مفهوم العقل: دلالات وإشكالات
محاور المقالة
- من الدلالات إلى الإشكالية :
- طبيعة العقل ووظائفه :
- العقل المنغلق والعقل المنفتح.
- العقل واللاعقل.
مفهوم العقل: من الدلالات إلى الإشكالات
يشير العقل في دلالته المتداولة، إلى صفة في الإنسان تعتبر مصدرا لقدرته على التفكير السليم، والحكم الصائب، والسلوك القويم. فحين يوصف إنسان بأنه عاقل يكون معنى ذلك أنه لا يتناقض في تفكيره وأقواله (يدرك الحقيقة ويقولها)، وأن سلوكه يتسم بالرزانة والحكمة والتعقل، ويتعامل مع الآخرين على أساس العدل والإنصاف، والنزاهة، والتفاهم، والحوار، القائم على الحجة والإقناع، واحترام رأي الغير.
يتضمن هذا التمثل الإيجابي للعقل أن العقل قيمة تبوئ الإنسان مكانة أسمى بين موجودات العالم، وخاصة منها الحيوان. إذ يعد العقل فرقا مميزا للإنسان يفصل بينه وبين الحيوان رغم اشتراكه معه في الحيوانية، «فالإنسان حيوان عاقل» في مقابل الحيوان غير العاقل .
بيد أن تمثل الإنسان ككائن عاقل ليس قارا. فالإنسان يفقد عقله أو رشده كما يقال، وينعت تصرفه أحيانا بالحيواني أو البهيمي، كما يحدث في حالات الشجار والتهكم. وينخرط في اعتقادات وممارسات تعتبر لا عقلية، مثل العنف، والظلم، والخرافة، والسحر والشعوذة. ويستسلم للأهواء والغرائز الحيوانية فيه. ويمكن أن يصاب بالجنون والحمق، ويكون طفلا قبل أن يكون راشدا، ففي كل هذه الحالات يعتبر الإنسان غير عاقل فاقدا للعقل أو مختله أو ناقصه. ومع ذلك يقال مثلا : «إن الحقيقة تخرج من أفواه الأطفال والحمقى»…
هكذا تبدو الدلالة المتداولة للعقل ملتبسة وغير قارة، لا يتبين فيها ما إذا كان العقل جوهرا ثابتا في الإنسان أم عرضا قد يحضر فيه ويغيب، وقد يزيد وينقص، ويصح ويعتل، وهو ما يجعل العقل واللاعقل لا تتحدد علاقتهما بوضوح، بحيث لا يظهر ما إذا كانا منفصلين أم متداخلين.
لذلك يفقد العقل بداهته الظاهرة، ويغدو طرح السؤلال: ما هو العقل؟ والجواب عليه، مطلبا ضروريا للتفكير في العقل فلسفيا. وطرح السؤال، حول العقل، على هذا النحو، هو من شأن الفلسفة بل إنه السؤال الأساسي في الفلسفة، ما دامت الفلسفة تقدم نفسها بوصفها نتاجا للعقل وتأسيسا للعقل في آن واحد. ومن ثم يتحول السؤال العام: ما هو العقل؟ إلى سؤال خاص: ما هي الدلالة الفلسفية للعقل؟ ولكن لفظ العقل هو أولاً لفظ لغوي، قبل أن يكون لفظا فلسفيا ذا دلالة فلسفية خاصة، لذلك يقتضي تحديد هذه الدلالة الأخيرة تحديد الدلالة اللغوية للعقل أولا .
ورد في لسان العرب : « العقل الحجر والنّهي ضد الحمق . . . والعاقل الجامع لأمره ورأيه ، مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه وقيل العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها … وسمي العقل عقلا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي يحبسه … وقيل العقل التمييز الذي يتميز به الإنسان من سائر الحيوان … وعقل الشيء … فهمه». وإذا كانت هذه الدلالة اللغوية العربية للفظ العقل تبرز بقوة الطابع العملي الأخلاقي للعقل بوصفه قوة زاجرة مضادة للأهواء والغرائز الإنسانية، والحمق والحيوانية، فإن الدلالات اللغوية للفظ العقل في اللغات اليونانية واللاتينية والفرنسية ، تبرز البعد الفكري واللغوي والأونطولوجي للعقل.
