متعة اكتشاف حقائق الأشياء د زهير الخويلدي
” إذا كان العلم في جوهره انجاز غير شخصي فإن انجاز العلم في حد ذاته هو نشاط شخصي“
د. زهير الخويلدي / كاتب فلسفي
أثناء تصفحي لكتاب عالم المعرفة حول تاريخ العلم 1543-2001 الجزء الثاني لجون غريبين عدد 390 يوليو 2012 وجدت عرضا باهتا للثورة الداروينية وعالم الذرات والضوء والفضاء الداخلي وعالم الحياة والفضاء الخارجي، خصوصا وأن الفصول مبوبة دون أي جهد إشكالي وتنظيري وخالية من أي تحليل ابستيمولوجي للنظريات ونحت للمفاهيم، ولكن ما أثار انتباهي وحرك فضولي هو أهمية الخاتمة وما تضمنته من محاولة فكرية تأصيلية للعلاقة بين العقل العلمي وحقيقة الأشياء والتساؤل عن جدوى البحث وخاصة قوله بأن مفتاحي التقدم العلمي هما البراعة الشخصية في الأداء والبناء المتدرج على ما سبق.
لعل الأمر لا يتعلق بالشعور بالنشوة نتيجة انتصار العلم في مقابل تراجع الجهل وإنما ربط رسالة العلم بالنشاط الشخصي وبالرغبة في إشباع الفضول أثناء اكتشاف العالم والشعور بالسعادة أثناء حل بعض ألغاز الطبيعة دون البحث عن المال أو الشهرة والزهو بالإنتاج ودون حتى اكتشاف النفس وحفظ كيانها. ان تاريخ العلوم ينمو ويتراكم بواسطة المساهمات الحرة والشخصية للأفراد الذين يبحثون فقط عن متعة اكتشاف حقائق الأشياء ويستكملون مجهودات الأجداد في ذلك المقصد النبيل. إن تاريخ العلم يكتبه الأموات وليس الأحياء وذلك يعني أن معظم المخترعين لم يسعوا إلى نشر أعمالهم ولم يطلبوا الشهرة وإنما اكتفوا فقط بإرضاء رغبتهم الطبيعية في المعرفة وتلبية حاجتهم الفطرية إلى الاكتشاف بينما ما اصطلح على تسميتهم العلماء العظام هم من نسب لنفسه مجهودات غيره أو على الأقل من استفاد من أعمال وكشوفات غيره وكانت له الرغبة في إحراز المال والفوز بالشهرة ولذلك نشروا أعمالهم وأعلنوا على الملأ اختراعاتهم وأحرزوا بذلك الانتشار وانتفعت منهم الإنسانية دون وعي منهم.
إن الفكرة الأساسية التي يدافع عنها المؤرخ تتمثل في أن العلم لم يعد البحث عن الحقيقة الموضوعية بل مجرد سيرة ذاتية عن عقل حائر يتفكر في ظواهر الكون ويحاول أن يعبر عن تلك الحيرة و”أن ما يحفز العلماء العظام ليس ظمأهم إلى الشهرة أو الثروة، ولكن ما سماه ريتشارد فينمان “متعة اكتشاف حقائق الأشياء”. وإنها لمتعة مشبعة للغاية… ولكنها متعة صعبة المنال إذا انتفت الحقائق التي علينا أن نكتشفها.”
من جهة ثانية إن التمييز بين انجاز العلم وتاريخ العلم هو على غاية من الأهمية حتى يهتدي الناقد الى الفرق بين الذاتي والموضوعي وبين النسبي والمطلق ويتسنى له الفصل بين الأحكام الايديولوجية والمبادئ المعرفية وبالتالى القول بأن القسم العظم من انجاز العلم يتم بطريقة شخصية وأن الدوافع الذاتية التي أدت إلى تشكل آلة العلم تنفي عنها الحياد وبرودة الدم المنطقية والطابع التجريدي الصوري الذي يتميز العلوم الصحيحة. إذا تم استبعاد فرضية القطيعة ومبدأ التواصل في تفسير تشكل منطق البحث العلمي فإن الفكرة الثورية التي تحل محلهما معا هي نظرة توماس كون إلى تطور العلم على أنه مسار تراكمي في جوهر يتم عن طريق خطوة تتلوه أخرى ويستبدل أثناءها باراديغم قديم بباراديغم جديد بعد معايشة أزمة وتشوه في النظرية وحدوث ثورة علمية تصيب بنية العقل العلمي ذاته وتحدث طفرة.
