أ. د. علي اسعد وطفة، أستاذ علم الاجتماع التربوي بجامعة دمشق، أستاذ بجامعة الكويت – كلية التربية – منذ عام 1997حتى الآن. حاصل على دكتوراه في علم الاجتماع التربوي من جامعة كان Caen (فرنسا) 1988
مقدمة
أودع الله الإنسان عقلا نابضا بحب المعرفة نزاعا إلى اكتشاف الحقيقية؛ فمنذ اللحظة الأولى التي ينطق فيها الطفل يبدأ عباراته الأولى بأبجديات التساؤل عن خلق الكون ومعنى الوجود. فالتساؤل خاصة صميمية في عقل الإنسان، وحب المعرفة غرز وجودي في تكوينه. فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان على صورته معلما آدم الأسماء، مودعا فيه العقل تكريما له عن سائر الخلق، وهو العقل الذي مكّنه من إعادة بناء العالم على صورته العقلية. والفلسفة تجسّد قدرة الإنسان على فهم العالم وإدراكه بمقتضى العقل والتأمل العقلي، والعقل يتماهى بالتساؤل ويستلهمه لينطلق منه في عملية تشكيل المعرفة وبنائها، وهو انطلاقا من خاصة التساؤل النقدي المفتوح يبني ممالك المعرفة ويرفع حصونها استكشافا للعالم وخوضا مستنيرا في متاهاته الغامضة.
ففي ثنائية الإنسان والعالم، ثنائية الذات، والموضوع يحيط العالم بالإنسان على ويحتضنه على نحو شمولي، وفي دائرة هذه العلاقة، يعمل الإنسان المفكر على اكتناه الكون وتمثله عقليا. فمنذ بدء التكوين والإنسان يحاول أن يفهم العالم ويدرك غاياته، فأبدع الأساطير، بداية، في محاولة منه للكشف عن خفايا الكون وعطاياه وفق مقولات وصيغ خيالية تعتمد ملكة الخيال. فالمعرفة الأسطورية كانت أقدم أشكال معرفة الإنسان للعالم. لقد شُغل الإنسان الأول بقضايا الوجود التي أثارها الكون في عقله فتفجر عقله تساؤلا عن طبيعة الحياة والوجود والعدم والغايات والبدايات، ولما كانت أدواته العقلية في طور النشوء والتكوين أبدع إجابات أسطورية عن جملة التساؤلات التي كان يطرحها عبر التاريخ، وقد أخذت هذه الإجابات طابعا أسطوريا، حيث نسج من وحي الخيال المتمرد صورا كونية للوجود والعالم والغايات والبدايات تجلت في أساطير الخلق والتكوين، كما في الأساطير البابلية والفرعونية والهندية والإغريقية، حيث تتجلى محاولة العقل الابتدائي في تقديم إجابات عن ملاحم الخلق والمصير. ومع أن هذه المعرفة كانت حصادا فذا لخيال إنساني جامح فإنها شكلت مخاض ولادة للتفكير العقلاني الفلسفي في مراحله اللاحقة.
تضمنت المعرفة الأسطورية للعالم بذور التفكير الفلسفي واشتملت على مقدماته الأولى. وقد شكلت التصورات الأسطورية للعالم الينابيع الأولى للتفكير الفلسفي، ومن ثم، ومع تقدم معطيات المعرفية، حاول الإنسان أن يكتشف العالم عقليا على نحو فلسفي، فبدأ بصوغ المفاهيم والتصورات التي تحاول أن تنظم العالم في منظومات فكرية تتساوق فيها البدايات والغايات على نحو منطقي. وفي هذا التساوق بدأت مساحة التفكير الأسطوري تتلاشى، وبدأت مقدمات الوعي القديم تتبدد مع تقدم العقل ومع تطور المفاهيم والمقولات المنطقية، وعلى هذه الصورة بدأت أدوات الإنسان في البحث والتقصي تنهض وتنتظم، فامتلك الإنسان إمكانيات الاستجواب المنظم لقضايا الكون والحياة فأبدع في بناء وعيه الفلسفي المنظم الذي يتسم بطابع الغائية والكلية والشمول.
لقد ارتسمت الفلسفة في تاريخ الإنسانية بطابع الضرورة الوجودية الملحة لكونها حاجة أصيلة في النفس الإنسانية، فالإنسان يولد متسائلا مندهشا أمام العالم، إذ يتبدى السؤال في نطقه الأول، وهو التفلسف عبر التساؤل أصيل في الطبع الإنساني، ومن يحرم من غريزة التفلسف فإنه يحرم من أجمل عطاء طبيعي أودعه الله في الإنسان. يقول ديكارت مؤكدا على ضرورة التفلسف وفطرته: “لأن يحيى المرء بدون تفلسف هو حقا كمن يظل مغمضا عينيه لا يحاول أن يفتحهما، والتلذذ برؤية كل ما سيكشفه البصر لا يمكن أن يقارن بالرضا الذي ينال من معرفة الأشياء التي تنكشف لنا بالفلسفة”.
فالفلسفة ليست ترفا فكريا وإنما هي ضرورة وجودية تتجلى في الكشف عن إبداعات الكون بما ينطوي عليه من سحر وجمال وإبداع.
أولا – تعريف الفلسفة:
يروى أن الفيلسوف اليوناني فيثاغورث 500-582) Pythagoras ق.م) أول من استخدم كلمة الفلسفة Philosophie فوصف نفسه بالفيلسوف، وذلك اعتراضا منه على الحكماء السبعة وعلى رأسهم طاليس الذين كانوا يعرفّون أنفسهم بالحكماء، فأورد أن الحكمة لله، وأن الله هو الحكيم الوحيد في الكون، أما الفلاسفة فهم محبو الحكمة وليسوا حكماء بذاتهم، لأنهم بادعائهم الحكمة ينازعون الله تعالى صفة من صفاته وخاصة من خواصه ([1]). وعلى هذا الأساس نشأ اصطلاح حب الحكمة أو الفلسفة.
إن أول صياغة دقيقة لمفهوم الفلسفة تعود إلى الفيلسوف اليوناني أرسطوطاليس Aristote الذي عرف الفلسفة بأنها “البحث عن الوجود بما هو موجود” وأنها البحث في العلل الأولى للوجود. فالفلسفة وفقا لهذا التصور تأخذ صورة جهد عقلي يتمحور في البحث عن الحقيقة الخالصة عن جوهر الوجود وعلله وأسبابه.
فالفلسفة أحد أشكال معرفة الإنسان للعالم بمكوناته وأصوله وأسبابه وغاياته. وهي منظومات متكاملة عبر التاريخ من المقولات والتصورات التي تبحث في قضايا الوجود والحياة والموت والعدم. وتستخدم الفلسفة منظومات هائلة من المفاهيم والصيغ المنطقية والأدوات المعرفية والمنهجية في فهم العالم وإعادة تنظيمه بصورة مستمرة. إنها نوع من المغامرة الاستكشافية للوجود، وهي ترفض، في آليات اشتغالها، أن تتحجر في منظومات قدسية تتعالى عن الواقع وتنأى عن مناوشات العقل وتطلعاته. وقد وصفت وعرفت بصيغ أدبية متنوعة تحاول أن تبرز بعض خصائصها الأدبية. فهي كما تور التعاريف الأدبية أم العلوم وفن الفنون، إنها حب الحكمة، بل هي معرفة بالأمور الإلهية والبشرية، إنها فن الفضيلة كما يذهب الرواقيون، وأخيرا هي حب الحكمة الفائقة والبحث عنها. ومن يتبحر اليوم في التعريفات الحديثة سيجد فيضا من التعريفات التي تعبر عن روح العصر وعن التطورات الحادثة في تكوين الفلسفة ذاتها. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى التعريف المعاصر للمفكر الفرنسي جيل دولوز Gilles Deleuze الذي يعرف الفلسفة بأنها: “فن تكوين أو اختراع وإبداع المفاهيم، فإبداع المفاهيم هو موضوع الفلسفة. والفلسفة عند دولوز ليست تأملا أو تفكيرا، فالتأمل والتفكير من مناهجها وأدواتها في بناء المفاهيم وتوليدها. والمفاهيم الفلسفية عنده مستقلة، من حيث مصدر نشأتها وإبداعها، عن العلوم أو الخبرات الاجتماعية، ذلك أنها خلق وإبداع. وهو يشير إلى المفاهيم التي تتشكل منها الفلسفات المختلفة مثل “الهيولا” الأرسطية، و”الكوجيتو الديكارتي، والموناد عند ليبنتز، والديمومة عند برجسون([2]). فالفلسفة في نسق التعريفات المعاصرة ليست كتلة من المعارف، وإنما هي ” نشاط نقدي وتوضيحي يمكن أن يتناول أي موضوع، بما في ذلك موضوع التربية. وقد منح (اوكونور) (O’Connor) هذا التعريف مزيدا من الإبانة وحدد له مضمونه، حين بين أن الفلسفة لم تعد مجموعة من الحقائق من النوع الإيجابي كالتاريخ أو القانون أو الطبيعة، ولكنها أصبحت نشاطا يرمي إلى النقد والتوضيح” ([3]).
ويمكن أن نلاحظ وجود اختلاف وتنوع لا حدود له في تعريف الفلسفة، وهذا الاختلاف لا يحمل في ثناياه دلالة عدمية بل هو حالة من الغنى والأصالة التي تتميز بها الفلسفة كفكر وممارسة وتاريخ وتطور. ومما لا شم فيه أن الاختلاف أصيل في طبيعة التكوين، وأكثر حضورا في ميدان الحياة الإنسانية، وأعظم تكاثفا في مستويات الحياة العقلية عند الإنسان، ولذا فإن هذا الاختلاف يأخذ عظمة تجلياته في دائرة التفكير الفلسفي بوصفها أعظم مدارات العقل تبلورا ونضجا. ولو لم يكن هناك اختلاف في تعريف الفلسفة وتنوع في النظرة إليها لما كانت جديرة بأن تكون فلسفة، إذ هي البوتقة التي تتفجر فيها طاقة العقل وتنطلق مغامراته. فالاختلاف ظاهرة فلسفية بذاتها – أي ظاهرة عقلية- ومن يبحث عن الاتفاق في تعريف الفلسفة أو في ميادينها كمن يدفع العقل إلى مدافن التاريخ وبالفلسفة إلى مقابر العدمية. ومن هنا يجب أن ننظر في اختلافات التعريف وفي تنوعاته ظاهرة إيجابية في المستوى الفلسفي.
فالتنوع و الاختلاف في تعريف الفلسفة يعود إلى جملة من العوامل أهمها:
1- ذاتية التعريف: عندما يعرف الفيلسوف الفلسفة فإنه يعرف فلسفته الخاصة. وهذا ما يجعلنا أمام زخم هائل من التعاريف قد يصل عددها إلى عدد الفلاسفة أنفسهم
2- تعدد مجالات الفلسفة وموضوعاتها: في القديم كان موضوع الفلسفة الرئيسي هو الطبيعيات وأصل الكون، وفي العهد السوفسطائي اتجهت الفلسفة إلى الذات الإنسانية تيمنا بشعار سقراط المعروف ” أيها الإنسان اعرف نفسك”، وفي العصر المسيحي الأول اتجهت إلى اللاهوت، وفي القرن السابع عشر إلى المنهج. فكل موضوع صالح لكي يجلب اهتمامات الفلاسفة مادام يتسم بطابع الإشكالية، وعلى هذا الأساس يقال دائما إن الفلسفة تدرس كل شيء بما في ذلك نفسها.
3- تعدد مناهج التفكير الفلسفي وغياب منهج موحد: حيث يتبنى كل فيلسوف منهجا خاصا في التأمل وفي التفكير؛ وقد تعددت المناهج الفلسفية وتطورت عبر الزمن ويمكن لنا في هذا السياق أن نذكر: المنهج التوليدي عند سقراط، والمنهج الديالكتيكي عند أفلاطون، والمنطق أو الأورغانون عند أرسطو، والمنهج التجريبي عند فرنسيس بيكون، والشك المنهجي عند ديكارت، والديالكتيك عند هيجل.
4- ارتباط الفلسفة بالعصر: إن الفيلسوف مرتبط بقضايا زمانه وعصره، هي التي تملي عليه المواضيع والإشكاليات، وسبل التفكير، وطبيعة المعارف التي سيستخدمها.. ولما كان عصر أفلاطون ليس هو عصر ديكارت، لابد أن نجد اختلافا بين الفيلسوفين سواء في تعريف الفلسفة أو تحديد أهدافها.
5- تعدد المذاهب الفلسفية: هناك أنساق متراكمة من الاتجاهات والنزعات الفلسفية، حيث نجد المثالية، والمادية، والواقعية، والبرغماتية، والوجودية، والنزعة الإنسانية، والوضعية والنزعة الطبيعية، والنزعة التجريبية…الخ. ويضاف إلى ذلك أن لكل فيلسوف قناعاته الفردية تكون مسؤولة عن تميزه وتفرده، واتسام فلسفته بالجدة والأصالة. وهذه جميعها تلعب دورا كبيرا في تنوع تعريف الفلسفة وتعدده.
وعلى الرغم من تنوع في أقطاب تعريف الفلسفة فإن المرء يمكنه أن يجد في تعريفاتها كونا واحدا تتناغم فيه أطرافها. فالجميع أبدا يتفقون على أن الفلسفة Philosophy كلمة إغريقية قديمة تتكون من لفظين: فيلو Philo وتعنى حب، و سوفي Sophy وتعني الحكمة. وبذلك تكون الفلسفة بتضايف الكلمتين وتواصل اللفظين لتصبح حب الحكمة ([4]).