هكذا نجد لفظ اللوغوس Logos الإغريقي يدل من بين ما يدل عليه، على: «الكلام، والنظام، والذكاء، وملكة الإستدلال والحكم، والعلة، والمبدأ، والأساس، والنسبة أو العلاقة الرياضية.» (معجم M.A. Bailly ) وتدل كلمة Ratio اللاتينية – وهي ترجمة لكلمة لوغوس- على الحساب والتفكير . ومن هذه الكلمة اللاتينية اشتقت كلمة Raison الفرنسية، ولذلك تحتفظ في دلالتها الأصلية بمعنى الحساب، وتدل اصطلاحا على: «ملكة التفكير التي تتيح للإنسان المعرفة والحكم والعمل طبقا لهما … والعلة، والمبدأ، والأساس، والنسبة الرياضية بين عددين أو كميتين رياضيتين.» ( معجم Robert)
تحتفظ الدلالة الفلسفية للفظ العقل بدلالاته اللغوية هذه، مع تصنيفها وتعريفها وربطها بعلاقات بحيث يتشكل من مجموعها المفهوم الفلسفي للعقل. وهكذا نجد لالاند في معجمه الفلسفي يصنف المعاني الفلسفية للعقل إلى معنيين رئيسيين: العقل بوصفه ملكة للمعرفة، والعقل بوصفه موضوعا للمعرفة، الأول ينتمي إلى الذات العارفة، ولكنه ليس ذاتيا بالمعنى السيكولوجي، بل بالمعنى المنطقي والمعياري. يتجلى المعنى المنطقي للعقل في أنه ملكة الاستدلال، والحدس، وملكة المبادئ». يشتغل العقل المنطقي بمفاهيم كلية مجردة، وينتج بواسطة ربطها بعلاقات و روابط منطقية (روابط الحقيقة)، معرفة يقينية، ذات صلاحية كونية تفرض نفسها على جميع الناس في كل زمان ومكان، بهذا المعنى يعد العقل خاصية مميزة للإنسان في مقابل الحيوان، وتتقابل المعرفة العقلية المتسمة بالتجريد والكلية والضرورة واليقين، مع المعرفة الحسية والخيالية ومع الوهم. أما العقل المعياري أو الحس السليم، فوظيفته « التمييز بين الخير والشر، والصدق أو الحق والكذب أو الباطل، والقبح والجمال، بواسطة شعور باطني تلقائي مباشر». إنه ملكة القيم والمعايير التي يتحدد بها التفكير الصحيح، والسلوك الخير، والجمال الحق. هنا يتقابل العقل مع الهوى والغريزة. وتتقابل المعرفة العقلية مع الوحي، باعتبار أن الوحي معرفة إلهية منزلة مطلقة تقتضي الإيمان والتسليم بها، على حين تعتبر المعرفة العقلية نتاجا لمجهود العقل البشري، ومن ثم فهي معرفة متطورة قابلة الخطأ والتصحيح.
والعقل الموضوعي يعني العلة والمبدأ والأساس. ومعنى ذلك أن في الواقع نظاما سببيا أو عليا على أساسه يتحقق التوافق بين العقل الإنساني وبينه. فالعقل هو: ملكة إدراك أسباب الأشياء وعللها» كما يقول كورنو، إنه علة الحقيقة في الفكر وعلة الوجود في الأشياء، ومن ثم تعتبر الفوضى والصدفة والخوارق لا عقلية. هكذا يكون العقل: ذاتيا وموضوعيا، واحدا ملكة المعرفة ومتعدد الأشكال (استدلالا، حدسا، معيارا) ، كليا وكونيا وضروريا في مقابل الإحساس والخيال والوهم، نسبيا ومحدودا في مقابل الوحي أو المعرفة الإلهية المطلقة .
