشبهان وجهي العملة الواحدة، حيث لا يمكن للواحد منهما أن يوجد دون وجود الآخر. إضافة إلى تأكيده على أن المجتمع ليس شيئا من دون أفراده، لأنه _أي المجتمع_ ليس موضوعا معزولا كما أنه لا يواجه أفرادا منعزلين، إنه بتعبير نوربرت إلياس “هو ما يتضمن في قول كل واحد عندما يصرح نحن”، ومضمون القول الأخير أننا حين نقول “نحن” فحديثنا عنا كأفراد، لكن ليس كأفراد معزولين وإنما كمجتمع.
خاتمة القول، أن نوربرت إلياس، يعتبر العلاقة بين الفرد والمجتمع علاقة جدلية، علاقة تأثير وتأثر، وليست بالعلاقة الأحادية الجانب.

3 – قيمة الموقف وحدوده

لا يمكن أن ننكر قيمة موقف نوربرت إلياس بخصوص علاقة الفرد بالمجتمع، فهو بشكل عام كشف ووضح لنا طبيعة العلاقة بين الفرد والمجمع، ووقف عند أهمية كل منهما وتأثيره في الآخر. كذلك، فلا أحد يمكنه أن ينكر خضوع الفرد لتأثيرات المجتمع وإشراطاته، والدليل على ذلك أن الفرد يخضع لتنشئة اجتماعية تؤثر فيه وتطبع شخصيته بطابع مجتمعه، لكنه إضافة إلى ذلك يؤثر في المجتمع ويطبعه بطابع شخصي، وإلا كيف يمكن تفسير اختلاف المجتمعات. وبالتالي فلا وجود لفرد مستقل عن مجتمعه كما لا يوجد مجتمع مستقل ومنفصل عن أفراده. لكن، إذا كان الفرد خاضعا للمجتمع ولتأثيراته، ولو بنسبة من النسب، فهذا يجعل منه فردا غير مسؤول عن أفعاله واختياراته، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: أليس الفرد كائنا مستقلا بكيانه وحريته؟

ثانيا: موقف آلان رونو من علاقة الفرد بالمجتمع

1 – تعريف آلان رونو

آلان رونو فيلسوف فرنسي معاصر، ولد سنة 1948، أما اهتمامه فتوجهت بشكل خاص نحو الفلسفة السياسية، من مؤلفاته: عصر الفرد و نهاية السلطة.

