عبيط القرية وعراؤنا الأخلاقي ـ قراءة فلسفية بقلم محمد عرفات حجازي

“السخرية تنبع من تجاهل الذات” سقراط

محمد عرفات حجازي[*]

   تغلغلت قواعد الفُحش حاليًا، في شكل أكثر علانيةً وعاميةً، في منطقتنا العربية خصوصًا، أكثر من أيّ وقتٍ مضى. وعبيط القرية هو أحد الأفراد الذين يُؤدون، أو يُنسب إليهم تأدية هذا الدور بامتياز.

   بدايةً، فالفُحش والفحشاء والفاحشة هو القبيح من القول والفعل، والمُتفحِّشُ هو الذي يتكلّفُ سبُّ الناس ويتعمّدُه، وكلُّ شيءٍ قد جاوز قدْرَهُ وحدَّهُ فهو فاحشٌ، وهو ضربٌ من ضروب الجهل ونقيضٌ لِلحِلْمِ.

   وقال ابن الأثير: الّلحْم العبيط هو الطَّريّ غير النّضيج. ومات عَبْطةّ أي شابًّا صحيحًا. وفي الحديث: مَن قتل مؤمنًا فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صَرْفًا ولا عَدْلًا؛ أيْ قتله بلا جناية كانت منه لا جريرة تُوجب قتله، واعتبط قتله أي قتله ظلْمًا لا عن قصاص. ولم ترد تعريفات للعبيط بمفهومنا المُتداول، ما يجعلنا نتأوّل ونقول: إنّ العبيط هو غير النضيج العقل، ما يجعله عُرضةً للاستغلال النفسي والجسدي. وربما يكون صحيح البنية الجسدية أو مُعتلّها.

   والعبيط أنواع؛ منه المُسالم الذي لا يُؤذي أحدًا، ومنه مَن يتحرّش بالمارّة، يسرح ويمرح في الشوارع الطرقات، ويزرع الرُّعب والقلق في النفوس، ويسير بحريّة وبلا حدود عارضًا بضاعته للمارة، مُعمِّقًا بذلك روح الكآبة والتأفُّف في الفضاء العام.

   وبصفةٍ عامة، يجد ذلك الشخص لذّةً في الاسترخاء أمام الناظرين، يفترش الأرض ويلتحف السماء، ولا يراوده حرجٌ من قضاء حاجته أمام الناظرين، بل ويُطلق الغازات والشتائم والألفاظ النابية، ويعبث بأعضائه التناسلية جهارًا نهارًا.

   ولكن، لماذا نستدعي صورة العبيط في ذلك الوقت تحديدًا مع ما ينتابنا من رعب جراء جائحة كورونا؟، ولماذا نضحك حدّ البكاء من بعض تصرفات العبيط؟، وهل يمكن اعتباره مرآةً لأخلاقنا وسلوكنا؟، ثمّ كيف قدّمت السينما المصرية صورة ذلك الكائن البشري؟

   إنّ عبيط القرية لفرط ما به من جهل بأمور الحياة عمومًا، بل ولعدم اكتراثه، غالبًا، بالظواهر الطبيعية، ولكونه فاقدًا للأهل والمأوى في أكثر الأحيان؛ نراه يجوب الشوارع ليل نهار، حتى في ظلّ جائحة “كورونا”، لا يكترث بحظر التجوال، حتى أنّه بات كالحيوانات التي تجوب الشوارع باحثةً عن ذلك الكائن البشري الذي اختفى فجأة حتى من أزقّة المعمورة.

   في مصر، نجد سيدي “علي كاكا” وقد وصفه أحمد أمين بقوله: “هو شخصية غريبة تدلّ على ولوع المصريين بعلاقتهم الجنسيّة، فهي شخصية رجل يلبس الحذاء ويلبس في وسطه حزامًا تتدلّى منه قطعة على شكل الآلة الجنسية في أضخم أنواعها. وكان هذا المنظر يُثير ضحك النساء والرجال، على العموم، ضحكًا بالغًا. كانوا يصنعون منه نماذج من الحلوى في الموالد، وكان هناك نوعٌ من الحلوى عبارة عن سُكّر مُجفّف فيه شربات، ويُسمونه أيضًا شربات، ويدور البائع في الشوارع والحارات ويقول: العروسة من الشربات، العريس من الشربات، الحماة من الشربات، علي كاكا من الشربات”.

   وفي مدينة القيروان التونسية، كان هناك إلى وقت قريب وليّ يُدعى العورة، وهو لقب لا يخلو من مغزى، يتحلّق حوله الصبية مُهلِّلين يسألونه أن يُريهم ساعته، فيُسارع بكشف ثيابه؛ ممّا يبعث البهجة والمرح في المارة من النساء والرجال!

   ولا تخلو المدن والعواصم العربية، بل والأحياء والقرى من مثل تلك الشخصية التي باتت رمزًا يحمل العديد من الدلالات.