من مجموع هذه التقابلات تنبع الإشكالية الفلسفية للعقل: ما هي طبيعة العقل: هل هو طبيعي فطري أم ثقافي مكتسب ؟ من أين تستمد المعرفة العقلية الكلية والكونية والضرورة التي تتسم بها؟ إن كان ذلك من مبادئ العقل، فمن أين يستمد العقل مبادئه؟ هل العقل حرية وانفتاح أم قيد وانغلاق؟ ما هي الحدود الفاصلة بين العقل واللاعقل؟ أليست هذه الحدود من صنع العقل ذاته؟
2 طبيعة العقل ووظائفه :
تأسس مفهوم العقل في الفلسفة أولا في شكل عقل كلي كوني، يشيع النظام والتناسق والانسجام في العالم، يقابله عقل إنساني هو صورة ناقصة له، يسعى إلى السمو والتعالي نحوه، عن طريق التأمل والتحرر من الجسد وغرائزه وأهوائه. فوظيفة العقل الإنساني، ضمن هذا التصور الأنطولوجي الثيولوجي للعقل، هي السعي إلى بلوغ معرفة تأملية شمولية للكون والإنسان (الحكمة)، غايتها تحقيق الانسجام والكمال والتوافق مع العالم. في مقابل هذا التصور الذي أنتجته الفلسفة اليونانية حول العقل (العقل والأسطورة، فرنان) – بوصفه نظاما، ومعيارا، ومثلا أعلى للفكر والسلوك- أنتجت الفلسفة الحديثة تصورا مخالفا للعقل: «فلقد خفت، خلال العصر الحديث الحمولة الموضوعية للعقل، واتخذ معنى ذاتيا أضيق. فالعقل يعني الآن الملكة التي بها يفكر الناس ويحكمون. فأن يكون الإنسان عاقلا هو أن يعرف كيف يستخدم ذكاءه، أقل مما هو أن يفوض أمره لجلال نظام العالم وبهائه.» (ميلاد العقل في اليونان، ماتييي).
لقد غدا العقل إذن أداة لمعرفة العالم والسيطرة عليه، بدلا من تأمله والانبهار به. إنه آلة منتجة للمعرفة، ومحققة للمردودية. إنه ذكاء، ومنهج، وتقنية لتنظيم المعطيات والأفكار، واستخلاص النتائج اللازمة عنها، وتطبيقها تطبيقا عمليا نافعا تأسس هذا التصور التقني المنهجي للعقل في فلسفة ديكارت. فالعقل عند ديكارت، هو نور فطري في الإنسان، يمكنه من التمييز بين الخير والشر، ويوصله إلى معرفة الحقيقة وهو متساو بين الناس جميعا، فلا يختلفون في امتلاكه، وإنما في طرق استخدامه. (فطرية العقل – ديكارت ). ولذلك اقترح ديكارت منهجا لحسن استخدام العقل، مستلهما من المنهج الرياضي، يكفل في اعتقاده، إذا ما تم الالتزام به بدقة وصرامة، بلوغ معرفة يقينية لا حدود لها، تكون أداة للسيطرة على الطبيعة وتسخيرها. وهذه المعرفة لا يستمدها العقل من التجربة الحسية (لأن المعرفة الحسية قابلة للشك بسبب خداع الحواس وخطئها)، وإنما يشتقها من ذاته، أي من أفكار فطرية في العقل.
ولكن كيف يمكن للعقل أن يبني معرفة للواقع الطبيعة) من ذاته دون الاعتماد على التجربة الحسية؟ إن حجة خطأ الحواس وخداعها لا تكفي لإقصاء دور التجربة الحسية في المعرف العقلية . بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك مع النزعة التجريبية المتعارضة مع النزعة العقلانية الديكارتية، والقول إن المعرفة كلها تأتي من التجربة الحسية. فالعقل عند لوك والتجريبيين عموما شبيه بصفحة بيضاء لا يوجد فيه إلا ما يأتي من التجربة الحسية. حتى ما اعتبره ديكارت أفكارا فطرية وبداهات عقلية. ويمكن أن يستنتج من ذلك أن العقل لا يعود -على الأقل في محتواه المعرفي- متساويا بالطبيعة والفطرة بين الناس، بل سوف يختلف باختلاف تجارب الناس وبيئاتهم الطبيعية والثقافية. فالعقل إذن مركب ثقافي، يكتسب، وينمو، ويتطور، ويختلف من مجتمع لآخر، ومن عصر تاريخي لآخر.
