مسألة الاختلاف بين التنازع والتسامح د زهير الخويلدي

زهير الخويلدي أستاذ مبرز وكاتب فلسفي وباحث أكاديمي – تونس

” لا مجال للحديث عن شيء من الأشياء إلا بفتح العين على الاختلاف والفرق وعلى العرض والأثر”[1]
 توجد العديد من الشروط والظروف حولت الخلاف إلى مشكل يعيق التواصل ويسبب التوتر بين الذوات والمجموعات ويؤدي إلى العنف المادي والرمزي ويمزق النسيج الاجتماعي ويكرس التشنج والتصادم.
لقد ظهر الاختلاف يوم برز  تفاوت بين أفهام الناس في مداركهم العقلية وتباينت أغراضهم ومقاصدهم ومصالحهم  واضطربت المواقف والمعتقدات بينهم حول رؤية العالم وظهرت النزعة الفردية للإنسان والشعور بذات مستقلة تدفع إلى التميز والتفرد وتحولت الذاكرة الجماعية المثقلة بالجراح والاهانات والميراث المليء بالكراهية والحقد إلى مصدر إزعاج وتوتر يعوق التقدم ويمنح انبثاق الحياة المشتركة.
في هذا السياق حاولت الفلسفة الاهتمام بهذا المشكل البارز على السطح في الفترة المعاصرة وطرحت الإشكالية بطريقة جدية وبذلت مجهودات نقدية من أجل معالجة التداعيات التي أربكت المشهد. فهل تقوم الفلسفة الراهنة على الهوية والتطابق أم على الصيرورة والاختلاف؟ وهل يتشكل الاختلاف بحكم الفوارق الطبيعية والأمزجة أم نتيجة التباين حول العادات والتقاليد الثقافية؟ وهل هو ناتج عن الفصل بين الأجناس العالية (المطابق والآخر) أم عن المغايرة بين الكائنات والكائن؟ ماهو الموقف الإنساني من المختلف؟ هل يحظى بالترحيب والتأييد أم يبقى محل الامتناع والإقصاء؟ هل الاختلاف مصدر تهديد ومخاطرة أم فرصة للإثراء والإضافة؟ وكيف يغير الموقف الفلسفي هذا الرأي؟ ماذا لو كانت الهوية نفسها تتشكل من خلال توليد الفوارق والمغايرة والاختلاف وليس عن طريق التجانس والإجماع والوحدة؟
والى أي مدى يمثل الاختلاف شرا ونقمة يقطع أوصال ذات ويدخلها في دوامة الشك وجحيم الوحدة؟ وبأي معنى يمكن أن يمثل رحمة بين الناس وتجربة تفاعلية مع الأغيار من أجل الاستفادة وتصحيح الأخطاء؟ ماهي الأسباب التي أدت بالناس الى الوثوع في الاختلاف وتحويله الى خلاف وفرقة وتنازع؟ وكيف يمكن تدبير واقع الاختلاف والانتقال من التباين والمغايرة الى التواصل والتعايش؟

الحقل الدلالي للكلمة: 

الاختلاف لغة: هو كل ما لم يتساو ، فقد تخالف واختلف. وبالتالي هو التضاد والتعارض ، وهو عدم المماثلة وضد الاتفاق وضد الاتحاد.  كما أن الاختلاف هو على وزن افتعال وبالتالي هو مصدر اختلف، ولقد جاء اختلف ضد اتفق، ويقال : تخالف القوم واختلفوا ، إذا ذهب كُلّ واحد مِنْهُمْ إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر  .ويقال : تخالف الأمران ، واختلفا إذا لَمْ يتفقا وكل ما لَمْ يتساو : فَقَدْ تخالف واختلف.
– واصطلاحا: هو التباين في الرأي بسبب اختلاف. وكذلك هو وقوع الافتراق بعد حصول الاجتماع.
– الفرق بين الاختلاف والخلاف : أحيانا يستعمل أحدهما مكان الآخر، إلا أن الغالب استخدام الاختلاف فيما كان محمودا ومقبولا، والخلاف في المذموم منه وهو قرين الفرقة والنزاع. 
هكذا يكون الاختلاف هو المغايرة والفرق والتباين والانفصال والانقطاع والخروج والمغادرة والافتراق.
هكذا يكون الاختلاف من حيث الدلالة الفلسفية علاقة مغايرة بين عدد من الأشياء أو المفاهيم أو الأفراد التي توجد بينها تشابهات معينة وبالتالي لا تبرز الاختلافات لاحقا إلا بعد ظهور تشابهات بصورة سابقة.