1/1- الفلسفة بين الدين والعلم والأسطورة
توجد وشائج عميقة بين الفلسفة وبين الأشكال المعرفية الأخرى ولاسيما العلم والدين والأسطورة. فالفلسفة هي امتداد عقلي لمبدأ الأسطورة وحركتها، وإذا كانت المعرفة الأسطورية تعتمد ملكة الخيال في تفسير العالم فإن الفلسفة تعتمد مبدأ العقلانية، والعقلانية منظومة من الأدوات المنهجية التي طابع المنطق والمحاججة والمسائلة والبرهان. ولكن الفلسفة لا تنتهي عندما تبدأ المعرفة التجريبية لأن العلم يعتمد التجربة بينما تعتمد الفلسفة البرهان العقلي. وهذا يعني أن الفلسفة تقف عند حدود التجربة وتتجاوزها. “إن موضوعا ما يكف عن الانتماء إلى الفلسفة ويصبح موضوع علم قائم بذاته، بمجرد ما يكون تحقيق معرفة مضبوطة ومحددة عنه أمرا ممكنا ” كما يقول برتراند راسل B.Russel.
أما الأديان، ولاسيما الأديان السماوية، فتعتمد حقيقة إلهية منزلة من السماء على البشر، ولكن الفلسفة بالمقارنة مع الدين تسعى إلى بناء هذه الحقيقية وتشكيلها، فالوحي يهبط على النبي من السماء، والمعرفة المقدسة هنا تصل النبي بوحي من الله عزّ وجل، ولكن الفيلسوف يحلق في سماء الحقيقة ليقطف ثمار المعرفة في عليائها.
ومن أجل التمييز بين هذه التجليات المختلفة للمعرفة الإنسانية يمكن القول بأن الدين يعتمد منهج الوحي، بينما تعتمد الأسطورة منهج الخيال، وفي الوقت الذي يعتمد فيه العلم على التجربة فإن الفلسفة تعتمد على العقل والبرهان. ويقدم لنا فيلسوف الحداثة رينيه ديكارت تشبيها جميلا ومعبرا للفلسفة في القرن السابع عشر يمايز فيه بين أواصر الفلسفة حيث يشبه الفلسفة بشجرة جذعها الفيزياء وجذورها الميتافيزياء، وأغصانها الميكانيك والمنطق والطب والأخلاق([5]).
رؤية عامة مقارنة بين أشكال الوعي الإنساني للعالم
|
|
مصدر المعرفة
|
منهج المعرفة
|
نوع المعرفة
|
صفة العارف
|
مستوى الشمول
|
الدين
|
الله والأنبياء
|
الإيمان والتسليم
|
دينية – روحية
|
مؤمن
|
كونية
|
الأسطورة
|
الأدباء والشعراء
|
الخيال المنظم
|
خيالية – أسطورية
|
مندهش
|
كلية
|
الفلسفة
|
الفيلسوف والحكيم
|
البرهان والمنطق
|
عقلية- نقدية
|
متسائل
|
كلية
|
العلم
|
العالم والباحث
|
الاستقراء والتجربة
|
تجريبية-علمية
|
باحث
|
جزئية
|
تبدأ اللحظة الفلسفية مع انبهار الفيلسوف وتولد مع الدهشة، أي دهشة الفيلسوف أمام إعجاز الكون وعظمته. يقول أرسطو في تأكيد فعل الاندهاش والانبهار، في ولادة التفلسف “إن الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف”([6])، والإنسان هو أكثر الموجودات دهشة واندهاشا، وهو الاندهاش الذي يستنفر العقل وينطلق به إلى مراتب التأمل والتعقل. إلا أن هناك اختلافا بين “الدهشة العلمية” و”الدهشة الفلسفية” كما يرى شوبنهاور Schopenhauer، فدهشة الفيلسوف هي دهشة أمام الأمور الاعتيادية والتي تكتسي حلة البداهة، بل هي دهشة أمام الأشياء ذات الصبغة الأكثر عمومية ؛ أما دهشة العالم، فهي دهشة أمام أمور جزئية نادرة ومنتقاة، إنها سعي لربطها بقضايا معروفة لديه سابقا، أو بتعبير أدق هي إرجاع المجهول إلى المعلوم. فالفلسفة إذن هي فن التساؤل والاندهاش والانبهار العقلي أمام العالم بما ينطوي عليه من سحر وعظمة وجمال وإبداع وقدرة على الإدهاش والإبهار.
وتعرف الفلسفة بمجموعة من السمات والخصائص التي تنفرد فيها عن أشكال وعي الإنسان بالعالم وأهمها:
1- الشمولية: هي معرفة كلية شمولية ينتظم فيها الكون بمختف تجلياته.
2- التجريد: إنها معرفة عقلية تعتمد التفكير العقلي المجرد بالدرجة الأولى، وهي تتجاوز نطاق المعرفة الحسية إلى أعلى مستويات التجرد.
3- المنطقية: إنها معرفة منطقية تحاول أن تحقق الانسجام والتكامل في معطياتها على أساس منطقي.
4 – غائية المعرفة: في الفلسفة تطلب المعرفة لذاتها هدفها طلب العلم لذاته وليس لغاية أخرى.
5- النزعة النقدية: إن الفلسفة فكر نقدي لأنها إعادة نظر متواصلة، خصوصا وأنها لا تؤمن بوجود معارف ثابتة ومطلقة. كما أنها تجاوز للاعتقادات الساذجة والبديهية. لذا تتسم بالشك القبلي في وجود معرفة نهائية. يؤكد إدموند هوسرل E.Husserl أن التفلسف يبدأ بالرجوع إلى الذات قصد تحطيم المعارف المسلم بها والجاهزة، والتي يمكنها أن تكون عائقا إببستيمولوجيا في بلوغ الحقيقة. فعلى الفيلسوف أن ينشئ فلسفة خاصة، قائمة على حدوسه المطلقة، وعلى أسس المحاججة والبرهان.
6- التساؤل والانبهار: إن الفلسفة فكر تساؤلي باعتبارها فكرا إشكاليا نقديا. فالتفكير الفلسفي يجعل من كل شيء موضوع تساؤل ومناقشة وسجال. لذا قال كارل ياسبرس Jaspers: “الأسئلة في الفلسفة أهم من الإجابات عليه”([7]).
1/2- حدود البحث الفلسفي
يتفق الجميع على أن الفلسفة هي حب الحكمة، والفيلسوف هو محب للحكمة، حيث يعتقد كما سبقت افشارة أن فيثاغورس أول من استحدث هذه اللفظة ووظفها من منظور أن الفلسفة بحث في طبيعة الأشياء. وهذا التعريف يضعنا منذ البداية أمام حدود البحث الفلسفي، حيث الدافع الفلسفي الذي يقود إلى البحث، ولكن لا يعني الوصول إلى اليقين القطعي، ولذلك فإن ما يغلب عن الفلسفة كما يرى كثير من الباحثين أنها طريقة في البحث تعنى بالسؤال أكثر مما تعنى بالإجابة القطعية بشكل يقيني.
وبالرغم من أن الفلاسفة يجادلون في صحة أفكارهم، فإن المتأمل في المسألة من خارجها يرى أن الفلسفة كالناكثة غزلها تنسج ثم تنقض ما بدأته، لذلك فإن العجرفة السوفسطائية كانت موضع استنكار بسبب ما نسبه السوفسطائيون لأنفسهم من عظمة الحكمة وكمالها [8].
إن فضول الفلسفة وطموحها وشطحات تناقضها جعل حدودها غائمة رجراجة غير واضحة، ويعود هذا الغموض إلى صعوبة تعريف الفلسفة ذاتها وترسيم حدودها، ونعني بحدودها الموضوعات التي تشكل حيّز اشتغالها.
ففي حين قصرت بعض الفلسفات همها في مجال البحث الميتافيزيقي أي ما وراء الطبيعة، نرى أن فلسفات أخرى اعتبرت أن المنطق والأكسيولوجيا (القيم الأخلاقية) ونظرية المعرفة أمور واقعة في دائرة تخصصها، كما أدى نشوء بعض النظريات العلمية العلمانية إلى فتح القنوات بين العلم والفلسفة وعاد الانتعاش القديم للمذاهب الفلسفية التي تبحث في الطبيعة.
وأدى التساؤل عن الغايات ومحاولة النفاذ إلى المعاني الكامنة خلف الظاهرات التي تناقشها العلوم إلى نشوء فلسفات العلوم، فلم يعد المؤرخ يكتفي بسرد الحوادث التاريخية، بل يحاول تفسير التاريخ بموجب نظرية محددة ترد حوادثه إلى كلية عامة. وما يقال في التاريخ يقال أيضا في علوم الاجتماع وفي غيرهما من العلوم.
ومن جهة أخرى تطورت بعض النظريات العلمية لتصبح تفسيرا للظواهر التي تبحثها الفلسفة، أليست محاولة فرويد التي بدأت بالنفس البشرية ثم توسعت حدود النظرية التحليلية مع الإضافات التي تبعتها محاولة لتفسير الحضارة والمجتمع والأدب وحتى الدين على نحو فلسفي؟
فبعض المفكرين يرى أن البحث الفلسفي لا علاقة له بما هو خارج عنه وحصين على ما غيره، وصادر عن ذاتية الفيلسوف وليس عن شيء آخر، ولذا فإن الاختلاف ما بين المذاهب الفلسفية لا يعدو أن يكون غير اختلاف في المنابع الذاتية الأصلية بين الفلاسفة[9].
فالفلسفة نتاج العلاقة بين الفيلسوف وعصره، وهي تتأثر بمعطيات العصر الذي وجدت فيه سواء أكانت علمية أم اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية، ومن هذا المنطلق تنسب فلسفة برجسون الحيوية إلى التقدم الهائل الذي حققته علوم الحياة في عصره[10]، وينظر إلى فلسفة اشبلنجر على أنها تعبير عميق عن شعور ألماني بالإحباط واليأس بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى[11].
وبسبب هذه الطبيعة المعقدة للفلسفة نشأ تاريخ الفلسفة الذي هو محاولة لتقسيم الفلسفة إلى مراحل وحقب فلسفية، فقد صنفت الفلسفة اليونانية إلى ما قبل سقراط وما بعده، وفلسفة العصور الوسطى بما فيها الفلسفة الإسلامية والفلسفة الحديثة، كما صنفت في مجموعات مادية ومثالية وذرائعية ووجودية وغير ذلك من الفلسفات القائمة.
1/3- خصائص الخطاب الفلسفي
قديما قال أرسطو “لا علم إلا بالكليات”، والكل الناظم للكليات كلها هو الفلسفة، فإذا كان العلم يبحث في الظواهر الجزئية للوجود فإن الفلسفة تبحث في الوجود كله، بحثا عن معناه وغاياته ودلالاته والروح الساكنة فيه، عن وحدة الوجود التي تتوارى خلف هذا التعدد في مظاهره وفي تجلياته المختلفة.
فالفلسفة تجوس في المناطق المظلمة التي لا تخضع للملاحظة والتجريب حيث يسود العلم ويكون اشتغاله. والبحث الفلسفي من جهة ثانية خلافي، فالمذاهب الفلسفية تتعرض باستمرار للمراجعة والنقد، حتى عند الفيلسوف الواحد ذاته، ألا نجد مؤلفات الشباب عند أفلاطون تختلف عن مؤلفات الكهولة؟ ألم ينتقل روجيه غارودي من ماركسية مادية إلى إسلام عرفاني متصوف ؟
وخلافية الفلسفة ليست عدمية هادمة تماما، بمعنى أن الفيلسوف الجديد لا يهدم بناء أسلافه دائما، ففي كثير من الحالات يعيد الفيلسوف بناءه الفلسفي من حجارة الفلسفة السابقة، ولكن بتشكيل جديد، وفي أحوال أخرى يعيد توضيح المفاهيم المستخدمة عند فيلسوف سابق ويبني تصوراته على مطلق هذا التجديد. فالمثل عند أفلاطون والتي أعطاها في فلسفته دلالة انطولوجية وجودية هي ذاتها المفاهيم التي ينشئها العقل عند أرسطو.
وفي بعض الحالات فإن دينامية التغيير هي الاستيعاب والتجاوز، أي الإقرار بالمقولات السابقة وتجاوزها إلى مستوى جديد، أليست جدلية هيغل هي جدلية ماركس نفسها ولكنها جدل المادة بدل جدل الروح الكلي.
ومن سمات البحث الفلسفي أنه غير نفعي لأن غاياته محصورة بذاته سعيا إلى تلبية الفضول العقلي عن الفيلسوف، ولقد قيل إن العلم له هذه الصفة ذاتها، ولكن اللانفعية في الفلسفة اطلاقية بينما هي في العلم نسبية.
وثمة مسألة تمتاز بها المعرفة الفلسفية وتكاد تكون سمة مشتركة لتياراتها كافة وتتمثل في اعتمادها على التأمل العقلي في بحثها، ولذلك فهي لا تطابق مقولاتها مع الواقع بل تحصر همها في التناسق المنطقي لعناصر البناء الفلسفي ذاته، ولكن الفلسفات بالرغم من اعتمادها على التأمل فإن الطريقة التي يعمل فيها التأمل تختلف من فلسفة لأخرى، ففي حين يعتمد بعض الفلاسفة على حدوس اشراقية عرفاتية تتحد فيها ذواتهم مع موضوع المعرفة كما هو الحال في المذاهب الصوفية والمذاهب الجوانية فإن الفلسفات الأخرى تأخذ صورة عقل يمتلك زمام نفسه يستخدم البرهان العقلي الصارم في توليد المسائل والقضايا التي يبحثها ويحكم بناءها احكاما متماسكا.