ونتيجة لذلك، تفقد المعرفة العقلية خصائص الكلية والكونية والضرورة واليقين التي تضفيها عليها النزعة العقلانية. إن العقل لا يعود حينئذ مستودعا الحقائق خالدة مطلقة وثابتة أبدية. بل هو وعاء المعطيات التجربة التي تنتظم فيه بفعل العادة والتكرار .
ولكن كيف يدرك العقل خطأ الحواس ويصححه ؟ وكيف يفترض ويستنتج ويستدل على ما لا تدركه الحواس مباشرة؟ إذ لو كان العقل وعاء ااحتواء معطيات التجربة لما استطاع ذلك. ولكان شبه مرآة تعكس التجربة على نحو سلبي. فالأطروحة التجريبية مثلها إذن مثل الأطروحة العقلانية، تنظر كل منهما إلى العقل من جانب واحد. وذلك ما حاول كانط تجاوزه. فقد أبرز أن العقل، حقا، ليس مستودعا لمعرفة فطرية سابقة على التجربة، ولكنه ليس، كذلك، مرآة تعكس بشكل سلبي معطيات التجربة. بل هو بناء معماري، يتألف من صور ومفاهيم ومبادئ قبلية سابقة على التجربة ومتعالية عليها، بواسطتها يقوم العقل بتوحيد وتنظيم معطيات التجربة الحسية أو مادتها (الحدوس الحسية) وتحويلها إلى معرفة كلية وضرورية. ويقوم العقل بعملية التوحيد هذه في مستويين: مستوى الفهم (بمقولاته) ومستوى العقل الخالص (بمبادئه). فالفهم هو العقل متصلا بالتجربة الحسية، وهو ملكة للقواعد قواعد الحساب المنطقي: الاستدلال والاستنتاج)، والعقل الخالص هو العقل مستقلا عن التجربة الحسية أو مرتبطا بها على نحو غير مباشر بواسطة الفهم، لأن العقل الخالص يعيد توحيد ما وحده الفهم ، في إطار المبادئ المتعالية للعقل، هذه المبادئ التي يضعها العقل أو يتكون هو نفسه منها كما يقول كانط: «العقل منظومة من المبادئ القبلية » . (العقل ملكة المبادئ – كانط).
هكذا يكون العقل فاعلا ، مَوَحَداً منظماً، بدونه كان سيظهر العالم فوضى لا نظام فيه. فهو الذي يضفي النظام والمعقولية على الواقع. ولكنه في ذات الوقت عاجز عن إنتاج المعرفة من ذاته وحدها، لأنه صورة تظل بدون المحتوى التجريبي فارغة. وينتج عن هذا، مباشرة، أن قدرة العقل على المعرفة محدودة، خلافا لتصور ديكارت، وكجميع الفلاسفة الوثوقيين أو الدوغمائيين الذين وثقوا في العقل ثقة مطلقة ولم يطرحوا السؤال عن مدى ما يمكن العقل أن يعرفه. ومن ثم أنشأوا ميتافيزيقا عقلية خالصة تبحث في ما وراء الواقع (وجود الله، خلود النفس، بداية العالم). وهي ميتافيزيقا متناقضة يطبعها الصراع والتناقض والاختلاف، بسبب عدم إخضاع العقل للنقد. ونقد العقل الخالص كما أنجزه كانط يبين حدود المعرفة العقلية (حدود العقل – كانط). إن العقل عندما يتجاوز مجال التجربة، يصير عقلا جداليا سجاليا، لا ينتج معرفة يقينية، وإنما ينتج أطروحات متناقضة لا سبيل إلى حلها، فالمجال الوحيد الذي يمكن للعقل أن ينتج فيه معرفة أكيدة هو المجال التجريبي العلمي، والمجال العملي الأخلاقي لأنه في المجال الأول يجد سندا موضوعيا يحتكم إليه (وهو التجربة)، وفي المجال الثاني يستند على الإحساس بالواجب الأخلاقي وعلى الإرادة الطيبة.