2 – موقف الفيلسوف من علاقة الفرد بالمجتمع

يذهب آلان رونو في كتابه الفرد L’individu الذي ألفه سنة 1995، إلى أن الفرد لم يُنظر إليه ككائن مستقل ولم يُنظر إليه باعتباره منبع تمثلاته وتصوراته النفسية وبأنه هو مصدر أفعاله إلا في العصر الحديث.
وحتى يوضح ذلك، انطلق من اللحظة التي انبثق فيها مدلول الفرد في تاريخ الفلسفة، وهذه اللحظة مرتبطة بالماضي الفلسفي البعيد، حيث يعود هذا الانبثاق إلى الفلسفة اليونانية، وخاصة في فلسفة كل من شيشرون وديمقريطس وأبيقور، الذين تحدثوا عن الوحدات الفردية أو ما يسمى بـ “الذرات” والتي تتميز بعدم قابليتها للإنقسام إلى وحدات أخرى. إضافة إلى ذلك، فألان رونو تحدث عن لحظة أخرى وهي لحظة القرن الرابع عشر، حيث تم الحديث مع النزعة الإسمية بما هي نزعة تنفي وجود كليات، عن ما يسمى بالحالات الفردية أو الأفراد، ليؤكد أن الحالات الفردية الخاصة أو الفردية هي أساس الكليات أو ما سمي بالأسماء العامة.
وليس الغرض من عرض ماضي الفرد داخل الفكر الفلسفي هو الإقرار بما تضمنه ذلك التاريخ، وإنما ليبين ويؤكد أن النزعتين سواء الذرية التي تنظر إلى الفرد كذرة، أو الإسمية التي تنظر إلى الفرد كحالة خاصة، لم توليا للفرد أهمية ولم تُسندا له مكانة كما هو الحال بالنسبة  للفكر الحديث. ليبقى السؤال المطروح هو كيف نظر الفكر الحديث للفرد، وبأي معنى يمكن القول أن الفكر الحديث هو الذي أولى للفرد أهمية وأسند له مكانة؟
يجيبنا ألان رونو بقوله أن الفكر الحديث اعتبر الفرد بمثابة مبدأ وقيمة أساسية وهو ما يصطلح عليه بالنزعة الفردية، التي تقوم على فكرة أساسية هي الحرية، أي حرية الفرد. هذا المبدأ الذي ابتدعه ومجده المحدثون بداية مع النزعة الإنسانية التي انتصرت للإنسان ونظرة إليه كذات حرة وله الحق في اختيار وجوده الخاص، أو بداية مع الفلسفة الديكارتية التي أعلنت أن الحقيقة الأساسية هي حقيقة الذات، وخاصة الذات المفكرة…
إضافة إلى ذلك، فالعصر الحديث يتميز -حسب ألان رونو- بتصوره للإنسان على أنه فرد وأنه هو منبع تمثلاته الذهنية وتصوراته النفسية ومصدر أفعاله، كما أنه هو أساسها أو فاعلها الأساسي. إن الفرد من منظور العصر الحديث، وكما ذهب إلى ذلك ألان رونو، هو “ذلك الكائن الذي لا يستمد المعايير والقيم الموجهة له، لا من الأشياء ولا من تراث الأجداد بل من وعيه وعقله وإرادته”. وهذه الفكرة حسب فيلسوفنا هي أساس الحق الطبيعي الذي هو حق ذاتي أي يعود إلى الإنسان باعتباره الفاعل الأساسي في مجال الحقوق والتشريع السياسي…
إلا أن تصور الفلسفة الحديثة أو العصر الحديث عموما للإنسان بما هو فرد حر للفرد لم يبلغ ذروته إلا مع الفيلسوف إيمانويل كانط، الذي جعل الميزة الأساسية للإنسان هي الإرادة الحرة، وجعله يتصرف وفق منطق الواجب الذي يمليه العقل، ولا شيء آخر غير العقل.
خلاصة القول، إن الفرد في العصر الحديث، لا يمكن إلا النظر إليه باعتباره ذات مستقلة وحرة ومريدة، ومسؤولة عن اختياراتها وأفعالها.

3 – أهمية الموقف وحدوده

لا يمكن أن ننكر أهمية هذا الموقف، موقف الفكر الحديث من الفرد، بما هو موقف يجعل الفرد فردا حرا، غير خاضع لإملاءات المجتمع، وهذا هو الذي سيجعل منه فردا مسؤولا عن أفعاله واختياراته ومسؤول من الناحية القانونية والأخلاقية، إذ لا يعقل أن نحاسب الفرد إذا كانت كل أفعاله واختياراته ناتج عن ضغط المجتمع وسلطته.
لكن، إذا عدنا إلى التحليل النفسي، وإلى ما أكد عليه بعض علماء الاجتماع كإيميل دوركايم، فيمكن تفنيد أطروحة الحرية، فالفرد ليس حرا حتى في عقر منزله الخاص كما قال سيغموند فرويد، كما أن كل الواجبات التي نقوم بها (الواجب كأخ، الواجب كمواطن، الواجب كزوج…) ليست إلا إملاءات المجتمع، ولا نقوم بها إلا خضوعا لسلطته.

خلاصة تركيبية للمحور

خاتمة القول أن علاقة الفرد بالمجتمع لعلاقة ملتبسة، علاقة غير واضحة المعالم، ولعل الذي يجعلها كذلك هو هذه العلاقة الجدلية التي تؤس لعلاقة الفرد بالمجتمع. فالفرد من جهة يستطيع التأثير في المجتمع، عبر إرادته وقراراته واختياراته، لكنه من جهة ثانية يخضع لتأثير المجتمع، لمؤسساته وأنظمته، لإشراطاته وإكراهاته. وهكذا يمكن القول، أن علاقة الفرد بالمجتمع ليس بالعلاقة الأحادية الجانب، بل هي علاقة ذات وجهين، أو لنقل ذات بعدين، بعد فردي ذاتي، يكون فيه الفرد هو سيد ذاته، عبر وعيه وإرادته واختياراته، وبعد اجتماعي، يكون فيه الفرد خاضعا للمجتمع ولإملاءاته ولسلطته، لنجد أنفسنا أمام إشكال فلسفي آخر، يمكن أن نعبر عنه استفهاميا كالآتي: بأي معنى يمارس المجتمع سلطته على الأفراد؟ وما حدود تلك السلطة؟

 

 

إغلاق