ثانيا – بين الفلسفة والتربية:
عرّفنا الفلسفة بأنها شكل متقدم من أشكال الوعي الإنساني للوجود. وأوضحنا بأنها معرفة عقلية تتسم بطابع الشمول والتكامل والتنظيم، كما وصفناها بأنها معرفة غائية تسعى لتحديد موقع الإنسان وغايته في الوجود. والفلسفة عندما تتجه إلى التربية تبحث في ماهية المتعلم بوصفه إنسانا، وفي منهج التفكير لديه بوصفه كائنا عاقلا، وفي غاية المعرفة التي يجب أن يمتلكها بوصفه كائنا غائيا، وفي نسق القيم الذي يجب أن يتبناه بوصفه كائنا أخلاقيا. وعندما تتحول التربية موضوعا للفلسفة نستطيع القول بأننا إزاء فلسفة تربوية. وتتحدد طبيعة هذه الفلسفة التربوية بالطابع العام للتيارات الفلسفية القائمة فهناك الفلسفات التربوية المثالية والمادية وبينهما توجد الفلسفات التربوية العقلية والوجودية والبرغماتية التي تتميز كل منها عن الأخرى بنسق من السمات والخصائص والتوجهات المحددة.
فالفلسفة بصورة عامة تحاول أن تدرك ماهية الوجود على نحو شمولي، وهي في المستوى التربوي تحاول أن تحدد علاقة الإنسان عينه بالوجود. وإذا كانت الفلسفة العامة تسعى إلى اكتشاف عناصر الوجود فإن فلسفة التربية تحاول أن تدرك موقع الإنسان في إطار هذا الوجود. وفي هذا المقام تسعى فلسفة التربية إلى تقديم إجابات ذات طابع غائي كوني في المستوى التربوي: لماذا نربي؟ وما غاية التربية؟ وما الوسائل الكفيلة بتحقيق الغايات التربوية؟ وما دور العقل في المعرفة وما دور الحواس وكيف نحدد العلاقة بين الذات العارفة والموضوع موضوع المعرفة؟
أغلب المفكرين يرون بوجود روابط جوهرية بين الفلسفة والتربية، وإنه لمن الصعوبة بمكان أن نجد فلسفة من غير تربية أو تربية من غير فلسفة، لأن التقاطب بين الجانبين محكم إلى درجة لا يمكن أن تنفصم. فالتربية من غير فلسفة توجهها تفقد معناها وتتحول إلى أفاعيل عبثية لا طائل من ورائها، والفلسفة من غير فعل تربوي يؤصلها ويمنحها الحياة في العقول والنفوس يجعلها نوعا من الفوضى العقلية ويحولها إلى عبثية فكرية من غير جدوى.
وتتبدى وشائج العلاقة بين التربية والفلسفة في مواطن عديدة؛ فالفيلسوف لا يمكنه إلا أن يكون معلما ومربيا بالدرجة الأولى، ولا يمكنه أن يكون فيلسوفا ما لم يكن معلما، لأنه يحتاج إلى نشر تعاليمه وفلسفته، ولن يكون لفلسفته أي وجود من غير مؤيدين وأنصار ومريدين. لقد دأب الفلاسفة على بناء مدارس فكرية يبدعون عبرها تصوراتهم ويحملونها لرسل ومعلمين جدد يطوفون بها في أنحاء الدنيا. لقد كان سقراط معلما قبل أن يكون فيلسوفا لا بل كان فيلسوفا لأن كان معلما، وكان أفلاطون أعظم تلامذته؛ ثم أسس أفلاطون أكاديميته المشهورة فأنجب أرسطو المعلم الأول الذي ذاع اسمه في الدنيا وشغل الناس، وقد أسس أرسطو لاحقا مدرسته المشائيّة المشهورة باسم اللوقيوم.
على مرّ التاريخ نجد أن كل فيلسوف قد أفرد جانبا مهما من فلسفته للتربية، ويندر في تاريخ الفلسفة أن نجد فيلسوفا لم يعن بالشأن التربوي ويخصص مباحث خاصة لهذا الجانب في فلسفته، فغالبية الفلاسفة أفردوا في نظرياتهم جانبا يهتم بالإنسان وتربيته ويتجلى هذا الاهتمام عند الفلاسفة العرب، أمثال: الغزالي، ابن سينا، الفارابي، إخوان الصفا؛ ولا يقل هذا الأمر من حيث الأهمية في الفلسفة اليونانية أمثال: سقراط، أفلاطون وأرسطو، وعلى المنوال نفسه تظهر المسألة عند الفلاسفة الأوروبيين في ما يسمى بالفلسفة الحديثة فيخته، كانت، روسو، هيغل بيركلي وغيرهم كثير.
وليس مدهشا أبدا أن يكون أعظم الفلاسفة وأشهرهم أكثرهم عناية بالشأن التربوي. فالعمالقة من الفلاسفة مثل أفلاطون وسقراط وكانط وهيغل وديوي وروسو كانوا فلاسفة مربين ومربين فلاسفة بالدرجة الأولى، وألقابهم ومدارسهم وأعمالهم تشهد على هذه الحقيقية الأصيلة في تاريخ الفلسفة.
إذ لا يمكن للمرء أن يكون فيلسوفا ما لم يبحث في ماهية الإنسان وفي طبيعته تيمناً بمقولة سقراط ” أيها الإنسان اعرف نفسك” وبالمقولة الإسلامية الطيبة من “عرف نفسه عرف ربّه”. ولا يمكن للفيلسوف أن يكون فيلسوفا ما يبحث قضية المعرفة في كيفية اكتسابها وهل هي فطرية أم حسية؟ ولا يمكن للفيلسوف أن يكون فيلسوفا ما لم يكن قادرا على تحديد الغايات الأخلاقية من وجود الإنسان، فالفلسفة هنا رهينة بقضايا تربوية.
والتربية من جانب آخر لا يمكنها أن تكون تربية حقّة ما لم تحدد قضايا الغايات الفلسفية للوجود، ولا يمكنها أن تجري عفويا دون توجيه فلسفي. ومن هنا فرضت الضرورة التاريخية على كبار المربين أن يكون فلاسفة كي يكونوا مربين حقيقة، أمثال: فروبل وبستالوتزي وجان جاك روسو ومنتسوري ودكرولي وكرشنشتاينر ومكارنكو وغيرهم كثير وكثير.
لقد تفجرت هذه الحقيقية وضوحا في فلسفة جون ديوي الذي أدرك أنه لا يمكن الفصل بين الفلسفة والتربية، وأن الفلسفة كما يقول هي” النظرية العامة للتربية “. ويقال أن تصور الفيلسوف الأمريكي جون ديوي للفلسفة على أنها ” النظرية العامة للتربية” تشكل واحدة من أعمق البصائر إن لم تكن أعمقها على الإطلاق في تاريخ الفكر الإنساني([12]).
وقد تبدو نظرية ديوي في تأكيد هذه العلاقة الصميمية بين الفلسفة والتربية جديدة ومبتكرة، ولا يمكن لأحد أبدا أن ينكر هذه الجدة والأصالة، ولكن من يتبصر في تاريخ الفلسفة سيجد بأن سقراط كان يؤكد جوهرية هذه العلاقة حيث يقول ” إن الفلسفة والتربية مظهران مختلفان لشيء واحد، يمثل أحدهما فلسفة الحياة، ويمثل الآخر طريقة تنفيذ هذه الفلسفة”([13]).
فالتربية ترتبط جوهريا بنظرية المعرفة الفلسفية التي تبحث في طبيعة الإنسان، وفي كيفية اكتساب الإنسان للمعرفة، وتحديد دور الحواس في اكتساب المعرفة، ومن ثم تحديد الهدف من المعرفة. وهذه قضايا تواجه المربي لأنها تتصل بصميم عمله وجوهر وجوده.
ثم هناك الجانب الغائي الذي يتعلق بغاية الإنسان وغاية التربية. وهذا جميعه يرتبط بالفلسفة أو بفلسفة التربية تحديدا. وهنا تأخذ فلسفة التربية قبل كل شيء فلسفة الإنسان وهي الفلسفة التي ترتدّ إلى الكائن الإنساني نفسه وتحاول إدراك ماهيته وغائيته، لأن الإنسان لا يغدو إنسانا إلا بالتربية وهو صيرورة تربوية حسب المقولة الكانتيه. إننا ومن أجل أن نحدد الغاية من التربية يجب أن ندرك الغاية من الوجود الإنساني وأن نحددها، لأننا وفي كل حركة من حركاتنا وكل سكنة من سكناتنا يتجلى موقف قيمي وفلسفي في آن واحد.
ثالثا – فلسفة التربية
بناء على ما تقدم من تبيان لوشائج العلاقة الجوهرية بين الفلسفة والتربية يمكن القول بأن فلسفة التربية تشكل المكان الذي تطرح فيه مشكلات الوجود الإنساني في علاقتها بالتربية، وهي بعبارة أخرى صوغ فكري لأوضاع التربية ومشكلاتها وأهدافها.
في فلسفة التربية يتأجج الحوار النقدي حول قضايا التربية ومشكلاتها وهمومها وغاياتها وأبعادها. وفي دائرة هذه الفلسفة تتم تغطية الحقل الخاص بالتساؤل الكبير الذي يدور حول هوية الإنسان في صيغة من نحن؟ وماذا يجب أن نكون؟ وكيف نكون؟ وما هي أدوات هذه الكينونة؟ لقد أدرك فلاسفة التربية على مرّ الزمان بأن الفلسفة التربوية الحقة ومن أجل أن تكون حيّة أصيلة يجب عليها أن تحطم أصنام الحاضر والماضي وأن تتحول نحو المستقبل لأنها يجب أن تكون نظرة نقدية إلى الوجود بما ينطوي عليه من حمولات وصيرورات ومشاغل.
يقدم كلود بانتيون” (Claude pantillon) تعريفا لفلسفة التربية قوامه ” أن فلسفة التربية هي خميرة التربية والفلسفة والتاريخ، بل هي الإرادة الحازمة، إرادة، الوقفة الشامخة للإجابة عن الأسئلة والتحديات الكبرى في عصرنا”([14]). وتأسيسا على ما سبق يمكن تعريف فلسفة التربية بأنها نتاج متفاعل لمختلف المقولات والنظريات التي شيدها الفلاسفة والمربون في حقل العملية التربوية. وهي تشمل في ذاتها أيضا على أنساق التأملات الفلسفية حول التربية والحقيقة التربوية بتجلياتها وممارساتها المختلفة. فالفلسفة نشاط نقدي تأملي شمولي وهذا يعني أن الفلسفة اليوم عندما تخضع التربية للنقد والتحليل والمكاشفة نجد أنفسنا بصدد فلسفة تربوية حقيقية. إنها في صياغة أخرى، نوع من الغيوم الباردة التي تعانق شمس يوم حارق فتلطف أجواءه، وعمود من النار يضيء في ليل دامس ليوجه التائهين في صحراء تربية مقفرة.
فالفلسفة التربوية هي تطبيق للمنهج الفلسفي على التربية بمختلف قضاياها وتجلياتها، وهي تعمل على تحليل ومعاينة القضايا التربوية وتحليلها ونقدها، وهذا يعني أن فلسفة التربية تؤدي دورا نقديا وتوجيهيا وتكامليا في مجال التربية والحياة التربوية. ” إنها النظرة النقدية التحليلية الشاملة إلى الواقع التربوي، في علائقه بالواقع الاجتماعي العام وفي تحركه نحو المستقبل، من أجل توضيح السبل التي نبغي أن يتبناها، والغايات التي يتوجب أن يرسمها. إنها الاستشراف المنهجي للمستقبل التربوي، في علاقته بمستقبل المجتمع بوجه عام، وذلك عن طريق النظرة النقدية الشاملة إلى الواقع التربوي، وما يحيط به، وما يومىء إليه”([15]).
إن المبرر الأول لوجود فلسفة تربوية يتمثل في الحاجة إلى التفكير النقدي في ميدان التربية، شأنه في ذلك شأن سائر الميادين. ” ومعنى هذا كله، خلافا لما هو شائع وذائع، إن موضوع فلسفة التربية الرئيسي ليس نظرية القيم، ولا هو العرض شبه العلمي لغايات مجتمع معين. إن موضوعها الأساسي هو عملية التربية نفسها، تصفها وتحللها وتدركها وتكتشف دلالتها ومعناها. أما القيم والغايات فتولد من خلال دراسة عملية التربية نفسها، كما سبق أن قلنا ذلك كرة بعد كرة“([16]).
وباختصار، فإن الفلسفة التربوية تسعى إلى ترشيد وهداية العملية التربوية بما ينسجم مع غايات كلية شاملة تتناول الإنسان في علاقته بالكون والطبيعة والوجود. وفي كل تربية يجب أن تتحدد منظومة من القضايا من طبيعة فلسفية. إذا يجب علينا في كل تربية أن نتبنى فلسفة تربوية تقوم بأداء المهمات التالية:
– تحديد أهداف العملية التربوية وغاياتها.