3 العقل المنغلق والعقل المنفتح.
رغم ارتباط ميلاد العقل الحديث بالشك الديكارتي والنقد الكانطي، فإنه ظل يتصور ذاته ثابتا منغلقا يقصي من ذاته ومن الواقع كل ما هو لا عقلي، وكل ما ليس يقينيا. يتبدى جوهرا أو بنية متعالية منتجة للمعرفة، انطلاقا من مجموعة من المبادئ التي اعتبرت خالدة متأصلة فيه وهي :مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض، ومبدأ الثالث المرفوع ومبدأ السبب الكافي. فمع أن الواقع يبدو ومتغيرا ومتحولا، فإن العقل يعمل بمبدأ الهوية الذي يقضي بأن الشيء يكون هو هو دائما مطابقا لذاته. فالطاولة هي طاولة وليست جملا، والعدد الفردي فردي وليس زوجيا، وأ هي أ ، وليس ب، والوجود وجود وليس عدما، وهكذا. كما يعمل العقل بمبدأ عدم التناقض الذي يقضي بأن النقيضين لا يجتمعان، وأن القضية ونقيضها لا يكونان معا صادقين، بل إذا كانت إحداهما صادقة كانت الأخرى كاذبة بالضرورة. فإذا كانت القضية أ = ب، مثلا صادقة، فإن نقيضها أ≠ب كاذبة بالضرورة. ومن هنا ينبثق مبدأ الثالث المرفوع، وهو أنه لا وسط بين الصدق والكذب، فإما أن تكون قضية ما صادقة وإما أن تكون كاذبة، ولا يمكن أن تكون لا صادقة ولا كاذبة في آن واحد ومن جهة واحدة . ويقضي مبدأ السبب الكافي الذي صاغه اليبنتز بأنه: «لا يمكن الواقعة أن تكون … موجودة ولا لأي منطوق أن يكون صادقا دون سبب كاف يبرر لماذا يكونان على هذا النحو وليس على نحو آخر.» ( ليبنتز ، المونادولوجيا ، الفقرة 31 ).
على أساس هذه المبادئ ظل العقل يشتغل، وكأنها مبادئ مطلقة خالدة ثابتة. ويعمل وفقا لها على تجريد الواقع من حركته وصيرورته وتناقضاته وتغيراته، ويذيب الاختلافات والفروقات بين الأشياء والذوات ويدخلها في شبكة من العلاقات تطمس فرديتها وتميزها واختلافها، واثقا من ثبات قوانين الطبيعة وحتميتها.
غير أن تقدم العلوم، وتعرضها لأزمات داخلية خلال القرن التاسع، أديا إلى نشوء عقلانية جديدة مرنة مخالفة لتحجر العقلانية الكلاسيكية، إذ لم يعد يتصور العقل جوهرا ثابتا أو بنية قبلية متعالية مطلقة ، بل أصبح ينظر إليه كأداة لانتاج المعرفة تنمو وتتطور من خلال عملية إنتاج المعرفة ذاتها. بحيث ينفتح العقل ويوسع تصوراته ومبادئه لاستيعاب وقائع جديدة لم يكن يعمل عليها من قبل، مثل النقائض الرياضية، واللاحتمية الفيزيائية والصدفة، والاحتمالات. وقد استخلص باشلار نتائج هذا التطور بالنسبة للعقل حين قال: ينبغي «إعادة العقل إلى الأزمة، وإثبات أن وظيفة العقل هي إثارة أزمات، وأن عقل المناظرة (السجالي) الذي اختصه كانط بمنزلة ثانوية، لا يمكن أن يمضي في ترك العقل المعماري ينعم في تأملاته».