من المرجح أن تاريخ العلوم وصلاحية النظريات لا تتأثر بالتحولات الاجتماعية العنيفة والاضطرابات على الرغم من أن الحروب والاكتشافات تؤدي الى تطوير العلم وتفتح على مجالات جديدة ، فتاريخ العلم يتميز نسبيا عن تاريخ السياسة والمجتمع بالرغم من أن نظرة الناس إلى الكون تتغير بنشأة اختراعات جديدة وبتبدل المعالم التفسيرية للطبيعة والانتقال من الإحيائية إلى الآلية ثم الطاقوية وبعد ذلك الرقمية.
بيد أن القول بأن العلم جهد البشر ونفي أن يكون البشر أنفسهم ثمرة العلوم التي ينتجونها يفضي لا محالة إلى الإقرار بأن البراعة الشخصية والبناء المتدرج على المجهودات السابقة هما مفتاحي التقدم العلمي. وأن الحقيقة العلمية هي وجهة نظر يقدمها الباحث حول الظاهرة المدروسة وهي لا تزيد في دقتها عن الحقيقة الفنية التي يضعها المبدع في أثره الفني بعد نظرته الانطباعية للطبيعة أو تأمله الانعكاسي في فكرة معينة ، بالرغم من كونها تدعي الواقعية والموضوعية والعقلانية. لكن المثير للدهشة فعليا هو أن تكون الحقيقة العلمية الرواية التاريخية عن كيفية اكتشاف القانون العلمي وأن تغدو نظرية آينشتاين نظرية قديمة. هكذا تكون التجربة التفسيرية العلمية مجرد رواية ذاتية دالة على كيفية اكتشاف الاستعمال الفردي للعقل العلمي ماهيات الأشياء وحقائق الموجودات والعلاقات التي تربط بينها، وهكذا تكون القوانين العلمية هي سعي العقل الى التكيف مع الكون وتنظيم التوازي بين الأفكار والكلمات والأشياء في صيغة نظريات مكتوبة في شكل رموز وعلامات ومعادلات رياضية. لكن بعض الملاحظات حول بعض المسلمات التي فقدت بريقها في زمن مابعد صناعي تجعل من هذا العمل التأريخي مجهودا فاقدا لتوازنه المنهجي والابستيمولوجي وبعيدا عن روح الحداثة والمعاصرة التي يرنو إلى التعبير عنها :
الملاحظة الأولى هي أن الباحث العلمي لما يتوصل إلى جملة من الاستنتاجات ويطلع على أسرار كونية فهو أحيانا يصاب بالدوار وتنتابه الدهشة والانزعاج لهول ما يشاهد خاصة اذا تعلق الأمر بحقائق معارضة للمألوف والعادات وقد تجلب إليه اكتشافاته الاستبعاد والرفض والعقاب من قبل المجتمع والسلطة، أضف الى ذلك أن البحث العلمي لم يعد يتبنى استراتيجية الاكتشاف والكشف وإماطة اللثام على ماهو موجود منذ الأزل بل صار أميل إلى التصور والافتراض والتخيل والإنشاء والصنع والابتكار من لاشيء، وقد أدى هذا في مستوى ثالث إلى فقدان الأشياء شيئيتها وتحول الباحث العلمي الى مصمم وصانع وفي النهاية الى تاجر يسوق جملة من البضائع. في الأخير تحطمت الحقيقة وتجزأت وولد المعنى والأسلوب والسيناريو والقصة والرحلة والدروب. فماذا يمكن أن يفعل رجل العلم حتى لا تتلوث الحقيقة العلمية بما يريد أن يضعه في العالم من تأويلات؟ وهل هناك حقائق علمية نهائية وبنية متماسكة للكون؟
المرجع:
جون غريبين، تاريخ العلم ، 1543-2001، ترجمة شوقي جلال، ،سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد390 يوليو 2012.