– تحديد طبيعة الإنسان بما تنطوي عليه من ماهيات وخصائص.
– تقديم تصور فلسفي لعمليات تشكل المعرفة ومناهج بنائها.
– تعيين مصادر المعرفة وأولوياتها وطبيعتها.
– تحديد الموقف من مسألة الوجود وقضاياها.
– تعمل على بناء منظومات القيم ومعانيها التي تتمثل في الحق والخير والجمال.
– تقوم في النهاية بهداية العملية والتربوية وتوجيهها ونقدها وتحديد مساراتها بما يضمن مصلحة المجتمع والإنسان في مجتمع محدد.
ونحن في عمق هذه الإشكالية نجد أنه يتوجب على العملية التربوية أن تأخذ أحد اتجاهين: يتمثل أحدهما في أن نترك الحبل على الغارب في العملية التربوية دون توجيه، وإما أن نعمل على أن يكون للتربية توجيه وهو سيكون بالضرورة توجيه فلسفي.
لقد قمنا بتحديد بعض من سمات وخصائص ووظائف فلسفة التربية وسنعمل على استعراض اتجاهين تربويين أساسيين في فلسفة التربية هما الاتجاه المثالي والاتجاه المادي في التربية. ومن أجل أن نحدد طبيعة الفلسفة التربوية ومهمتها وأبعادها يتوجب علينا أن ننظر ونتأمل في بعض الفلسفات التربوية وأن نحدد ملامحها. ومن أجل هذه الغاية سنستعرض طبيعة الفلسفة التربوية المثالية والفلسفة التربوية المادية.
رابعا – تقاطعات الفلسفة والتربية
بين الفلسفة والتربية وشيجة أولى تفوق كل الوشائج وهي أن التربية وليدة الفلسفة الصغرى لأنها آخر العلوم التي بدأت استقلالها عن الفلسفة الأم. ولم ينقطع حبل السرة بين الفلسفة والتربية لأن التربية علم عملي وتطبيقي بالدرجة الأولى، وهو لا يستطيع أن يوجه نفسه إلا عبر الفلسفة. لقد بقيت التربية الابنة الصغرى للفلسفة وثيقة الصلة بأمها تهتدي بمشورتها ورأيها وتطلب عنايتها في تسديد خطاها نحو الأفضل. ولذلك بقيت الفلسفة تشكل الموجه الأساسي للتربية. ومن هنا جاء إلحاح ديوي على القول بأن الفلسفة هي النظرة العامة للتربية. ومع ذلك كله فهناك قواسم مشتركة وحيوية بين الفلسفة والتربية تجمعها في أربعة محاور أساسية: المسألة المعرفية، والمسألة الوجودية، والمسألة القيمية، ومسألة الطبيعة الإنسانية.
4/1- المسألة الوجودية (الأنطولوجية)
من أجل أن نوضح هذه الصورة للعلاقة الجوهرية بين التربية والفلسفة، يتوجب علينا أن نستعرض صورة وامضة للمسألة الأساسية في الفلسفة، التي تتجلى بمحوريها الوجودي (الأنطولوجي) من جهة والمعرفي (الإبيستيمولوجي) من جهة أخرى.
فالمسألة الأساسية في الفلسفة بقطبيها الوجودي والمعرفي تشكل منطلق كل فلسفة وتربية. والفيلسوف لا يمكن أن يكون فيلسوفا ما لم يحدد موقفه من هاتين القضيتين وذلك هو حال المربي الذي يتوجب عليه من اجل أن يكون مربيا أن يحدد موقفه من هذه القضية. وهنا تبرز مفارقة غريبة ومدهشة في الآن الواحد لأن الفيلسوف عندما يحدد موقفه من هاتين القضيتين يصبح فيلسوفا مربيا وكذلك هو حال المربي الذي يصبح فيلسوفا. لنستعرض معا مسألة المعرفة ومسألة الوجود.
من يتأمل في الدفاتر الفلسفية القديمة سيجد أن قضية “الوجود” كان الموضوع الأول للفلسفة والفلاسفة ولاسيما في المرحلة الإغريقية القديمة. وقد أدى الاهتمام الفلسفي في هذا المجال إلى ولادة نظريات وجودية (أنطولوجية) تسجل حضورها في تاريخ الفلسفة عبر نظريات أبدعها فلاسفة عمالقة مثل أفلاطون وأرسطو وهيغل وكانط وديكارت.
تبحث النظرية الوجودية الأنطولوجية عن أصل الوجود وتبين كيفية انبثاق الأشياء والظواهر وتكون الكون وتشكل الخلق. وهي في دائرة هذا الاهتمام والاشتغال تطرح أنساقا من التساؤلات المنهجية، أهمها: هل تولد الأشياء بمحض الصدفة ومن تلقاء ذاتها؟ وهل هناك من قانونية ثابتة تحكم الأحداث الكونية في نشوئها وارتقائه؟
فسؤال الوجود سؤال يتربع عرش الأسئلة في مملكة الفلسفة ويشكل قضية القضايا في الفلسفة والتربية. إنه السؤال الأكبر الذي تطرحه الفلسفة وعلى أساسه تتحدد هوية الإنسان الفلسفية. ويصاغ هذا السؤال الأكبر على النحو التالي: أيهما اسبق في الوجود المادة أم الوعي؟ العقل أم المادة؟ أيهما وجد أولا؟ وبالتالي فإن طبيعة الإجابة عن هذا السؤال تحدد لنا هوية الفلسفة والفيلسوف. عندما تكون الإجابة بأن المادة اسبق في الوجود من العقل والروح فإن الفلسفة تكون مادية. وعندما تعطى الأولوية للعقل والروح تكون الفلسفة مثالية. وهنا يمكننا تحديد طبيعة أي فلسفة بتحديد طبيعة الإجابة التي تقدمها عن هذا السؤال. وتأسيسا على ذلك نقول وبعبارة أخرى أن المثاليين يقولون بأسبقية الوعي على المادة، بينما يعتقد الماديون بأسبقية المادة على الوعي. وهنا علينا في التربية أن نحدد موقفنا من هذه القضية لأن المربي أيضا يجب أن يحدد موقفه الوجودي. وهو على أساس هذا الموقف سيوجه رؤيته التربوية وسيمارس فعله التربوي.
هنا تتبدى قضية في منتهى الأهمية بالنسبة للمربي، وتتمثل هذه القضية في الغاية التربوية الكبرى للفعل التربوي ؛ فإذا كانت الروح هي جوهر الإنسان فإنه على المربي أن يعنى بالروح أولا، وأن يؤكد على جوهرية هذه الروح في عمله التربوي ثانيا. وعلى خلاف ذلك إذا ارتأى المربي بأن جوهر الإنسان مادي فعليه أن يركز على الجوانب المادية والبيولوجية في حياة المتربي والمتعلم، وأن يكثف جهده في سبيل بناء هذه الروح. والموقف الفلسفي من الوجود سيحدد لنا أيضا طبيعة الموقف من المسألة المعرفية في الفلسفة كما نجلوها في التالي.
4/2- المسألة المعرفية: نظرية المعرفة
على أساس الموقف من المسألة الأولى أي المسألة الوجودية يتحدد الموقف من المسألة المعرفية الإبيستيمولوجية التي تأخذ طابعا أكثر تعقيدا([17]). ومن أهم الأسئلة التي تطرحها هذه القضية تتعلق بطبيعة العلاقة بين الذات والموضوع، بين الإنسان بوصفه ذاتا عارفة وبين العالم الخارجي بوصفه موضوعا قابلا للمعرفة: كيف تتم عملية المعرفة؟ هل المعرفة كامنة في الإنسان سابقة على التجربة؟ أم أن التجربة مصدر المعرفة؟ هل توجد المعرفة بصورة أولية قبلية في عقل الإنسان؟ أم أنها تتأتى من التجربة؟ هل هناك معرفة فطرية؟ ما دور الحواس في عملية المعرفة؟ وما هي أدوات الإنسان في المعرفة؟ وهل معارفنا مطابقة للواقع في جدل العلاقة بين الأعيان والأذهان كما يقول المناطقة العرب؟ ما حدود المعرفة؟ وما مدى التطابق بين فكرتنا عن الشيء وحقيقة الشيء ذاته؟ ما طريقة البرهان على الحقائق؟ ما الفرق بين المعرفة والاعتقاد؟ ما الآليات التي يستخدمها الإنسان للوصول إلى المعرفة؟ هل هي الحواس كما يرى لوك الذي يقول: ” لا يوجد شيء في العقل شيء لم يكن موجودا في الحواس من قبل” وقد أضاف ليبنتز إضافته المشهورة إلى هذا القول قائلا: ” إلا العقل ([18]).
هذه الأسئلة وتفاعلاتها تشكل ما يسمى بنظرية المعرفة في الفلسفة والتربية، وتشكل منطلق كل فعل تربوي بل هي جوهر العملية التربوية. وقد لا نبالغ بالقول إن الأسئلة المعرفية التي تطرحها نظرية المعرفة الفلسفية تشكل المبتدأ والخبر في العملية التربوية. فعلى المربي أن يتخذ بالمطلق موقفا من المسائل المعرفية التي تطرحها الفلسفة، وهو لن يستطيع أن يربي حقيقة وينجح في فعله التربوي، ما لم يتخذ قراره وموقفه بشأن كيفيات المعرفة وآلياتها الإنسانية. إذ عليه أن يعرف كيف تكتسب المعرفة؟ وما أدواتها؟ وهل هناك معرفة فطرية سابقة للتجربة؟ وأن يعرف ما دور الحواس حواس المتعلم في العملية المعرفية. وعليه فوق ذلك كله أن يحدد أهدافه التربوية الخاصة وأن يقف موقف الناقد من الأهداف التي تفرضها العملية التربوية. وإنه لمن المؤكد أن المسائل التي تطرحها نظرية المعرفة في الفلسفة هي عينها المسائل التي تطرحها البيداغوجيا التربوية بصورة دقيقية. ومن هنا تبدو أهمية العلاقة الوجودية والصميمية بين الفلسفة والتربية.
فالمثاليون يعتقدون بأن العقل والروح يشكلان المصدر الأساسي للمعرفة الإنسانية، وهذا يعني أن المعرفة تنبع من العقل ومن الوعي الخالص، ويميزون بين المعرفة الحقيقية وبين الخبرات التي تقدمها الحواس، وهم يقولون بأن المعرفة الحدسية ممكنة ولكن لا بد من اختبارها بالعقل، ويختلفون في وظيفة الحواس ودورها في عملية المعرفة ؛ فأفلاطون يرى أن الفكرة التي نكونها بواسطة الحواس ليست صحيحة، وأن صورة الأشياء تختلف عن الأشياء ذاتها، لأن المعرفة تتصف بالثبات والكمال والواحدية، والأشياء التي نراها بالحواس فاسدة وناقصة ومتعددة ومتغيرة. إن فكرة الدائرة تختلف عن الدائرة التي نشاهدها، ولذلك حتى نعرف الدائرة معرفة حقيقية لا بد من أعمال تأملنا العقلي المدرب للكشف عن المعنى المتواري خلف ضلالات الحواس.
ولا يغالي أرسطو هذه المغالاة بل يرى أن المعرفة الحسية أمر ضروري ولكن العقل يقوم بتنظيم معطيات العقل وفق مقولات فطر عليها ولم يكتسبها بالتجربة. والمعرفة عند بركلي مصدرها الله، أليس هو المعرفة الكلية؟ وبقدر ما يتجلى الله في نفوسنا بقدر ما نقترب من المعرفة، والمعرفة كما يراها هيغل تكمن داخل الواقع، فما هو واقعي عقلاني وما هو عقلاني واقعي، ومصدرهما العقل الكلي، وكما الوجود يسير وفق نظام متدرج من التفتح الداخلي عبر جدليته التاريخية الخاصة من العقل الكلي يخرج وإليه يعود، لذلك فإن على الفكر اكتشاف هذه الكليانية للنظام خلف التعدد، وربط الأشياء والأفكار المبعثرة في هذه الكلية التي هي روح الكون.
إن المهمة الأولى للمدرسة وفقا لنظرية المعرفة المثالية تكمن في ترويض عقل الطفل من أجل إدراك الجوهر العام للروح. إن المواد والمقررات الدراسية لا تعلم لمعرفتها، فهي لا قيمة لها بذاتها، ولا لاستخدامها في الحياة، بل تكمن غايتها في مساعدة العقل للوصول إلى ما هو كلي ومطلق. وتتمثل نقطة الانطلاق كما يرى أفلاطون في إبراز القصور في معرفة المتعلم وإشعاره بجهله، وذلك عن طريق إجراء الحوار معه والأخذ بيده عبر دورة من التهكم والتوليد: التهكم حيث تتحرر النفس من الآراء الفاسدة والمعتقدات، وتصبح أكثر استعدادا لعملية التوليد أي استخراج الحقيقة المنسية من داخل الفرد.وهكذا يتدرج المتعلم عبر عملية التهكم والتوليد ليصل إلى رحاب الفلسفة وعبر دراستها تتجلى له الحقيقة الكبرى.
