درس معايير علمية النظريات العلمية – مفهوم النظرية والتجربة
موضوع الدرس
- المجزوءة الثانية: مجزوءة المعرفة
- المفهوم الأول: مفهوم النظرية والتجربة
- المحور الثالث: محور معايير علمية النظريات العلمية
معايير علمية النظريات العلمية
التأطير الإشكالي للمحور
لقد استطاع العلماء صياغة نظريات نطلق عليها تسمية النظريات العلمية، كنظرية النسبية لأينشتاين، ونظرية النشوء والارتقاء لتشارلز داروين وغيرها من النظريات. هذه النظريات وغيرها ندعوها بالنظريات العلمية. لكن بما أن التفكير الفلسفي يتميز بكونه تفكير تساؤلي ونقدي، فلابد من مساءلة هاته الصفة التي تتصف بها النظريات والتي هي صفة العلمية. اي لابد من التساؤل عن معايير علمية وصلاحية النظريات العلمية. إذن، ما الذي تشترك فيه النظريات ويجعلها نظريات علمية؟ بتعبير آخر ما معايير علمية وصدق وصلاحيةالنظرية العلمية؟ هل معيار علمية وصدق وصلاحية نظرية علمية ما هو تماسكها المنطقي، أي انسجام مبادئها مع نتائجها، أم هو تطابقها مع الواقع، وقابليتها للتحقق التجريبي، أم أن المعيار يتجاوز ذلك؟
قبل الإجابة عن الإشكالات سنقوم أولا بتعريف مفهوم النظرية ومفهوم المعيار
تعريف مفهوم النظرية ومفهوم المعيار
تعريف مفهوم النظرية:
نسق من المبادئ والقوانين والمفاهيم ينظم معرفتنا بمجالات خاصة، ويتضمن هذا النسق بناء منطقيا له مكوناته ويخضع لنظام فرضي استنباطي، يسمح للعالم بالانتقال من عنصر إلى آخر وفق تراتب صارم. وتختلف النظرية العلمية عن النظرية الفلسفية في كون النظرية العلمية ذات محتوى تجريبي (مثل نظرية نيوتون للحركة) على خلاف النظرية الفلسفة (مثل نظرية المثل لأفلاطون)
تعريف مفهوم المعيار:
المرجع أو المقياس الذي يعتبر منطلقا وأساسا للحكم على فكرة أو نظرية ما والتحقق من صحتها أو خطئها. وتختلف المعايير باختلاف المجالات، فالمعيار الرياضيات مثلا ليس هو المعيار في العلوم التجريبية…
موقف الوضعية المنطقية: معيار علمية النظريات العلمية هو التحقق التجريبي
في الحديث عن معايير علمية النظريات العلمية، يرى أنصار الوضعية المنطقية مثل رودولف كارناب، أن المعيار الوحيد للتأكد من صدق وصلاحية وعلمية النظريات العلمية هو معيار التحقق التجريبي. فبالنسبة لأنصار الوضعية المنطقية فالنظرية العلمية ليست سوى تمثيل صوري لمعطيات مادية، أي أنها نسق من القضايا العلمية التي يقابل كل منها واقعة مادية جزئية، ومن ثمة فكل نظرية تتضمن قضايا لا يقابلها أي شيء في الواقع فهي ليست بنظرية علمية، وإنما هي مجرد قول ميتافيزيقي لا معنى له. وبالتالي فأول خطوة ينبغي القيام بها للتأكد من صدق وعلمية وصلاحية نظرية ما –في نظر أنصار الوضعية المنطقية- هي أن نقوم بفحص عباراتها، وذلك من أجل التأكد من أنها جميعها تتوفر على معنى، ويتم ذلك من خلال التأكد من أن كل عنصر له مقابله في الواقع.
ولتوضيح موقف الوضعية المنطقية بخصوص علمية النظريات العلمية، يمكن أن نقدم مثالا لقول لا يعتبر قولا علمي، ولا يمكن أن يصنف ضمن النظرية العلمية. وهو قول الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل: “رأيت روح العصر يمتطي جوادا”. هذا القول ليس قولا علميا، ولا يمكن أن يمثل نظرية علمية، لأنه يتضمن عبارة لا مقابل لها في الواقع، ولا يمكن التحقق منها تجريبيا، وهي عبارة “الروح”. لذلك فأنصار الوضعية المنطقية يعتبرون هذا القول قولا ميتافيزيقيا لا معنى له.
