مفهوم الجليل عند ايمانويل كانط

يوسف المرابط / باحث في الفلسفة – المغرب

        ان احكام الذوق المتعلقة بالجليل مرتبطة بطريقة لا فكاك منها بفكرة العقل عن الحرية، كان قد كتب حول موضوع الجليل المفكر اليوناني لونجينوس، وخلال القرن السابع عشر كتب وراجع الناقد الفرنسي نيقولا بوالو مسالة الجليل، واعتبر بان هذا الاخير مرتبطا بالبرية والخلاء الواسع في الطبيعة، لكن الذي اعطى لهذا الموضوع حقه من التفسير والدراسة هو امانويل كانط، الذي كتب اولا حول موضوع الجليل خلال 1746م في كتابه “ملاحظات حول الشعور بالجميل والجليل“، وهذا ما يدفعنا الى وضع الاشكالات التالية:كيف تصور كانط مفهوم الجليل؟ وما انواعه؟ وهل الجليل يتمتع بوجود مستقل عن مدركه ام يحتاج الى من يكتشفه ويؤكده؟

    لقد قابل ايمانويل كانط في الكتاب السابق الذكر بين الشعور بالجليل والشعور بالجميل، فالجليل يحرك في حين ان الجميل يسخر. وفي كتابه “نقد ملكة الحكم” يقرر ان تجربة الجليل تنشا من خلال معلومة حسية مفرطة، وهناك طريقتين يمكن ان تحدث بواسطتها هذه التجربة، اما من خلال احساس غامر بالضخامة او بالقوة “الجليل الرياضي” “الجليل الدينامي”

يعتمد الجليل الرياضي عن مشاعر الحيرة والارتباك، كماهي الحال مثلا عندما يدخل كاتدرائية القديس بطرس لاول مرة، او يقترب من صرح تذكاري مثل الهرم ، ففي حالة الهرم تحتاج العين لبعض الوقت لكي تكمل الادراك من الاساس حتى القمة، لكن خلال هذا الوقت تكون بعض الاجزاء الاولى قد انطفأت في المخيلة قبل ادراك الاجزاء اللاحقة…وهكذا لا يكتمل الفهم الشامل ابدا

اما فيما يتعلق بدينامية الجليل في فلسفة كانط، فاننا نجده يؤكد بان هذه الدينامية تحدث تجربة اللا شكل من خلال التفاعل مع الطبيعة بوصفها قوة جريئة، تهدد الصخور، والسحب الرعاة تتجمع في السماء، وتتحرك كما يصاحبها البرق وقصف الرعد، والبراكين بكل ما لها من قوة مدمرة، والأعاصير بكل ما تخلفه وراءها من خراب ودمار، وهيجان المحيط الذي لا حد له، والشلالات العالية للأنهار القوية.

كل هذه الظواهر تثير شعور بالرعب واحساسا بالدونية الخسيسة، لكن مشاعر اخرى تنشا كقوة مضادة تشير الى شرط “الحكم الخير”، وهكذا نجد ان الشخص الفاضل يخشى الله دون ان يخاف منه، وسوف يبرهن المقاتل العظيم على جميع فضائل السلام، والرقة والتعاطف، والرعاية المناسبة لشخصيته لانها تكشف ان ذهنه لا يمكن ان يقهره الخطر.

يصر كانط على ان تجربة الجليل لا تعتمد على الموضوع (الطبيعة مثلا)، وانما تعتمد على الذات، ولقد فهم فلاح سافوى ذلك جيدا عندما قال” احمق من يتخيل جبال الجليد جبالا حقيقية”. ولهذا السبب فان كانط يوافق تماما على تحزيم التصويرات ويدافع عن سفر الخروج. فربما كانت اعظم فقرة جليلة في القانون اليهودي هي الوصية “لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض…”

هكذا فان تجربة الجليل تضخمها ملكة المخيلة، وهذا البناء من مثيرات حسية في الخيال يعيق الفهم من اداء وظيفته، ويؤدي الى الشعور بالالم وانعدام اللذة. ان البناء من الاحساس في الخيال يظهر في الفرق بين تجربة ثلاث عناصر، العظمة او القوة المرتبطة بالموضوع(الطبيعة)، او داخل اللا متناهي والحرية.

ان تجربة الاتساع او القوة ليست هي نفسها تجربة اللا متناهي، كما انهما ببساطة لا يشبه الواحدة منهما الاخرى، ومع ذلك فهما ليسا مختلفين تمام الاختلاف. ونظرا لعدم استقرار العلاقة بين هاتين التجربتين يؤدي الى ظهور الشعور المبدئي وبالالم وانعدام اللذة اي المصاحب للجليل، وذلك يدل على التضحية بالمخيلة، غير ان الالم وانعدام اللذة يعقيهما لذة او متعة وعلى الاستقرار في العلاقة بين الطبيعة واللا متناهي يبرهن على افراط او اسراف، وهذا الافراط في الحرية اي حضور العقل، ونتيجة لذلك فان المخيلة تكتسب تمددا واتساعا وقوة، اذا تجاوزت الواحدة تضحي بها.

على الرغم من ذلك فان المخيلة لا يمكن ان تتحد مع العقل وفكرة الحرية، فهي تخضع باستمرار وبواسطة العقل للفكرة القائلة بانها لا تستطيع ان تدرك الحرية، ويرى كانط بان الحكم على الجليل في الطبيعة يتطلب الثقافة.

عموما يمكن القول بان الجليل يوجد في الموضوعات الغير متناهية، ولا صورة له، وغير متعين، فهو يتجاوز المخيلة ويحيل الى اللا متناهي، ولا يدركه اي شخص فهو يخص ذاته، وقد يصيبنا بالرهبة والخوف، ففي البداية يروعنا لكن شيئا فشيئا نطمئن حينما تحضر لدينا فكرة الاله العادل.

       خلاصة القول،يستفاد مما سبق بان الجليل له علاقة وطيدة بالحرية والجميل غير انه يختلف عن هاذين المفهومين الأخيرين،والجليل قسمان الرياضي الذي يحيل الى العظمة في المقدار وتدخل ملكة المخيلة مع ملكة المعرفة، والدينامي الذي يشير الى الطبيعة من حيث هي هي متصورة في الحكم الجليل،ويمكن ان نذكر حتى الجليل المتعلق بالكم الذي ينطبق فقط على افكار العقل، وهو قادر ان يتجاوز ما هو في الطبيعة الى اللامتناهي. 

 

المرجع: كرستوفر وانت واندرجي كليموفسكي، اقدم لك…كانط، ترجمة امام عبد الفتاح امام، المشروع القومي للترجمة، العدد 630، الطبعة الاولى، 2002م، الصفحات140،141،142،143،144،146،147،148.

إغلاق