وعلى خلاف المثاليين يرى الماديون ولاسيما الماركسيون منهم أن الواقع شيء مستقل عن ذاتنا، إن المعرفة هي انعكاس هذا الواقع على ذاتنا، ولكن هذا الانعكاس ليس آليا، فالصورة المكتوبة في الذهن ليست صورة فوتوغرافية مطابقة للشيء ذاته، إذ أن المدركات الحسية التي يكونها الإنسان من خلال معالجته لها بالعمل تخضع إلى عمليات معقدة يجريها دماغ بشري نشط وفعال، ويصورها في أفكار مختلفة عما هي عليه في الواقع، إن المعرفة مشروطة بالدماغ ولكنها مشروطة من جهة أخرى بمدى التطور الذي بلغته البشرية في المعرفة، لأن درجة التراكم الذي أحرزته في هذا المضمار. فالسياق الاجتماعي يطور المعرفة، وبالتالي فليس هناك حقائق مطلقة لأن المعرفة الإنسانية تطورية في ذاتها. أما الماديون فيؤثرون الحواس في عملية اكتساب المعرفة ويؤكدونها؛فمصدر المعرفة بالنسبة إليهم هو العالم الخارجي وأنه لا يوجد في العقل إلا ما سبق أن وجد في الحواس.
إن التعلم في الهيئات التربوية يستند إلى نظرية المعرفة في الفلسفة الماركسية، ولذلك فهو يقوم على التعلم بالعمل في وسط اجتماعي. فالفكر ر يتولد من خلال معالجة الأشياء بالحواس والعمل، وقد حلل غالبارين (عالم نفس سوفيتي) اكتساب المعرفة على سلسلة من الأفعال المتدرجة يمارسها المتعلم تحت إشراف المربي حتى تتحول من نشاط خارجي يمارسه المعلم إلى شيء داخلي يسيطر عليه.
ويشارك البراغماتيون غيرهم في القول بنسبية المعرفة، ويؤكدون أن المعرفة وسيلة للتكيف، وأن الإنسان يولد الأفكار نتيجة تفاعله مع محيطه، والأفكار الميتة هي الأفكار التي ثبت عدم كفاءتها خلال التفاعل أو أن عجلة التطور خلفتها وراءها، ولذلك فإن الفلسفة البرغماتية للتربية ترفض تقييد المناهج التربوية بوظيفة النقل الثقافي لثقافة أصبحت ميتة وغير فاعلة على حد قول جون ديوي.
إن الأفكار الصحيحة ليست تلك الأفكار التي تنقل لنا الواقع بل تلك الأفكار الوظيفية التي تساعد على العمل، والتي تكشف التجربة الحية ملاءمتها وصلاحيتها، وينتج عن ذلك أن علاقة فكرنا بالواقع علاقة دينامية وليست جامدة وأن علينا أن نعيد التفكير بأفكارنا كلما تغير الواقع، إن التفكير ينشأ عندما يطرح علينا الواقع مشكلاته، وبالتالي فالتفكير ليس تأمليا، بل إجابات عن أسئلة إشكالية، تتولد حين تنشأ مشكلة لا نملك الإجابة عنها، أو نملك عنها إجابة مخطئة إذ ذاك؟؟ النظام المعرفي الذي تملكه ويتولد نظام معرفي جديد، ولما كان العالم متغيرا ومنفتحا على شتى الاحتمالات فإن الفكر يجب أن يكون متغيرا بحيث يلائم تغيرات الواقع.
إن التلميذ، بموجب هذه النظرية، يتعلم بالعمل وذلك عن طريق حفز وتحريض اهتمامه، حيث يختار مشكلات تهمه وتلبي دوافعه، وتنظم هذه المشكلات في مشروعات وطرائق متدرجة في الحل، وتناقش وتتم معالجتها في جو ديمقراطي، ويستخدم في اختيار المشكلات وتنفيذها دوافع الطفل وأهمها دافعه الاستطلاعي، وأن المناهج المسماة بمناهج النشاط هي المناهج التي دعت إليها المدرسة البرغماتية ، وهي مناهج غير محددة سلفا بل تتولد عبر التجربة التربوية ، أي عبر حوار يمارسه المتعلم مع المعلم والمتعلم مع البيئة.
ويرى جان جاك روسو زعيم النزعة الطبيعية في الفلسفة أن الذكاء يولد في المجرى الطبيعي لتطور الإنسان، وأن الملكية الفردية هي أصل الشرور التي ضللت العقل وولدت الاستبداد والقهر والظلم. ويجادل روسو في أن دعوته لا تعني إلغاء العقل، بل يبارك اللحظة العقلانية عند الإنسان، ولكنه يدعو إلى إعادة العقل إلى أصالته وإخراجه من دائرة اغترابه الناجمة عن تقديسه للأشياء التي أبدعها، وهذا لا يكون إلا بالعودة إلى الطبيعة التي يمكنها أن تصقل العقل وتنهض به. و لكن لماذا نعود إلى الطبيعة وماذا نقرأ فيها؟ إن ذلك يعتمد على مبدئين أولهما عزل الطفل عن المجتمع لإبعاده عن الفساد وثانيهما مجاراة التطور الطبيعي للطفل.
إن عزل الطفل عن المجتمع وتربيته في أحضان الطبيعة يحمي قلبه من الرذيلة وعقله من الخطأ، وذلك بتخليصه من الأحكام الخاطئة التي يكتسبها في المجتمع ، ويكتشف من خلال تفاعله مع الطبيعة الحقائق التي تتصل بالضرورات الطبيعية ، بالرغم من أن هذه التربية سميت تربية سلبية فإنها ايجابية بكل ما في الكلمة من معنى، إن كل ما هنالك هو تقليص سلطة المربي الذي لا يتدخل مباشرة بل يحيط بالطفل من كل جانب، وواجبه لا تعليمه بل حمايته من شططه الخاص والناجم عن رغبته التي تتجاوز قدرته، ولذلك فإن على المربي ترقب ظهور قدراته يقدم له التربية المناسبة.
وباختصار، تبين لنا نظرية المعرفة بأسئلتها المعقدة حول عملية المعرفة إلى أي حد تتطابق الفلسفة مع التربية وإلى أي حدّ تكون فلسفة التربية ضرورية وجوهرية في عمل المربي والفيلسوف معا أيضا.
إن الوصول إلى المعرفة كان وما يزال المسألة المحورية في العمل التربوي. وتشكل نظرية المعرفة الأساس الفلسفي للتربية على المعرفة وممارسة العمليات المعرفية والإدراكية ذاتها. وهذا يعني أن ممارسة العملية التربوية تتطلب بداية الإجابة عن أسئلة معرفية ذات طابع فلسفي تتعلق بطبيعة العلاقة بين الذات والموضع، بين الذات العارفة والموضوع في قابليته للمعرفة.
4/3- المسألة القيمية: النظرية الأخلاقية
تبدو وشائج العلاقة بين الفلسفة والتربية في الجانب القيمي. فالقيم تشكل ديدن الفعل التربوي ومنطلق الحياة التربوية. ولا يمكن الحديث عن تربية لا تتحرك في حقل القيم. فالقيم هي نسغ الحياة التربوية وهي الدماء التي تجري في عروق التربية. والسؤال هنا كيف يمكن للتربية أن تحدد منظوماتها القيمية؟ من أين تستمد هذه المنظومات القيمية؟ وفي كل الأحوال نجد هنا أن التربية غاليا ما تستمد نسغها القيمي من الدين ومن الفلسفة في غالب الأحيان ولاسيما الفلسفات التي تتشبع بعطاءات إيمانية كالفلسفة العربية الإسلامية.
فالفلسفة تتحرك بفعالية في هذا الحقل القيمي، ويشكل حقل القيم والمعاني والغايات أكثر حقول الفلسفة نضرة وجمالا وسحرا. ولم يكن مدهشا أبدا أن الفلسفة الإغريقية القديمة كانت تزاوج وتطابق بين المعرفة والفضيلة؛ فالمعرفة هي قيمة القيم والحكمة هي غاية الغايات. فالرزيلة هي الجهل والفضيلة هي المعرفة، والمعرفة هي الخير المطلق والجهل هو الشر بالمطلق. ووفقا لهذه الرؤية تتألق الفلسفة الكانطية في تعظيمها للقانون الأخلاقي، حيث يقول كانط عبارته الشهيرة التي دونت على قبره: شيئان يملآن نفسي إعجابا واحتراما: السماء المزدانة بالنجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في أعماقي.
فالموضوع الذي تتناوله الأكسيولوجيا أو مبحث القيم يتمركز حول القيم والمثل العليا والغايات السامية وقيم الحق والخير والجمال. وتطرح هذه الأكسيولوجيا أسئلة معقدة حول طبيعة الحق والخير والجمال، ومنها: هل القيم مجرد معان في العقل؟ أم أن لها وجود مستقل عن العقل الذي يدركها؟([19]).
ومن هنا تستمد التربية أو فلسفة التربية معينها في تحديد موقفها من القيم. فعلى المربي وعلى النظم التربوية أن تحدد موقفها القيمي والأخلاقي، وان تحدد بالتالي منظومة القيم التي تسعى إلى تأصيلها في المتربين في المستويات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية. والتربية بوصفها علوما عملية لا تمتلك هذه القدرة على التبصر في هذا الميدان من غير اللجوء إلى مباحث القيم في الفلسفة وهنا يترتب عليها أن تتبحر في معاني القيم من زاوية فلسفة خالصة. وباختصار لا يمكن أن نتحدث عن تربية من غير قيم لأن القيم تشكل عماد كل فعل تربوي ومن هنا يولد هذا التكامل العميق والشامل بين الفلسفة والتربية في حقل القيم الذي هو أكثر خطوط التماس اشتراكا بين الفلسفة والتربية.
4/4- في ماهية الإنسان وطبيعته.
هل الإنسان جسم أم روح؟ أم هو ثنائية جسد وروح في آن واحد؟ هل العقل صفحة بيضاء ننقش عليها ما نريد؟ أم آلة تستقبل الإحساسات؟ أم كينونة فاعلة لا تستجيب للمحيط ومثيراته استجابة حرفية، كما تستجيب القصبة الفارغة لعزف العازف؟ وهل الإنسان شرير أم خيّر بطبعه؟ وفي تحديد الموقف من هذه المسائل ترتسم مناهج ونظريات وممارسات تربوية فيما يتعلق بطرائق التدريس ومختلف التطبيقات التربوية. فالنظريات السلوكية الترابطية تؤكد على مقولات المثير والاستجابة والانطفاء والتعزيز لأنها تنطلق من فكرة أن العقل صفحة بيضاء نرسم عليها ما نشاء. وعلى خلاف ذلك تركز النظريات البنائية ومنها بنائية جان بياجيه على فكرة التفاعل بين العقل والبيئة إذ ترى أن كل ما يمارس بالعقل والحس يعاد استدخاله وتمثله على مستوى الفكر بصورة أخرى لا تطابق الأصل، أي لا تطابق المثيرات.
إن نوع الإجابة عن مسألة الطبيعة الإنسانية يحدد ملامح الفلسفة التربوية التي تعتمد في توجيه العملية التربوية. فإذا كان الإنسان خيرا بطبعه، فإن السلطة التربوية تقلل من وطأتها وضبطها، وتحقق الانضباط الذاتي وتستخدم الأساليب الديموقراطية في تحقيق النظام، وعلى خلاف ذلك إذا كان الإنسان شريرا بطبعه فإن السلطة التربوية في هذه الحالة تتدخل بفظاظة متكافئة مع ما في الإنسان من شرور لتستأصل هذا الشر، وهذا ينسحب على طرائق التدريس وغيرها من الممارسات التربوية. لأن تأصل الخير في كينونة الإنسان يقلل من دور الهيمنة التي يفرضها المعلم في مجال التربية لأنه يمكن للطبيعة إذا كانت خيرة في جوهرها أن تعلمنا وتحدد لنا التوجهات الأخلاقية وهذه الفكرة أصيلة في الرؤية الفلسفية لروسو الذي يدعو إلى اتخاذ الطبيعة معلما أخلاقيا يعصم القلب من الخطيئة ويسمو بالإنسان عن مواطن الرزيلة.
إذا كان البحث في طبيعة الإنسان يتناول الإنسان بما هو عليه، فإن البحث في الغايات والأهداف يحدد ما يجب أن يكون عليه الإنسان ويرسم الصورة الحيوية للإنسان في عالم التربية والممارسة التربوية. فالغايات والأهداف منظومة من المبادئ التي توجه العقل التربوي في مسار غائي ترتسم فيه الأهداف النهائية وتتحدد. ويشكل مبحث الغايات التربوية الحقل التربوي الذي تتقاطع فيه العلاقات بين الفرد والمجتمع، وبين الفرد والبيئة المحيطة به وترتسم الصيغ التي يجب أن تكون عليه هذه العلاقة، وتتحدد احتياجات الفرد من المعارف والمهارات للدخول في تفاعل اجتماعي إنساني خلاق ومثمر.
تختلف النظرة الفلسفية للطبيعة الإنسانية باختلاف المذاهب والتيارات الفلسفية. فالمثالية تنظر إلى الإنسان على أنه كائن روحي وإن حريته رهينة بذاتيته، فالخضوع لقانونية للضرورة وقانونية الطبيعة شأن من شؤون الجسد، والاستجابة لرغبات الجسد استجابة لكل ما هو غريزي ونزوعي، فالجسد بوصفه كيانا ماديا يخضع لقوانين الطبيعة ويجد فيها ما يلبي غرائزه. وطالما أن الإنسان كائن روحي فإنه بصفته هذه فكرة مطلقة بغض النظر عن تجسداته المادية التي تتعلق بالعمر والجنس والهيئة واللون والبنية، ويترتب على ذلك منطقيا أن الطفل مكافئ للراشد من حيث الجوهر مفارق له من حيث العرض فكلاهما من روح وإن اختلفا في هيئة الجسد.