التاريخ الفلسفي للمفهوم

” ليس ثمة سوى اختلاف في الشكل أو الصورة فحسب غير أن كل شيء يعتمد على هذا الاختلاف”[1]

لقد أدخل أرسطو مفهوم الاختلاف في نظرية التعريف لكي يتمكن من التمييز بين نوع أول عن بقية الأنواع التي تنتمي الى نفس الجنس وأطلق عليه تسمية الفصل النوعي، مثال الإنسان حيوان ناطق. يحمل الاختلاف هنا معنى الخارجية المتبادلة عدديا وكميا ومن حيث الماهية:

” يقال الاختلاف على الموجودات التي هي أخرى في شيء معين ، ليس فقط من حيث العدد ، بل إما من جهة الفكرة وإما من جهة النوع وإما من جهة التناسب”[3] ، فماذا يعني ذلك؟
بعد ذلك يفيد الاختلاف على مستوى داخلي لكل واحد من الكائنات والمواضيع والأشياء التي تكون موضع مساءلة الخاصية التي تحده وتجعل منه واقعة أصلية متميزة عن بقية الوقائع. من هذا المنظور ان التعريف التام يستلهم شجرة بورفيرPorphyre  التي تجعل من الاختلاف الطابع الخاص الذي يسوغ المرور من حد أكثر اتساعا وعمومية الى حد أكثر تحديد وتخصيصا أي من الجنس إلى النوع ، ومن النوع إلى الفرد.
اذا كان التفريق عند هربرت سبنسر هو المرور من المتجانس إلى المختلط بتحويل عناصر متشابهة على عناصر متخالفة وذلك بتقوية الفوارق بين العناصر المعنية، فإن جان ستوارت مل يعتبر الاختلاف المنهج الثاني للاستقراء بقوله: إذا لم توجد في الحالة التي تنتج فيها الظاهرة والحالة التي لا تنتج فيها سوى ظرفية واحدة مختلفة فإن هذه الأخيرة تكون الأثر أو السبب أو جزء لافكاك عنه من سبب الظاهرة”.
 غير أن هيجل في علم المنطق ، نظرية الماهية، القسم الأول، الفصل الثاني، يتناول مفهوم الاختلاف ضمن مسار جدلي يرنو إلى الجمع في وحدة معنوية بين المعنى الأول الخارجي والمعنى الثاني الداخلي.
ان الاختلاف بين واقعتين يندرج داخل كل واحدة منهما من حيث هو هوية سالبة لذاتها ، وبالتالي يكمن ثراء الوحدة في اختلاف الذات بالمقارنة مع الذات. كل وحدة تكون محددة وكل تحديد يتم عبر الاختلاف، وهكذا يؤدي الاختلاف الخارجي إلى التنوع ويؤدي الاختلاف الداخلي إلى التعارض، بينما يشير التناقض في شكله الجدلي والإجرائي الهوية التي تؤلف بين هذه الهوية والاختلاف. بهذا المعنى يصرح هيجل ما يلي:”يترتب عن ذلك ان كل الفرق في تاريخ العالم ينشا من هذا الاختلاف ويعتمد عليه”[4].
 بعد ذلك يأتي الاختلاف في حد ذاته أي الاختلاف من حيث هو اختلاف ، ويكشف هيدجر سنة 1929 عن الاختلاف الأنطولوجي من حيث هو الفكر اللاّمفكر فيه  والقول اللاّمنقال عند التراث الميتافيزيقي برمته.
” بالنظر إلى أن الميتافيزيقا تفكر في الموجود في مجموعه ، فإنها تمثل الموجود في منظور ما يكون اختلافا في الاختلاف، دون أن تأخذ بعين الاعتبار الاختلاف في حد ذاته”[5]لكن كيف تشكل فكر الفرق؟

ميلاد فلسفة الإختلاف:

” يبدو أن القعر يصعد الى السطح من غير التوقف عن أن يكون قعرا”[1]

ينقسم اللفظ الاغريقي عن الاختلاف diaphoraالى جزئين  dia يدل على التمايز من خلال الفجوة والمسافة والهوة التي تفصل بين الكائن والكائنات وphora تشير الى النقل والحمل والانزياح والتدلال.

