في الجسد – أسامة الدرقاوي

لا نعرف ما يستطيعه جسم ما

سبينوزا ~ الايتيقا 

إستهلال

( أعيش بجسدي، لا أعيش في جسدي) 

إن الإيمان العميق  بسردية الجسد كفضاء ( space ) لا كأنطولوجيا ( anthology ) يقتضي لزاما الإيمان بمسلمة أساسية ترى على أن الجسد جهاز أساسي في السعي نحو الحياة ، غير أنه سعي يتأسس على العيش بالجسد وليس على العيش في الجسد بحيث مع هذه الأخيرة  نظل حبيسي نزعة إرتكاسية تعود القهقرى الى أزمنة ماضوية كانت تحتقر الجسد وتكبله بقيود ثيولوجية تارة وتارة أخرى ثقافية .

ينبري الجسد وفق نزعة العيش في الجسد ، كأفق مغلق ومحدود حيث تنتفي قيمته ، ويبرز فقط الجسم ، وعليه فإن الذات التي تُجَسّمُ نفسها تصير في الزمكان ( كتلة ) عوض الذات التي  تُجَسْدِنُ نفسها وتصير في الزمكان ( فضاء )

إن الذات حينما تعلي من إوالية الجسم في مقابل تهميش إوالية الجسد فإنها لا تحيد على أن تكون موضوعا كباقي الموضوعات التي تقبل التجسيم  كالصخرة أو بناء أو شكل هندسي معين وعليه يبرز الانغلاق التي تعاني منه الذات حينما تعيش وفق نزعة ارتكاسية حيث يتعطل أفق التعبير والخلق والابداع

وكما قلنا آنفا العيش في الجسد  يقابله التقوقع في الجسم ولطالما كان هناك احتقار للجسد كان هناك إعلاء من سلطة الرأس ( العقل ) وجعله الصورة المثلى للكائن في الوجود غير أن هذا المقتضى وجد نقدا لاذعا في أفق التفكير الحداثي حيث أضحى الرأس ( العقل ) لا يجلس في برج عاجي وألحق بباقي أعضاء الجسد ، ويبرز هذا المقتضى مع النقد النيتشوي للحداثة إذ القى نيتشه سهام نقده لحضارة  في نظره  أنها أعلت من سلطة العقل في مقابل تهميش لسائر الأعضاء وتبعه في ذلك سائر مفكري الاختلاف كميشال فوكو الذي تطرق لموضوع الجسد وعلاقته بالسلطة ، ودولوز التي تحدث عن الجسد وفق إيثيقا المحايثة.

إنه ومن خلال عرضنا المقتضب للفرق الجلي بين العيش في الجسد باعتباره انطولوجيا تسبح في الماهية وتبرز كأفق مغلق وبين العيش بالجسد باعتباره فضاء ينبثق منه الخلق والابداع والابتكار والحرية فاننا هنا نكون نتمم دعاوي النقد الحداثي ولكن في أرضية لنقل على أنها مابعد حديثة إن صحت العبارة حيث لزاما على الجسد أن يساير واقعه والمتغيرات التي تطرأ حوله  وعلى سبيل الذكر نذكر بروز دعاوي الحركات الأدائية performing ،الجندر gender ، حقوق الانسان في الألفية الثالثة Human rights in the third millennium .

أسامة الدرقاوي –  أستاذ باحث 

إغلاق