في رحاب بعيدا من الضوضاء، قريبا من السكات – محمد الورداشي

محمد الورداشي كاتب وباحث مغربي له مجموعتان قصصيتان: “حينما يتنكر الوطن لبنيه” (المغرب)، “القرية المهجورة ” (مصر). ومجموعة من المقالات نشرت في جرائد ورقية وإلكترونية داخل المغرب وخارجه.
في هذا المساء الهادئ الساكن، أحسني مثقلا بأوجاع وطأتها شديدة على جسدي العليل، لأيا أخطو نحو المطبخ لأسكب كأس ماء ساخن، أخفف رعشتي وأدفع عني الحمى التي أوشكت على تكبيل حركاتي. أجهد النفس في قراءة شيء ما لعله يذهب عني السقم، ويهدئ من ضجيج رأسي الساخنة، فوقع اختياري على “بعيدا من الضوضاء، قريبا من السكات، للروائي المغربي محمد برادة، حملتُ الكتاب وشرعتُ في توريقه بتريث، وانطلقت أقرأ وأتوقف، بين الفينة والأخرى، عند الكلمات الموظفة في السرد، وأنغرسُ بين مَسامِّ السطور وما تضمره من دلالات. فوجدتني مُعيدا نسجَ العلاقةِ نفسها التي جمعتني ب”لعبة النسيان” و”امرأة النسيان” منذ ثلاث سنوات خلت: شغفٌ وتعطشٌ شديدانِ لقراءة هذا الروائي الفذ ذي الأسلوب السلس، والنفس الروائي الطويل الذي يقدم لك تاريخا في قالب روائي. إنه التاريخ من وجهة نظر الملاحظ والمحلل لما يجري في الساحة السياسية والاجتماعية المغربية، المشغول بهموم طبقة اجتماعية ذات فئات مجتمعية وشرائح متباينة، يَنسج محكياتها بلغة فنية جريئة، ويستغور نفوسها من خلال ملفوظاتها، هذه الملفوظات التي تجمع بين العربية الفصيحة والدارجة المغربية واللغة الفرنسية، كل هذا التداخل اللغوي والتلفظي أعطى للرواية تعددا أصواتيا ترتب عنه تعدد دلالي، وتنوع في المستويات السردية التي تُشكل بناءَ الروايةِ السرديَّ.
وكلما تقدمتُ في القراءة، وتوقفتُ مطولا عند الشخصيات الرئيسة( توفيق الصادقي، فالح الحمزاوي، نبيهة سمعان) وجدتني أمام مسارات سردية تصبُّ كلُّها في مجرى محكي يتضافر ويتعاضد ليُنتجَ سرديةً تخييليةً تاريخيةً، سردية يقول فيها المهمشون والمثقفون ذوو الميول والمصالح المختلفة كلمتهم، ويعبرون عن المكنونات المظلمة في أنفسهم.. إنه خطاب سردي يتلاقح فيه السياسي والجنسي والديني، ويفكك هذا الثلاثي الذي عُدَّ طابوها محرما اقتحامُه، بيد أن الرواية حاولت تفكيكه من خلال البحث عن إسهامات التاريخي والسياسي في تشكيل الذوات والعلاقات الاجتماعية، وفي بناء نفسية الفرد المغربي التي تترنح بين تقاليدَ وأعرافٍ تلقي بظلالها على الذات، وحياة حديثة مشجعة للحرية في السياسة والجنس والدين، أي أن في الرواية صراعا بين التقليد والتجديد، بين التمسك بالتقاليد والأعراف والانفتاح على الحداثة والتطور في مختلف تجلياته. 
لعل قراءةً متفحصةً للرواية، تجعلني أقارن بين مجتمع الخمسين سنة قبل وبعد الاستقلال، ومجتمع القرن الواحد والعشرين، بين الطبيعة السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع المغربي أثناء الحماية وبعد الاستقلال، وبين تجليات هذه الطبيعة، في عصرنا الحالي، من خلال رصد سلوكات الأفراد في اليومي، في التعبير عن مكنوناتهم النفسية في طابعها الجنسي، في علائق الذوات الاجتماعية من زواج وصداقة..إلخ، في مجال السياسة والاقتصاد، في مجال الدين والتدين. ومن ثم، يأتي سؤالان:
ما وضعية الحرية والديمقراطية والعدالة في عهدنا الحالي؟ وهل ثمة اختلاف بين الفترة الزمانية التي حاولت الروايةُ التعبير عنها في تخييل تاريخي تحليلي تفكيكي، وبين الفترة الراهنة التي خبا فيها وميضُ الأقلام، وطلق المثقفون الكلام طلاقا ثلاثا، وأعرض السياسيون عن هموم الإنسان المغربي الفقير؟
إن الرواية حاولت ترجمة الصراع السياسي والاجتماعي والثقافي الذي اعتمل في بنية المجتمع المغربي قبل وبعد الاستقلال، وما ارتبط بهذا الصراع من قمع للحريات، وكبت للنزوات والميول الجنسية، واعتقال السياسيين المعارضين، وسجن الطلبة الثوريين، وما استجد في العلاقات الروحية الدينية.. ودور هذه العوامل والتغيرات في بناء نفسية الفرد المغربي وعلائقه الاجتماعية والروحية، فضلا عن تحديد المصائر والأهداف، ونوع النظرة التي توليها المؤسسات للبيدونيين.
كما أن ثمة جانبا مهما في بناء الرواية، وهو تقنية الساردين المتعددين المتناوبين على فعل السرد؛ ذلك أن تعدد المحكيات والمرويات، وتعدد المتلفظين بها واختلاف لغاتهم ولهجاتهم، أتاح للمؤلف مساحةً كبيرةً في التعبير عن آرائه السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية، وعن قراءاته للمشهد السياسي والاجتماعي والثقافي في فترة الحماية وما بعد الاستقلال، وما ارتبط بهما من نضال واضطرابات سياسية بين السلطة الحاكمة والمعارضين. ومن ثم، فإن المؤلف اختار الابتعاد عن الضجيج والضوضاء، حتى يمعن في تفكيك الخطابات البلاغية التي تهادن وتهدهد النفوس الحسّاسة الثائرة التواقة إلى التغيير، ومن ثم تغدو الرواية عملا أدبيا يحاول إماطة اللثام عن المسكوت عنه، وتحليل وتفكيك السرديات الصغرى للفئات المتصارعة بغية كتابة سردية تخييلية تاريخية تنأى بنفسها عن الضجيج الذي يشوش على العقل، ولا يترك له مساحة كافية ليحلل الأفعال والسلوكيات والخطابات، وترتمي في أحضان السكات الذي يعد حالا وجودية يتعانق فيها الواقع بالحلم، والكائن بالممكن، والنسبي بالمطلق، والمرغوب عنه بالمرغوب فيه. وتدفع قارئها إلى قياس الأمور بعضها ببعض واستخراج الفائدة من خلال التصنُّت لحركة التاريخ ورصد مجرياتها؛ لأن التاريخ يشغل دورا كبيرا في تشكيل الذوات والعلاقات والطموحات، ويحدد شروط إمكان الحرية والديمقراطية والحياة السعيدة.. وما أبعد السعادة عن الإنسان في العالم العربي!

إغلاق