وقد عمل هيجل من جهة أخرى على بناء تصور ديناميكي تاريخي للعقل . فالعقل بالنسبة لهيجل، ليس كيانا ميتافيزيقيا مجردا معزولا عن الواقع ، بل هو نسيج الواقع والفكر معا، حي نام متطور، بسبب عنصر السلب أو النفي الذي يدخل في تكوينه. إنه ذو بنية متناقضة، أو هو عقل جدلي (ديالكتيكي) يتحرك من الأطروحة إلى نقيضها ثم إلى تأليف الأطروحة ونقيضها وتركيبهما في مركب جديد يحتفظ بهما ويتجاوزهما في آن واحد. وبهذا المعنى لا يعود العقل في تصور هيجل ذاتيا فحسب، بل هو ذاتي وموضوعي، فحيث يوجد السلب والنفي والتجاوز ثمة عقل، وهكذا يصبح العقلي واقعيا، والواقعي عقليا. ويصبح العقل قوة لا متناهية محركة للتاريخ والعالم . (العقل قوة لا متناهية – هيجل ).
ضد شمولية العقل الجدلي هذه وضد العقلانية الكلاسيكية، اللتين تذيبان الفروق بين الذوات الإنسانية، و تحولانها إلى تجريدات أو وحدات حسابية في أنساق نظرية أو علمية مجردة، نشأت نزعات لا عقلانية تستبدل بالعقل الموحّد المجرد الحاسب السالب الشامل والمهيمن، ما هو لا عقلي في الإنسان .
4 العقل واللاعقل.
إن تعريف الإنسان بأنه عاقل ، هو تعريف مجرد، لأنه إن « كان الإنسان عاقلا ، فالناس ليسوا عقلاء »، كما يقول إريك فايل. ومعنى هذه العبارة المتناقضة في ظاهرها، أن القول بأن الإنسان عاقل هو قول مجرد وعام، يحجب الواقع الفعلي للإنسان الذي يظهر فيه أفراد البشر عاقلين أحيانا، وغير عاقلين أحيانا كثيرة، بحيث يتقاسم العقل واللاعقل سلوكات الناس وتصرفاتهم وعلاقاتهم، بل إن نيتشه يبين أن العقل ليس سوى قوة لحفظ الحياة، ومن ثم فإن المعرفة التي ينتجها تشكل « قطعة من الحياة » غير أنه نشأ وهم بأن العقل معارض للحياة، وأن العقل منتج للحقيقة والقيم الأخلاقية المعارضة للغرائز والأهواء. والحال أن الحقائق العقلية إن هي إلا أخطاء أو أوهام ثبت نفعها في معركة الصراع من أجل البقاء. ( العقل والحياة نيتشه). وكشف التحليل النفسي أن العقل الواعي المنطقي الواقعي ليس سوى جزء منفصل عن منطقة اللاشعور أو اللاوعي التي تجري فيها عمليات لا شعورية تكشف عن نفسها في صور وأشكال تبدو لا عقلية مثل الأحلام والهذيانات العصابية والفَصامية. ولكن التحليل النفسي يظل وفيا للعقل، حيث يحاول الكشف عن المعقولية وراء لا معقولية الأحلام والظواهر المرضية . (معقولية الأحلام – فرويد ). وهكذا فإن المجنون لا يعود إنسانا غير عاقل أو فاقدا للعقل، بل هو عاقل فقد مبدأ الواقع أي مراعاة مبدأ السببية والتميز بين الممكن والمستحيل والمناسب وغير المناسب. فالمجنون هو شخص: فقد كل شيء إلا العقل» كما يقول باسكال. والأهواء أيضا لا تقصي العقل، بل إنها تستخدمه بشكل مفرط في الدقة والصرامة والذكاء أحيانا (العقل والهوى – جرانجيه). والخيال خلاق ومبدع ، يتيح للعقل المنطقي إعادة بناء الواقع وتركيبه في صور وأشكال تفسح المجال لتجريب الممكن. ثم إنه يقترن بالعاطفة والوجدان ، فينتجان روائع إبداعية لا تقل قيمة وقوة عن إبداعات العقل المنطقي العلمي، كما يظهر في الشعر ، والموسيقى ، والرسم ، والفن بصفة عامة.