إن ضياع الروح في عالم المحسوسات امتهان للإنسان ولذا يترتب على التربية المثالية أن ترتقي بالإنسان إلى ما فوق الجسد وأن تصقل جوهره الروحي الأصيل، وأن تحرره من سيطرة الرغبات والنزوات، لأن الجسد صورة حسية ملموسة مسكونة بالشر والجهل والألم، بينما الروح مسكونة بجوهر الفضيلة والمعرفة والحق والجمال، ومن هنا يترتب على التربية هنا أن تحرر الإنسان من حيوانية الجسد وأن تنهض بها إلى سمو القيم الروحية الأصيلة في عالم المثل.
ولكن هذه الصورة الروحية تفقد تألقها في الفلسفات المادية، فالإنسان بالنسبة للماركسية ليس ماهية ولا جوهرا روحيا، بل شيء في الطبيعة، إنه كتلة “ذات ثلاثة أبعاد مادتها اللحم والدم والعظام”[20]. وإذا كان الإنسان شيئا فإن قوانين الطبيعة تنطبق عليه، وبالتالي فهو يخضع لجبريتها المطلقة، ولا يستطيع التحرر من هذه الجبرية إلا بفهم الضرورة أي امتلاك المعرفة واستخدامها.
فالإنسان وفقا لهذه الفلسفات المادية يختلف عن بقية الكائنات الحية بقدرته على ابتكار الأدوات الضرورية لتلبية حاجاته، وفي هذه العملية الابتكارية ينشأ وعيه ويتبلور، ولذلك فإن أفكار الناس ليست معزولة عن أعمالهم وصنوف نشاطهم، وبالتالي فإن الإنسان يتعرض خلال مسيرته التاريخية لشتى أنواع الاغتراب، فهو مغترب عن عمله لأنه يبيع قوة عمله ولا يوظفه كما يريد، ومغترب عن إنتاجه لأن إنتاجه هذا لا يلبي حاجاته بل يحول إلى سلعة ويدفعه إلى دائرة الوهم والتشيؤ.
أن الأشياء تفرض سلطانها على الإنسان، واستعادة الإنسان سيطرته على مصيره والخروج من دائرة الاغتراب أمر مرهون بالفعل الثوري للطبقة العاملة وبإنشاء ثقافة وتربية جديدة تحرره من أوهامه وتخرجه من ظلمات اغترابه. فالإنسان جزء من الطبيعة ذاتها، وسعادته إنما تتحقق بالعيش وفق قوانينها، سواء أكانت هذه القوانين غائية كما يرى روسو إذ يفترض أن الطبيعة خيرة.
والإنسان في الفلسفات التربوية المادية لا يتصف بالخير ولا بالشر فهو يحوي الإمكانيتين معا، فطبيعته قابلة للإفساد كما هي قابلة للكمال، ولذا فإن الخطأ الأخلاقي كالخطأ المعرفي كلاهما ممكنان، ولكن من الممكن أيضا إصلاحهما.
إن الإنسان في حال الطبيعة كان يعيش في حالة غريزية مطلقة، ولم يكن مزودا بالذاكرة أو بالقدرة على التوقع والتخيل، وفي مصادفة ما تطور ذكاؤه فأبدع اللغة والمجتمع، وجرى تقسيم العمل، ومن هنا بدأ الفساد والشر، بسبب نشوء الرغبة في حيازة خيرات من الطبيعة لا يحتاجها، ونشأ التملك، كل ذلك نشأ في سياق المجتمع وتطوره وأدى فساد المجتمع، ونشأ فساد الفرد لأن المجتمع أجبره على تجاوز طبيعته الإنسانية. ولا نغالي إذا قلنا أن مشروع روسو التربوي هو مشروع سياسي واجتماعي مؤجل غايته إصلاح المجتمع واستخدام التربية سبيلا لذلك.
فالمجتمع يفسد الطبيعة وكذلك الثقافة الإنسانية، وهذا ما تؤكده سيرة طفل “الإيفيرون” الوحشي الذي عثر عليه في غابة الإيفيرون الفرنسية عام 1799، وكان حينذاك غلاماً قد أهمل وترك للعيش في الغابة، واستطاع أن ينجو من الموت، وخرج قوياً كالحيوانات، لا يعرف البرد ولا المطر ولا المرض، وهو الطفل الذي علق عليه روسو قائلاً: انظروا إلى الطبيعة كيف تفعل بالإنسان، وانظروا إلى الحضارة ماذا تفعل بالإنسان؟ إنها تسلب منه كل مقاومة عضوية، وكل نور فطري، وليس منها سوى إفساد الإنسان وتلويث البيئة وإشعال الحروب وإفساد الصحة العامة.
إن إفساد المجتمع للطبيعة الإنسانية الخيرة انصب على الجانب المعرفي كما على الجانب الأخلاقي سواء بسواء، ولما كان المجتمع بالنسبة للإنسان ضرورة لازمة، كان لا بد من تسليح الإنسان بالوعي قبل إلقائه في خضم المجتمع، وذلك بعزله عنه في البداية، حيث تتكون قدرته العقلية على التمييز وعلى إصدار الأحكام الصحيحة وعدم التأثر بالأحكام المخطئة، والسبيل إلى ذلك هو التربية الطبيعية السلبية، والسلب هنا يعني فتح المجال لتلقائية المتعلم، وتحقيقا للطبيعة الإنسانية. والطبيعة الإنسانية لا تتجلى في صورتها النهائية دفعة واحدة بل بشكل تاريخي فعلى المربي مراعاة ذلك، وتنسيق فاعليته التربوية مع هذه الصيرورة.
ولذلك فإنه في المرحلة الحسية حيث تتدامج الأشياء وتتماهى بالنسبة للطفل الروح مع الجسد والذات مع الطبيعة يبدأ اتصال الطفل بالطبيعة عن طريق الحركة، إن من الخطأ الشديد تغيير أداة الاتصال هذه، وذلك باستخدام القماط وترك التلقائية تبلغ مداها وتكشف له(لوحدها) القيود التي تفرضها الطبيعة على نوازعه، وإذا كان لابد من تعليمه اللغة في هذه المرحلة فيجب تقييدها في حدود ما تعبر عنه من أشياء.
إن الطفل في المرحلة الحسية، يربى تربية سلبية تتركه يتفتح من داخله، ووظيفة المربي حماية الطفل من التقاط ما هو غير صحيح من أفكار، ومن رغبته في الحصول على ما هو غير قادر على نقده.
وفي مرحلة تالية يسميها روسو مرحلة الفاعلية، يتسع عالم الطفل وتزداد قدرته، وبذلك يتسع مدى فاعليته واتصاله بالعالم المحيط، بما يحتوي هذا العالم من أشياء يعالجها ويستخدم في معالجتها قدراته المتفتحة وخلال احتكاكه يكتشف قوانين الأشياء من خلال تأثيره وتأثره بها، فإسقاط شيء من عل يشكل القاعدة التي ينبني مفهوم الجاذبية ضمنيا من خلالها، وكذلك مفهوم الصلابة والطول وغير ذلك من المفهومات.
إن المطلوب من المربي حماية الطفل من خبرة الأسلاف وتدخل هذه الخبرة في مجرى نمو الطفل لأن في هذه الخبرة كثيرة هي الآراء المخطئة، إن الطفل إذ يجرب فاعليته في الطبيعة وتقاوم الطبيعة هذه الأفعال، يتلقى العقاب الوحيد الذي يمكن استخدامه في التربية، وهو يكتشف إذ ذاك أن حريته مشروطة، بالقدرة والمعرفة وبالرغبة، هو الأساس الذي ينقله من الفكر الأسطوري إلى الفكر العلمي.
ولما كان روسو ينظر للقانون الأخلاقي نظرته إلى القانون العلمي من حيث حتميته، فإن القانون الأخلاقي لا يمكن اكتشافه في هذه السن، بسب مضامينه المجردة، ولكن على المربي أن يكون يقظا بحيث لا يسمح للطفل التقاط القيم من المجتمع.
إن صورة المربي كما يراها روسو للمربي يجب أن نتمتع بمزايا محددة صعبة المنال بالقياس إلى صورة المربي التقليدية، ولذلك يجب أن يعد المربي إعدادا مناسبا، وهنا يكتشف الدور المنطقي الفاسد في فلسفة روسو التربوية ذلك أن التربية التقليدية القائمة والتي ينقدها روسو لا يمكن أن تقدم لنا ذلك المربي المنشود، وحتى ننشئ تربية متجاوزة فإننا نحتاج إليه.
وبالرغم من ذلك، فإن روسو يقدم إلينا بحدس مرهف وذكاء خلاق فيضا من الآراء التي أثبت العلم مصداقيتها الكبيرة. فالمرحلة الأخيرة من مراحل نمو الطفل تكون عندما تنمو القدرات العقلية لديه حيث لم يعد من الخطورة إدماجه في المجتمع وتعريفه بالقيم الأخلاقية والعاطفية إذ يمكنه أن يقيم توازنا بين حبه لنفسه وحبه القيم السامية.
ولكن إشكالية الجسد والروح تجد تجاوزا لها في الفلسفة البرغماتية التي تتخطى ثنائية العقل والجسد كما تتبدى في الفلسفات الأخرى. فالبرغماتيون لا يرون في الإنسان ذاتا تصعد إلى المطلق أو موضوعا ماديا ينحدر إلى الدرك السفل من الوجود، حتى وليم جيمس مؤسس البرغماتية عندما يجادل بالمسألة الدينية فهو يبرهن في أن (وجود الله بقطع النظر عن الأدلة الخارجية ينسجم مع طبيعة عقولنا كمفكرين )[21]. فطبيعة الإنسان معقدة وتطورية، وتطوريتها نتيجة تفاعل عنصرين: الإنسان بوصفه معطى بيولوجي، والإنسان بوصفه معطى اجتماعي.
إن الطبيعة التطورية للإنسان والحياة من حوله تفرض عليه إعادة بناء حياته وتكييفها لما يستجد. ولذلك فإن المدرسة ليست جزيرة معزولة عما يجري حولها بل مفتوحة الأسوار على الحياة المتطورة، مناهجها وطرائق تدريسها غير ثابتة، بل متغيرة بتغير إشكالات الحياة ذاتها، وهي تطرح على المتعلم أسئلتها وتشعره بالحيرة عندما لا يستطيع بنسقه المعرفي الإجابة عنها، ولذلك يسعى للتفكير، ومن هنا تؤكد البرغماتية على تعليم الأفكار في سياقها الحيوي، حيث تتعانق المعرفة والحاجة وترفض تعليم مطلقات أكاديمية لا تنبع من التجربة الحية، لأن مفاهيم الأشياء وصيغها التجريدية يجب أن تمر بالخبرة أولا، ويجب أن تشتق من سياقها الحياتي والاجتماعي، وحتى المفاهيم الأخلاقية يجب أن تنبع من خلال الخبرة الشخصية ومن درجة ملاءمتها وفائدتها خلال العمل.
خامسا – الفلسفات التربوية:
تنامت الاتجاهات الفلسفية التربوية وتوالدت تياراتها محكومة بطبيعة الظروف التاريخية لتطور المجتمعات الإنسانية، وقد تنوعت هذه الفلسفات بتنوع الأيديولوجيات السياسية والتاريخية التي عرفها المجتمع الإنساني منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم.
ويجب علينا بداية أن نستحضر التيارين الفلسفيين الكبريين المثالية والمادية بوصفهما الإطار العام لمختلف التيارات والاتجاهات الفلسفية التربوية على مختلف المراحل والحقب التاريخية. فهذان التياران هما أشمل المذاهب الفلسفية وأعظمهما. فالمادية والمثالية في فلسفة التربية تشكلان البعد الفلسفي الأعمق والإطار الأشمل للفلسفات التربوية القديمة والمعاصر.
ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى عدد من الفلسفات التربوية التي تمايزت بأهدافها ومكوناتها وغاياتها وخطابها التربوي. ويمكن أن نذكر عددا من هذه الفلسفات وأهما: الفلسفة الطبيعية في التربية ومن أبرز روادها جان جاك روسو وبستالوتزي، وقد اشرنا إلى بعض ملامحها فيما تقدم ؛ وتجدر الإشارة أيضا إلى التربوية الوجودية التي سادت في أوروبا في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى الثانية، ويشار أيضا إلى الفلسفة التربوية البرغماتية التي سادت في الولايات المتحدة الأمريكية في النصف الأول من القرن الماضي بزعامة وليم جيمس وجون ديوي والتي انتشرت انتشارا كبيرا في مختلف أصقاع العالم. ولا بد أيضا وفي هذا السياق من استحضار الفلسفة التربوية البنائية التي أسسها كل من جان بياجيه في سويسرا وفيكوتسكي في روسيا السوفيتية سابقا، كما لا يفوتنا أيضا الفلسفة الواقعية في التربية والتي كان شأن عظيم في أوروبا في القرنين الثامن والتاسع عشر، وهكذا هو حال الفلسفة التربوية الإنسانية والوضعية.
ومما لا شك فيه أن هذه الفلسفات تتقاطع وتتداخل وتتكامل وتتناقض في كثير من المعطيات والتصورات، فبعضها يؤسس للآخر وكل منها يستمد عناصره الأساسية من الأخرى، لتشكيل رؤى متكاملة لنظريات فلسفية في مجال الحياة التربوية.