إذا كان الاختلاف على الصعيد الأنطي هو تمييز بين الموجودات والكائنات فإنه على الصعيد الأنطولوجي تمييز بين الموجودات من جهة والوجود من جهة أخرى بحيث يتمتع هذا الأخير بالتقدم والأولوية.
إذا الاختلاف الأنطولوجي يغطي مجموع الميتافيزيقا الغربية ويمثل ماهيتها من حيث هي مرور ماوراء الموجود نحو الوجود فإنه يحمل إذن هذا الاختلاف إلى التمييز بين الماهية والوجود الذي يقطع التمييز بين الحقيقة والمظهر. يصبح هذا الاختلاف بالنسبة إلى الميتافيزيقا الغربية المرور من الموجود الحاضر إلى حضوره المستقر في موجوديته ويساهم في إظهار البنية الزمانية للمفاهيم التقليدية للأنطولوجيا. وبالتالي يعكس هذا الاختلاف الأنطولوجي الاختلاف بين الموجود في موجوديته والوجود من حيث هو كذلك.
هذا الفرق بين الوجود والموجود هو المشرع الذي يشكل الوسط الذي يحدث فيه العالم والأشياء ويسمح للغلة بالقدوم ويتيح إمكانية النطق ويدفع الألسن إلى التعبير والبشر الفانين إلى الإصغاء إلى صوت الآلهة.
ان الاختلاف في حد ذاته يسمح بالتفكير بواسطة الاختلاف مع من دأب على وضع مقولة الاختلاف بجانب مقولة الهوية ( تحت شكل السلبية). تبعا لذل يستحيل تمثيل الاختلاف دون جعله شغل الفكر الحائر حول حدها الخاص ويحتاج قيام فكر الاختلاف في تعقيده الضروري إلى نوعية كتابة غير ميتافيزيقية.
لقد تحول الاختلاف عند دولوز وبلانشو وهيدجر وليفيناس الى الرهان الأقصى للفكر وليس مجرد مبحث أو سؤال بين أسئلة أخرى تهتم بها الفلسفة وتم رصده من حيث باعث فارقي لجماعة تشعبت بها الطرق.
لقد ترتب عن ذلك تغيير جاك دريدا في كتابه هوامش الفلسفة لفظ الاختلاف من Différence الى لفظ جديد هو Differance ويعني به إعادة الوضع في فترة لاحقة أي التأجيل بعد التخلف عن الركب ضمن مدلول متردد بين الفعل والانفعال. هكذا يأخذ الاختلاف عند دريدا بعين الاعتبار حركة إنتاج نسق من الفوارق بطريقة منتظمة وذلك بتفضية الاختلافات ضمن حركة اقتصادية تتمثل في الإرجاء والتأخير وتزين الحاضر بصفة عامة وذلك بإبقائه معروضا ضمن إمكانية الفقدان دون تحفظ. بهذا المعنى يقوم الاختلاف عند دريدا بالتفضية المكانية والتأخير الزماني بصورة أصلية قصد القيام بتفكيك كل أصل[7].
يقوم دريدا بتجذير مفهوم الاختلاف خارج التربة الميتافيزيقا التي ترعرع فيها وبعد تفكيكه لتمركز الذات الغربية على ذاتها ضمن تمركز مضاعف للعقل  وللخطاب واستبداله بالاختلاف[8]مانحا إياها طاقة الفعل والحركة وللدلالة على المغايرة والإرجاء والتأجيل والإحالة إلى غيره دائما وتوظيفها في معان متعددة.