موقف كارل بوبر: معيار علمية النظريات العلمية هو القابلية للتكذيب
بخصوص معايير علمية النظريات العلمية، يؤكد الفيلسوف الإنجليزي كارل بوبر أن مبدأ التحقق التجريبي لا يسمح لنا بالتحقق بشكل كلي من صدق فكرة علمية ما، وإنما بشكل جزئي فقط، فهو محدود بالمكان والزمان. والمثال على ذلك، أننا لا يمكننا أن نتحقق تجريبيا بأن كل البجع أبيض في كل زمان وفي كل مكان، وأن كل الأجسام في كل مكان وكل زمان تسقط بنفس السرعة في الفراغ. مؤكدا على قوله بنفي القدرة على تغطية كل نقاط الزمان والمكان بالملاحظة والتجربة. وبالتالي فالنظريات التي يقول عنها أنصار الوضعية المنطقية بأنها علمية، هي علمية بشكل نسبي فقط، أي حتى يتم تفنيدها.
لذلك يؤكد كارل بوبر على أن معيار القابلية للتكذيب هو معيار علمية وصدق وصلاحية النظريات العلمية، وليس القابلية للتحقق التجريبي. معنى ذلك أنه لابد من مواجهة النظرية بما يمكن أن يكذبها ويبين عيوبها، وليس بما يؤكدها ويبرر صدقها. وهذا ما سيؤدي إلى تقدم العلم.
يقول بوبر: إن معيار القابلية للتفنيد أو القابلية للتكذيب يمكن أن نطلق عليه معيار القابلية للاختبار ، ذلك أن اختبار نظرية ما تماما كاختبار جزء من آلة ميكانيكية يعني محاولة تبيين العيب فيها“.
ومن بين النظريات التي لا يمكن تفنيدها، بالتالي لا يمكن اعتبارها نظريات علمية، النظريّة الماركسيّة في تفسير التاريخ، و نظريّة التحليل النفسي لفرويد. فهذه النظريات ليست بعلمية حسب كارل بوبر، لأننا لا يمكن تفنيدها، أو بتعبير آخر، لا يمكن أن نتحقق من خطئها..
موقف ألبرت إينشتاين: معيار علمية النظريات العلمية هو التماسك المنطقي
يتأسس موقف ألبرت آينشتاين على نقد معياري القابلية للتجريب والقابلية للتكذيب. فهذين المعيارين لا يستطيعان استيعاب كل النظريات العلمية، ولا يمكن استخدامهما إلا بخصوص النظريات التي تفسر الوقائع المادية، والتي يمكن اخضاعها للملاحظة والتجربة. إضافة إلى ذلك، فمع مطلع القرن العشرين تغير مفهوم وتصور العلم للواقع، وذلك مع ظهور ظواهر ميكروفيزيائية كالإلكترونات والبروتونات، وظواهر ماكروفيزيائية، فأصبح يُنظر إلى الواقع باعتباره واقعا رياضيا وليس محسوسا، معقولا وليس ماديا، مبنيا ومبرهنا عليه وليس واقعا معطى ومسلما به. ليصبح الواقع صورة للنظرية وليس العكس.
لذلك يؤكد بعض العلماء والإبستمولوجيون الذين من بينهم ألبرت أينشتاين أن علمية وصلاحية وصدق النظريات العلمية، ليس قابليتها للتحقق منها تجريبيا أو قابليتها للتفنيد، وإنما تماسكها الداخلي، أي أن تكون عناصرها مشتقة من بعضها البعض عن طريق الاستنباط العقلي.
خلاصة تركيبية
يتضح من خلال معالجتنا لإشكال معايير علمية النظريات العلمية، أن معايير علمية النظريات العلمية متعددة ومختلفة، فمنها معيار التحقق التجريبي، والذي يؤكد أنصاره، أن النظرية لا يمكن أن تكون علمية إلا إذا كانت تقبل أن نتحقق منها تجريبيا، ومنها معيار القابلية للتكذيب،والذي يؤكد أنصاره أن النظرية لا يمكن أن تكون علمية إلا إذا كانت تقبل أن نكذبها، ومنها أيضامعيار التماسك المنطقي، والذي يؤكد أنصاره أن معيار علمية النظريات ليس هو قابليتها للتحقق التجريبي ولا هو معيار القابلية للتكذيب، وإنما هو تماسكها المنطقي بين المبادئ التي انطلقت منها، وبين النتائج التي استنبطت منها. ومرد هذا الاختلاف هو الاختلاف حول طبيعة الوقائع المدروسة، والاختلاف الحاصل في الرؤى. وبالتالي، فهذا الاختلاف ليس عيبا، ولا تنقيصا في قيمة المعرفة العلمية، بل هو إغناء للساحة العلمية، وتأكيد على أن العلم يبقى نسبيا من جهة أولى، وأنه دائم التقدم والتطور عبر تصحيح أخطائه من جهة ثانية.
تحميل درس معايير علمية النظريات العلمية PDF