فالعقل في آخر المطاف لا ينفصل عن اللاعقل كما تصورته العقلانية الكلاسيكية (العقلانية الكلاسيكية ونفيها، إدغار موران)، ثم إن العقل ذاته يتحول إلى لا عقل حين يكون دوغمائيا ويفقد الحس النقدي، وحين يتحول إلى تقنية للسيطرة على الإنسان، من خلال التقنين العقلاني للإنتاج الاقتصادي سعيا نحو أكبر قدر ممكن من المردودية ونحو التحكم المتزايد في رغبات الإنسان وتوجيهها، والتبرير العقلاني لكل أشكال الاستغلال والاستثمار، والعنف، وتحويل كل القيم إلى قيم استعمالية تبادلية. هنا يصبح العقل قوة قمعية استبدادية، ويفقد وجهه الإنساني، ويصير قوة استلابية. (العقل قوة قمعية، ماركوز)
غير أن هذه الصفة القمعية الاستبدادية للعقل، لا تعود إلى طبيعة العقل ذاته، وإنما تعود من جهة إلى استعماله التقني المرتبط بإرادة السيطرة والهيمنة والتحكم والسعي إلى المردودية والفعالية ومن جهة أخرى إلى التفاوت والتراتب المجتمعي، فطالما انفردت أقلية أو صفوة متخصصة من الناس بممارسة العقل نيابة عن الآخرين، فإن هؤلاء الأخيرين يكونون تحت وصاية أولئك. فالوصاية هي الخضوع لتسيير الغير، والعقل في بعده الانساني استقلال ومسؤولية وكرامة. أي أنه يتنافى مع الوصاية والتبعية. (العقل استقلال وحرية – كانط ). ويقتضي ذلك أن يمارس الناس جميعا العقل على قدم المساواة بحرية ومسؤولية. ويقتضي ذلك بدوره مجتمعا ديموقراطيا، أي مجتمع مواطنين أحرار يتواصلون على أساس الاحترام المتبادل والحوار والإقناع، وليس على أساس العنف و القهر والاستبداد السافر والمباشر أو الرمزي المستتر.
هكذا يظل العقل قيمة ومثلا أعلى رغم استعمالاته السيئة والمضرة، والتعارض اللي يقام بين العقل واللاعقل، مرده إلى العقل ذاته، فالعقل هو الذي يقيم الثنائية في الإنسان بين ما هو سام وها هو منحط، وهو الذي يضفي على نفسه القيمة المطلقة ويحط من قوى الإنسان المعرفية والحيوية الأخرى ولعل ذلك ما يفسر ردود الفعل العنيفة ضد العقل والعقلانية والتي عبرت عن نفسها في نزعات مثل الرومانسية، والسريالية، والوجودية. وإذا كانت هذه النزعات نتاجا لظروف تاريخية معينة، فإنها تظل مع ذلك مؤشرا على أن كل تجزيء للوحدة المتكاملة للإنسان، بتغليب العقل فيه على اللاعقل أو العكس، يفقده إنسانيته كليا أو جزئيا. ففي الوحدة المتكاملة للإنسان، ينتفي التعارض بين العقل والإيمان، وبين العقل والتجربة، والخيال، والحلم، والعاطفة. ذلك لأن كل هذه القوى تعمل حينئذ في الإنسان في حرية وانسجام، فيفقد العقل سلطته المطلقة واستبداده ، ويصير قوة نقدية محررة للإنسان من كل أشكال الاستبداد وسلطه السالبة للحرية الفكرية والمدنية وللعقل ذاته من أخطائه. ذلك لأن «العقل، والعقل وحده هو الكفيل بتصحيح أخطائه».
مقتطف من الكتاب المدرسي : الفكر الإسلامي والفلسفة 2006