وإذا كان من الصعوبة بمكان استحضار هذه الفلسفات جميعها في هذا المقام فإنه يمكننا أن نستعرض التيارين الأساسيين الكبريين في فلسفة التربية وهما المادية والمثالية بوصفهما الحاضنين الأساسيين لمختلف التوجهات الفلسفية الصغرى.
5/1- النزعة المثالية في فلسفة التربية Idéalisme
بيّنا فيما سبق أن تحديد الطابع المثالي والمادي لفلسفة ما أو فلسفة تربوية محددة مرهون بطبيعة الإجابة عن السؤال الوجودي والسؤال المعرفي. فالمثالي كما أوضحنا يؤمن بأولوية العقل والروح على المادة والمادي يؤمن بأولوية المادة على الروح. والمثالي من جهة أخرى يؤمن بأن المعرفة فطرية في الإنسان وأن الإنسان يمتلك معرفة قبلية أولية سابقة على كل تجربة وذلك على خلاف المادي.
يعرف (لالاند) الفلسفة المثالية بأنها تيار فكري يحيل الوجود برمته إلى أرومته الفكرية، ويرد كل الأشياء الواقعية والظواهر الحادثة في العالم الطبيعي إلى أفكار الإنسان وعقله، وعلى هذا الأساس يصبح عالم الأفكار جوهر العالم ومصدره. ويذهب أصحاب النزعة المثالية الذاتية إلى القول بأن العالم المادي هو صدى لذواتنا وأفكارنا. وهذا يعني أن الحقيقة الوحيدة في هذا الكون هي الذات المفكرة العاقلة التي إليها ترتد أشياء العالم وظواهره. فالطبيعة لا وجود لها خارج الذات. وبالتالي فإن القوة التي تعتمدها الطبيعة تتمثل في العقل الكوني أو الإلهي([22]).
وتعد المثالية في الفلسفة أقدم نظام فلسفي في تاريخ الفلسفة والإنسان، وترجع أصول هذه المثالية إلى الفكر الهندي والصيني في العصور القديمة. ويعد أفلاطون الفيلسوف الإغريقي القديم مؤسس مذهب الفكر المثالي في التربية حيث ارتفعت المثالية على يديه إلى مستوى المذهب الفلسفي الشامل. وتتجلى هذه المثالية في نظريته عن المثل وفي أسطورة الكهف الذي يميز فيها بين عالمين هما عالم المادة وعالم المثل الذي يتميز بأصالته وخلوده وتفرده. فالروح المطلق هو جوهر الوجود عند أفلاطون وعالم المثل هو العالم الحقيقي أما العالم المادي الذي نعيش فيه فهو عالم متغير فاسد وهمي إنه ظل للعالم الأول وطيف من أطيافه([23]). ويمتد الخط المثالي في تاريخ الفلسفة في رموز عظيمة تبدأ بسقراط ومن ثم أفلاطون وبيركلي وديكارت وهيغل وكانط وروسو. ويعد كل من كومنيوس ورابليه وإيراسموس ومونتين وفروبل من ابرز رواد الفلسفة المثالية في المستوى التربوي.
فالعالم كما يتبدى للمثاليين عقل وروح ووعي والتربية يجب أن توجه لتصقل الروح والعقل بالدرجة الأولى لأنهما جوهر الإنسان أما المادة فهي عرض من أعراضه. فأفلاطون يرى أن الروح كانت تطوف في عالم المثل وهي لعلة ما أرادها الله هبطت إلى الجسد عالم المادة ومقامها في الجسد وقتي عابر زائل فهي عائدة إلى عالمها الأصيل الخالد لأن عالم المادة عالم زائف زائل أبدا.
وكذلك يرى بيركلي أن الروح خالدة أبدية، وأن تجسّدها وقتي عابر بمقتضى إخضاعها لامتحان من طبيعة إلهية. ويرى كانط: “أن الإنسان حر وخاضع للحتمية في آن واحد، إنه خاضع للحتمية بقدر ما هو جسد وهو حرّ بقدر ما هو روح”. وفي هذا يؤكد على جوهرية الروح وأصالتها في الإنسان لأنها ترمز إلى الحرية وإلى العقل وإلى القانون الأخلاقي في الإنسان. كان هيغل يرى بأن هذا العالم كان التعبير المتطور لعقل أو روح تجاهد لتجسد ذاتها على نحو كامل في صورة مادية. وفي هذا تأكيد فلسفي بارع ومتقدم في إعطاء الروح أولوية وفلسفية.
فالمثاليون يؤكدون على الجوهر الروحي للإنسان وأن الروح هي هدف التربية ويجب أن تكون غايتها وبالتالي فإن عقل الإنسان يجب أن يصقل لبناء إمكانية التفكير والتأمل لأن العقل أيضا هو جوهري في تكوين الإنسان وأصيل في رسالته الكونية.
يرى المثاليون أيضا أن المعرفة أصيلة في النفس الإنسانية وأنه على التربية أن تنتزعها، فالمعرفة عند أفلاطون تذكر لأن الروح عندما كانت تطوف في عالم المثل كانت عالمة عارفة بكل الحقائق وهي في اغترابها نحو الجسد نسيت هذه الحقائق ومن ثم فإن التربية تعمل على تذكير النفس بعالمها الحقيقي الأول. وفي هذا الأمر يقول عمانويل كانط: ” أن المعرفة في أفضل صورها يجب أن تنتزع من الفرد لا أن تسكب فيه “([24]). وفي قول كانط هذا تأكيد صريح على وجود المعرفة في أعماق الطفل وإنكار واضح لأهمية المعرفة الحسية وأولويتها في الإنسان.
يعتقد المثاليون في أغلبهم أن المعرفة مستقلة عن الخبرات الحسية ولا تستمد منها، وهم يؤكدون على مطلقية القيم، فالخير والحق والجمال قيم غائية مطلقة، وهي تتعين في بنية النظام الكوني وهي ليست من صنع الإنسان في النهاية. وإذا كان جوهر الوجود هو الروح، وإذا كان العالم المادي انعكاسا لها، وإذا كانت الحقيقة الخالدة هي المطلق الروحي المتجرد، فإن التربية يجب أن تركز على الجوهر ممثلا بالروح الإنسانية لأنها أعظم عنصر في الحياة وأكثرها عظمة وتألقا.
وتشترك الفلسفات المثالية في النظر إلى الوجود على أنه واقع لا مادي، ويرى المثاليون الموضوعيون مثل أفلاطون أن العالم المادي عالم زائف متغير وفاسد، وأن العالم الحقيقي هو عالم المثل، وأن ما نراه هو خيالات الأشياء لا الأشياء ذاتها، وبذلك فإن كل ما يقع تحت إدراك الحواس صورة ناقصة ومشوهة للأشياء الحقيقية ؛ وعالم المثل هذا لا تدركه إلا الصفوة ممن أوتوا عقلا نافذا مدربا أرهقه تعلم الرياضيات والفلسفة.
ويرى هيغل أن العالم الموضوعي ينبثق عن عقل كلي يحتوي بالقوة الوجود كله، وأن هذا العقل الكلي سابق على الوجود المادي، وإن انبثاق العالم الذي تحت سيطرة الحواس نتج عن أن فعالية العقل الكلي في إدراك نفسه ومن أجل هذا الإدراك الذاتي كان لا بد للعقل نفسه أن يصبح موضوع تفكير وإدراك وحتى يتحقق ذلك لا بد أن يتعين بالأشياء: لأن الصورة هي موضوع الإدراك، فالوجود الكلي الذي هو الأساس العقلي كالعدم لا يمكن التفكير به. والصورة الموضوعية لا تلبث أن تدخل في سياق العمليات الجدلية لتعود إلى منبعها وأصلها، إذ ذاك تمحي الفروق بين الذات المدركة والموضوع المدرك بعد أن تكون هذه الذات قد امتلأت بالموضوع من خلال صورته.
وبركلي بمثاليته المطلقة يمحو تماما عالم الأشياء والواقع لصالح عالم الأفكار. فالأشياء بحسب رأيه لا توجد بالنسبة إلينا إلا إذا كانت موضوعا لإدراكاتنا، وبكلام مختصر ليس العالم سوى معطى ذهني. فتفكيرنا بالشيء هو الشيء ذاته ؛ ولكن هل يعني ذلك أن الوجود الموضوعي دائم الموت والتولد؟ يوجد عندما نفكر فيه ويفنى من غير ذلك؟ فإدراكنا لا يحيط بالأشياء وإذا أحاط بها جدلا فإنه لا يحيط بها بصورة مستمرة. يجيب بركلي على هذا الإشكال بأن ثمة روحا تدرك العالم ونحن لا ندركها، هذه الروح مواظبة على الإدراك ودائمة اليقظة، لا تأخذها سنة ولا نوم، محيطة بالكون من كل جوانبه وحافظة له.
ترى الفلسفة المثالية أن على التربية أن تحقق ما يلي:
- – تطوير العقل وإرهافه ليصبح قادرا على إدراك الكل ويتعرف إلى موقع الإنسان ضمن هذا الكل ,الذي يعتبر الحقيقة مطلقة.
- – الإخلاص للوطن والدولة، التي هي غاية بحد ذاتها وهي تجنيد العقل في التاريخ كما يرى هيغل، وليست مسئولة إلا أمام الله كما يرى فيخته أو أمام العقل أو النقل هي العقل ذاته كما يرى أفلاطون.
- – تعلم النظام، لأن النظام هو الوسيلة لترويض العقل لقبول القانون الأخلاقي كما يقول كانت، والنظام يساعدنا على رؤية الأشياء في كليتها كما يرى هيغل، لذلك يرفض التربية التي تقوم على (التوحيد السطحي للخصوصيات ).
- – الإخلاص للقانون الأخلاقي لأن الشر ليس من طبيعة الحقيقة الكلية للكون، وبالتالي فإن فعل الشر ليس إيذاء للذات أو للآخر فحسب بل هو قبل ذلك خروج على روح الكون الكلية.
- – المعرفة الجديرة بالتعلم هي المعرفة النظرية ولذلك فإن أفلاطون كان يهزأ من الملاحظة والاختيار الأساسان اللذان يعتمد عليهما العلم الطبيعي (ولم يكن يبني علما طبيعيا لأن هذه العلم لا وجود له) [25].كما يدير ظهره للغرض من العلم (لأن العبيد وحدهم هم المعنيين بالتكنيك) [26].
5/2- النزعة المادية في الفلسفة التربوية (Matérialisme)
ما خلاصة الموقف الفلسفي المادي من موضوع المعرفة؟ وما موقف الفلسفة المادية من العقل والروح والظواهر الوجدانية؟ بل: وما موقفها من الله؟ أسئلة في غاية الأهمية. نسعى إلى تقديم إجابة عنها من خلال إفادات الفلسفة المادية. ونرى أن أول أمر نبدأ به هو موضوع المعرفة فالمادية تؤمن أن جوهر العالم مادي. وأن المادة تتميز بالقوة والتنوع والحركة والحياة والتفكير. أما العقل فهو بالمنظار المادي صورة من صور تطور المادة، وأن لا خلاف بين قوانين العقل بهذا المفهوم وقوانين المادة، فهي – أي القوانين العقلية – نسخة طبق الأصل لقوانين المادة. وهذا الأمر ينطبق على القوانين العلمية.
وعلى أساس هذا الفهم يصبح لدينا واضحا أن المادية لا تعترف بوجود شيء اسمه روح أو عقل مستقل عن المادة. وترى أن الظواهر الوجدانية ما هي إلا وظائف أعضاء الإنسان. فالتفكير وظيفة المخ، والذوق وظيفة اللسان، وهكذا.. والمادية تنكر وجود الله، وتعتقد أنه مجرد فكرة في عقول الناس.
إن الماديين الماركسيين يرون أن العالم وجود موضوعي، مستقل عن الإنسان ووعيه، وهو عالم مادي، غير قابل للزوال ولا نهائي، إذ أن وراء عالمنا عوالم لا عدد لها ولا حصر، وإن العمليات المتبادلة بين المادة والطاقة يجعل الكون غير محدود. وبالتالي فإن الكون يتشكل من مادة واحدة، فالأجرام السماوية والنجوم والأرض، إنما هي ائتلاف لذرات هذه المادة، وترى أن التغيرات الكيفية ليست إلا نتيجة لتغيرات كمية تراكمية، وعندما يصل هذه التراكم حدا معينا تتغير المادة تغيرا كيفيا، فالماء بتحولاته يجسد حالات لتراكمات كمية كيفية فزيادة الحرارة تحول الماء إلى بخار ونقصها يحوله إلى جليد واعتدالها يجعله ماء سائلا.
ومادية الكون ليست ثابتة بل دائمة الحركة والتغيير هو مصدر الحركة، إن التغيير والحركة أمران ملازمان للمادة، وإن مظاهر السكون والثبات إنما هي حالة نسبية في سياق المجرى العام للتطور، إن ثباتنا داخل قارب يدفعه التيار هو ثبات بالنسبة للقارب ولكنه حركة بالنسبة إلى مجرى الماء.