المقصد الإتيقي من المعنى

” مطلق القول فان تكثر الذوات ليس تكثرا عدديا فكل أنا-ذات يرعى حدا من اللاتمييز الروحي بجعل التواصل ممكنا ويجعل الآخر شبيها لي”[1]

يبدو أن الاختلاف بين الناس أمر طبيعي وسنة من سنن الحياة تقف وراءها عدة أسباب وتساهم في ظهوره بقوة عدة عوامل ولا يمكن تبرير غيابه عن الوجود البشري الا بتكريس الجمود والتخلف والانتظار والتماثل والسكون والتشابه والتكرار الممل. على هذا النحو يرتقي الاختلاف من المفهوم المجرد الى معنى الوجود وقيمة الحياة، إذ في البدء يكون الاختلاف، لكن يجب أن يحسن الجميع تدبيره بشكل إيجابي ليحققوا التفاهم والتعاون. في نهاية المطاف كيف يمكن تدبير الاختلاف بصورة إيتيقية ملموسة؟

غاية المراد بالنسبة للفكر الفلسفي التواصلي يمكن توظيف ملكة النقد وفضاء التفاهم العمومي من أجل الخروج بالاختلاف من دائرة التنازع إلى فضاء العيش السوي وتنشيط إرادة الحياة المشتركة  وذلك بتحقيق الاعتراف بحق الآخر في الاختلاف وفتح باب الحوار معه ومجادلته ودعوته بالحسنى والاعتماد على الوسائل السلمية في التواصل معهم ونبذ كل أشكال العنف والتعنيف وإظهار التسامح مع المخالفين والاستعداد لتحمل آرائهم وإعطائهم فرصة التعبير عنها. كما يجدر امتلاك جملة من الآداب التعامل مع المختلفين وتتمثل في الاحتكام إلى مرجعية علمية موحدة ونظام منطقي في الخطاب وإخلاص النية والتجرد من الهوى والتعصب وأن يكون الهدف هو الوصول إلى الحق والتحلي بالتواضع والاستعداد لقبول الحق متى جلي وظهر دون أي تعال أو تردد وحسن الظن بالآخرين دائما والتماس الأعذار لهم والبعد عن تزكية النفس والابتعاد عن الشتم والتجريح والتوقف عن الطعن في المخالف والتعاون في المتفق عليه والبعد عن التركيز على القضايا الخلافية فقط. لكن كيف يتم استثمار الاختلاف في تحريك آلة الإنتاج الفكري ومصنع التقدم التاريخي وجعله الوقود الحيوي من أجل التنافس على الإبداع والتطوير؟

الإحالات والهوامش:

[1]  حرب (علي)، العين والغير ، مقال من مجلة العرب والفكر العالمي،  العددان السابع عشر والثامن عشر، ربيع 1992،ص214
[2]  هيجل ، تاريخ الفلسفة ، المجلد الثالث، ترجمة امام عبد الفتاح امام، مكتبة مدبولي، القاهرة ، طبعة 1997، ص200.
[3]  أرسطو، كتاب الميتافيزيقا ، Δ ، 9، 1018أ.
[4]  هيجل ، تاريخ الفلسفة ، مصدر مذكور، ص203.
[5] Heidegger )Martin(, identité et différence, in questions, I et II, edition Gallimard, coll tel, Paris,1968 ,  p285.
[6]  دولوز (جيل)، الفرق والمعاودة ، ترجمة د عبد العزيز العيادي، طوى للنشر والإعلام، لندن،  طبعة أولى ،2015 .
[7] Derrida (Jacques), la différance, in Marges de la philosophie, édition de minuit, Paris, 1972.
[8]  دريدا (جاك)، الكتابة والاختلاف، نهاية الكتاب وبداية الكتابة ، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، طبعة الأولى ، 1988.ص126.
[9]  ريكور( بول)، فلسفة الإرادة، الإنسان الخطاء، ترجمة عدنان نجيب الدين، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، طبعة2003. ص174
المصادر والمراجع:
Heidegger )Martin(, identité et différence, in questions, I et II, edition Gallimard, coll tel, Paris,1968 , p285.
Derrida (Jacques), la différance, in Marges de la philosophie, édition de minuit, Paris, 1972.
هيجل ، تاريخ الفلسفة ، المجلد الثالث، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة ، طبعة 1997،
دريدا (جاك)، الكتابة والاختلاف، نهاية الكتاب وبداية الكتابة ، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، طبعة الأولى ، 1988.
دولوز (جيل)، الفرق والمعاودة ، ترجمة د عبد العزيز العيادي، طوى للنشر والإعلام، لندن،  طبعة أولى ،2015 .
ريكور( بول)، فلسفة الإرادة، الإنسان الخطاء، ترجمة عدنان نجيب الدين، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، طبعة2003.
مجلة العرب والفكر العالمي،  العددان السابع عشر والثامن عشر، ربيع 1992،

إغلاق