ويشارك الطبيعيون الماديين في القول بوجود طبيعي مستقل عن الإنسان ويرفضون التفسير الغائي للكون الذي يخضع برأيهم إلى قوانين سببية تعطيه موضوعيته، وبذلك فالكون لا يكترث بالإنسان ولم يصنع من أجله. فالإنسان يقف قلقا أمام عالم لا يبالي به، ولكنه عندما يستخدم عقله ليكتشف القدرات الكامنة في هذا الكون وقانونياته الموضوعية يمكنه أن يضع نفسه في داخل هذا الكون بصورة فاعلة مستفيدا مما اكتشفه عقله من قوانين يسير الكون بحسبها، إننا لا نستطيع الاستفادة من طبيعة حيادية وباردة العواطف تجاهنا ما لم نفهم منطقها الخاص.
والبراغماتية لا ترى أن للكون ماهيات مسبقة محددة بل هو وجود تطوري مفتوح على شتى الاحتمالات، إن التطور هو السمة الأساسية للكون وللحياة، ولذلك فإن وسائلنا وأدواتنا وأساليب تفكيرنا يجب أن تكون دينامية ومتغيرة بحيث تستطيع أن تتكيف وفق قانون التكيف مع هذا الكون المتغير. وأن كل مالا يمكن اختياره لا قيمة له، وبالتالي فإن مقولات الميتافيزيقا كالنفس وخلود الروح هي مقولات لا يمكن أن تقع تحت الخبرة ولا يمكن إثباتها، ولذلك فإن البحث فيها هو بحث لا طائل وراءه ولا فائدة والبحث فيه مضيعة للوقت.
وترى النظرية المادية الديالكتيكية الماركسية أن التربية تهدف إلى ما يلي:
– التربية حق عام ومن الضروري إزالة العقبات الاجتماعية والإثنية التي تحول دون القبول في المعهد الدراسية.
– يجب توحيد النظام التعليمي ووضعه تحت إشراف الدولة.
– التربية للعمل المنتج والقضاء على ثنائية الفكر والعمل ودمج الفكر والعمل في سياق واحد.
– تسليح الإنسان بالوعي الطبيعي والاجتماعي لفهم الظاهرات الاجتماعية والطبيعية، والتخلص من التفسيرات الغيبية التي تسبب الاغتراب الثقافي للإنسان.
– تحقيق الصلة بين الدراسات الأكاديمية والحياة، وهدم الفجوة بين المدرسة والحياة.
– النظرة المتفائلة للإنسان والثقة به واعتبار أن الفروق في التحصيل والذكاء لا تعود للوراثة ولحتمية بيولوجية، وأن بإمكان أي طفل استيعاب المناهج الدراسية عندما تتوافر له ظروف مواتية.
– الاتجاه نحو تربية متوازنة توجه الاهتمام للشخصية بصفتها نظاما متكاملا من النواحي الجسمية والمعرفية والانفعالية والاجتماعية.
من المنطقي أن نعترف أن غايات التربية بموجب النظرية الطبيعية (محفورة داخل التربية ذاتها ). والعمل التربوي يساعد على تفتح الطبيعة في الإنسان أي طبيعته تفتحا متدرجا، فالنظرية الطبيعية تقوم على مفهوم للطبيعة قائم على أن الطبيعة خيرة بذاتها وموجهة بغايات كما يفترض روسو وهنا يتوجب على الإنسان أن يكتشف نفسه عبر الطبيعة ومن خلالها بواسطة التربية الطبيعية.
خاتمة
تتفق الفلسفة والتربية بأنهما تنتجان عن الكائن الإنساني وإليه تتوجهان، فالخطاب الفلسفي ينتجه الإنسان الذي يستهدف الكون وذاته موضوعا للمعرفة في آن واحد، ويعلمنا هذا الخطاب اليوم علم اليقين بأن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد في مملكة الكائنات الحية الذي يصير إنسانا بالتربية، وهو الوحيد أيضا الذي يهتدي بأبجدية التفلسف منتجا للمقولات والمفاهيم والأفكار سبيلا إلى عقلنة الأنا والعالم من حوله، وفي دائرة هذا الإنتاج يأخذ الخطاب الفلسفي في مجال التربية صورة أنساق فكرية يتم صوغها بالرموز والدلالات والمعاني اكتناهاً لقضايا الفلسفة والتربية.
وإنه اليوم لمن اليقين بمكان أنه لا يمكن لنظام تربوي أن ينطلق من غير هداية فلسفية تواجه مساره وتعصمه من عبثية عدمية قد تفقده توازنه وتحرمه من دلالته ومعناه ؛ فكل نظام تربوي ملزم بالضرورة الحيوية القصوى أن يحدد لنفسه الفلسفة التربوية التي تهدي خطاه وتوجه مساره في عالم يفيض بالتناقضات والصراعات والأيديولوجيات والتغيرات.
ولذلك فإن حضور الفلسفات التربوية في صلب الأنظمة التربوي والتعليمية يشكل ضرورة تاريخية حيث لا يمكن لهذه الأنظمة أن تنطلق من غير موجهات فلسفية تتمثل في الأهداف والغايات والأدوات والبرامج التربوية. ومن هذا المنطلق تتبنى الأنظمة التربوية العالمية أنساقا من النظريات التربوية والفلسفات التي توجه المسار وتحصن الخطى في عالم متغير متفجر.
فكل نظام تربوي معاصر معني اليوم بتحديد موقفه من الكون والعالم والإنسان والحضارة من الروح والعقل والوجود والدور الحضاري للأمة والإنسان وهذا لا يمكن أن يكون إلا عبر فلسفة تربوية واضحة المعلم قادرة على توجيه الأنظمة المعنية إلى بر الأمان. وليس من الضرورة بمكان أن تتبنى هذه الأنظمة نظاما فلسفيا أحاديا صارما ومغلقا بالضرورة، حيث نجد أن الأنظمة التربوية يمكنها أن تؤسس فلسفتها الخاصة التي تتكامل فيها بعض العناصر الفلسفية من مختلف التيارات والاتجاهات الفلسفية المختلفة في ضوء المتغيرات الاجتماعية والعوامل التاريخية للمجتمع الذي تنتسب إليه.
لقد أبنا في هذه المقالة أوجه التكامل بين الفلسفة والتربية، ورسمنا الحدود الفاصلة بين التربية والفلسفة، ثم رسمنا هذه التقاطعات المتواترة بين ثلاثية الإنسان والتربية والفلسفة. ومهما تكن أبعاد هذه العلاقة وصورتها فإن هذه العلاقة تتجلى في فلسفة تربوية تتسم بطابع الشمول، وهذه الفلسفة لا يمكنها أن تكون جامدة بل تأخذ بكل صيغ التغير الاجتماعي وعوامله المختلفة. فلكل مجتمع فلسفته التربوية وهذه الفلسفة تتغاير بين حقبة وأخرى وتتباين بتباين الظروف والوضعيات التاريخية والاجتماعية للمجتمع.
فالفلسفة كما اشرنا تنير دروب العملية التربوية وتوجه مسارها نحو التجاوب مع تطلعات المجتمع. ولكن مهما يكن الطابع الغائي لهذه الفلسفة وقدرتها على الإنارة والاستكشاف والتوجيه فإنه يجب علينا أن نأخذ بأهمية الفلسفة التربوية بوصفها بحثا لا ينقطع عن الحقيقة وطاقة فكرية تطهر العقول من أدرانها وتدفع بها إلى رحاب التفكير المطلق الذي يتجاوز كل حواجز التفكير الإنساني الحرّ ,
وهذا الرأي نجده صريحا في فلسفة أوليفييه روبول، الذي يقول ” تعلموا التفكير أولا, بكل ما تحمله الكلمة من صرامة وغزارة, وسيأتي الباقي تباعا”. والفلسفة تعلمنا التفكير وعلى الأثر تعلمنا الفلسفة التربوية كيف نفكر في التربية ذاتها وكل شيء آخر سيأتي تباعا كما يقول أوليفييه ربول.
فالفلسفة نضال من أجل الحقيقة وهذا ما يذهب إليه كارل ياسبرز حين يقول في كتابه الفلسفة والحقيقة “أن تتفلسف هو أن تُناضل من أجل الحقيقة”[27]. والحقيقة هذه تشكل الغاية التربوية الأساسية في كل فعل تربوي وفي كل نظام تربوي يسعى إلى امتلاك الحقيقة واستكشاف مناهلها الإنسانية.
فالفلسفة عشق مطلق للحقيقة وما أعظم نظام تربوي يعمل على بناء أجيال تعشق الحقيقة وتسعى عليها وليس أكثر من تعليم الفلسفة يؤدي إلى عشق الحقيقة والتفاني في طلبها، وهنا نجد تقديرا لا يوصف لعملية التفاني في طلب الحق والصدق والحقيقة، فالفيلسوف عاشق للحقيقة، ينشدها أينما وُجدت، رغم اقتناعه باستحالة امتلاكه لها بالمطلق على وجه اليقين! وهذا ما يذهب إليه المُربي العظيم لسنج الذي يقول “ليست الحقيقة التي يملكها إنسان أو يتصور أنه يملكها هي التي تجعل له قيمة، بل الجهد الصادق الذي بذله في التماسها والسعي وراءها. فليس تملك الحقيقة هو الذى يُنمي طاقاته وقواه، بل إن البحث عنها هو الذي يعمل على تفتحها، وفيه وحده تكمن قدرته على الاستزادة من الكمال. إن التملك ليجعل الإنسان كسولاً، ساكناً، مغروراً. وما أجمله من قول هذا الذي يقوله لسنج ليأخذ مقام الحكمة ” ولو أن الله وضع الحقيقة كلها في يمناه، وجعل الدافع الوحيد الذي يحرك الإنسان إلى طلبها في يسراه ـ ولو كان في نيته أن يُضلني ضلالاً أبدياً ـ، ومد نحوي يديه المضمومتين، وهو يقول:
اختر بينهما! لركعت أمامه في خشوع وهتفت وأنا أشير إلى يسراه: رب! أعطني هذه! فالحقيقة الخالصة ملكك أنت وحدك!” ([28]).
[1] – إمام عبد الفتاح إمام، مدخل إلى الفلسفة، مؤسسة دار الكتب، الكويت 1993، ص40.
[2] Gilles Deleuze: qu’est-ce que la philosophie ? philagora, www.philagora.net.
[3] عبد الله عبد الدايم، نحو فلسفة تربوية عربية: الفلسفة التربوية ومستقبل الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1991، ص 76.
[4] محمد جلوب الفرحان، الخطاب الفلسفي التربوي الغربي، الشركة العالمية للكتاب، بيروت 1999، ص 13.
[5] انظر: مهدي فضل الله، فلسفة ديكارت ومنهجه، دراسة تحليلية ونقدية، دار الطليعة، بيروت، 1996.
[6]– La Philosophie , http://membres.lycos.fr/minbar/cours/philosophieb.htm.
[7] La Philosophie , http://membres.lycos.fr/minbar/cours/philosophieb.htm.
[8] عبد الرحمن بدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، وكالة المطبوعات الكويت الكويت، 1975- ص. 7
[9] عبد الرحمن بدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، المرجع السابق، ص 57.
[10] عبد الرحمن بدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، المرجع السابق ص56.
[11] عبد الرحمن بدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، المرجع السابق، ص56
[12]– Regardez: Lucien Morin net Louis Brunet , Philosophie de l’éducation, Les presses de l’Université de Laval, Québec, 1992.
[13] نقلا عن: يزيد عيسى سورطي، فلسفة التربية في العالم الإسلامي: المشكلات والحلول، المجلة التربوية، العدد 37، المجلد العاشر، خريف 1995، صص 149-192، ص 155.
[14] عبد الله عبد الدايم، نحو فلسفة تربوية عربية: الفلسفة التربوية ومستقبل الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1991، ص 77.
[15] عبد الله عبد الدايم، نحو فلسفة تربوية عربية، المرجع السابق، ص 77.
[16] عبد الله عبد الدايم، نحو فلسفة تربوية عربية، المرجع السابق، ص 78.
[17] – Woozley. A.D., Theory of Knowledge, An Introduction, London, 1950, pp. 8-1
[18]؟ -فاطمة جيوشي، طرائق تدريس الفلسفة، مطبعة دمشق، جامعة دمشق، 1990 /1991، ص29.
[19] انظر: محمد جلوب الفرحان، الخطاب الفلسفي التربوي الغربي، الشركة العالمية للكتاب، بيروت 1999، ص 24.
[20] كامل فؤاد وآخرون – الموسوعة الفلسفية المختصرة، دار القلم ، بيروت ، 1989، ص 391.
[21] وليم جيمس ، العقل والدين ، ترجمة محمود حسب الله ،منشورات دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت، 1980، ص87.
[22] – انظر: يحيى هويدي، مقدمة في الفلسفة العامة، ط7، القاهرة 1979، ص140.
[23] انظر: أفلاطون، فيدون (في خلود النفس) ترجمة عزت قرني، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة، 2001.
[24] Regarde: Marc-André Bloch , Philosophie de l’éducation nouvelle, P.U.F, 1973.
[25] لويس جون ، مدخل إلى الفلسفة ، ترجمة أنور عبد الملك ، بيروت ، 1983 ، ص32.
[26] لويس جون ، مدخل إلى الفلسفة ، المرجع السابق .
[27] – كارل ياسبرز، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، مدخل إلى الفلسفة، (القاهرة: مكتبة القاهرة الحديثة، 1967)، ص 208.
[28] – وُلد الفيلسوف جوتهولد إفراييم لسنج عام 1729 في كامنز ـ لوزاس بمقاطعة ساكسونيا موطن مارتن لوثر. وأشهر كتاباته: تربية الجنس البشري.