   إنّ كلّ تلك النماذج هي نماذج شاحبة بالمُقارنة مع “كراكوز”، وتلك الأخيرة يُعتقد أنّها من أصل تركيّ، وهي دُمية تقوم ببطولة عروض تمثيليّة صغيرة خاصةً في شهر رمضان لتسلية المُشاهدين. وتُترك المواقف والكلمات لاختيار الرجل الذي يُحرِّك الدُّمية. و “كراكوز” في النهاية هو المُنتصر القويّ الذي يهزم العالم برمّته بفضل فحولته التي لا يملك أحد مُقاومتها، بداية من مُلاحظات الحمامات العامة، والغاويات، ورجال الشرطة… إلخ. فكلّ هؤلاء ينهزمون تحت وطأة سُعاره الجنسيّ الذي ينسحب أيضًا على الظواهر الطبيعية من نخل وشجر وزيتون، فلا أحد يصمد أمام عصاه التي يُصاحب ضربتاها عبارات بذيئة وأمثال سوقية. ويضجُّ جمهور الحاضرين، رجالًا ونساءً وأطفالًا، بالضحك والضجيج. ولكن: لماذا نضحك؟

   ذهب الفيلسوف اليوناني سقراط إلى أن “السخرية تنبع من تجاهل الذات”، وأكّد أرسطو على أنّنا نضحك على مَن هم أقلّ منّا وعلى القُبحاء من الأشخاص، والفرح يأتينا من الشعور بأنّنا طبقة أعلى منهم. وفسّر الألماني هيجل نشأة الضحك قائلًا بأنّه: نتيجة لوجود التناقض بين المفهوم والمعنى الحقيقي الدفين الذي يُقدِّمه هذا المفهوم. وهو يُشير إلى المفهوم بـ “المظهر” الشيء الظاهر لنا، وبالضحك يُنكر وجوده كليّة. وأكّد فرويد أنّ الضحك ظاهرة وظيفتها إطلاق الطاقة النفسية التي تمّ تعبئتها بشكل خاطئ أو بتوقعّات كاذبة. وذهب جون موريال إلى أنّه نوع من أنواع تعبير عند المرور بخطر ما. أمّا بيتر مارتينسون فقال بأنّ الضحك هو الاستجابة للإدراك الذي يُقرّ بأنّ الكينونة الاجتماعية ليست شيئًا حقيقيًّا.. أمّا الفرنسي برغسون فقد ذهب إلى “إنّ ضحكنا هو ضحك جماعة من الناس”، وبالتالي فالضحك يتولّد حين يُوجّه جماعة من الناس انتباههم إلى واحد من بينهم، مُسكتين حساسيتهم ومُمارسين عقلهم وحده. وبالتالي فإنّ ما يُثير ضحكنا هو أن يتحوّل ما هو حيّ إلى ما يُشبه الآلة.

   بالتالي، فمواقف الجسم الإنساني وبوادره وحركاته تكون مُضحكة، حسب برغسون، بالقدر الذي به يجعلنا نُفكّر في شيء آلي فقط، وحيث يبدو الإنسان مُجرّد ألعوبة، وهي ذاتها الصورة التي نُسقطها على “العبيط”، تقريبًا..

   إنّ هذا الاستخدام الجماعي المُنظّم للفُحش هو أقرب إلى الهاجس الجماعي الذي أُرسيت قواعده المُلطّفة إلى حدٍّ كبير من قِبل المجتمع السلطويّ الاستبدادي القائم على فصل الجنسين مُختزلًا فرص لقائهما إلى الحدّ الأدنى. ومُجتمعاتنا العربية رغم مناخها الخانق المُهيمن، إلا أنّها لم تفتقر إلى العبقريّة في إحلال صمامات الأمن الكافية في اللحظات المُناسبة والمواقع الصحيحة.

   وتستخدم مجتمعاتنا النظام التعويضيّ بكلّ ما يندرج تحته من صمامات أمن: العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة، الشذوذ الجنسي، التلصُّص، القذف الّلفظيّ والعبارات الفاحشة، ناهيك عن الشعر وفتاوى الفقهاء… جميعها لها نصيب وافر في عملية التحايل هذه.

   وقد يبدو الفُحش مُجرّد مزاح وحسب، لكنّه أكثر انعكاسًا لما يتضمّنه من خيال. وهو عامل تعويض بجدارة، يُحرّر العواطف ويُطلقها، مما يجعله أكثر صمامات الأمن فعالية وتأثيرًا، غير أنّه، مع الأسف، يظلّ غير كافٍ.

   ومن منظور سينمائي، فقد قدّمت السينما المصرية عدة أفلام عن تلك الشخصية. ففي فيلم “توت توت” (1993م)، قدّمت الفنانة “نبيلة عبيد” دور فتاة شعبية مُتخلِّفة عقليًّا (كريمة)، يستغلّها الناس ويعهدون إليها عادة بالأعمال الشاقة، حتى رآها الثري محروس “سعيد صالح” في “مولد القرية” فاستدرجها واغتصبها وتركها تُعاني ويلات الحياة بمفردها. أيضًا فيلم “خالتي فرنسا” (2004م) والذي سلط الضوء، في عُجالة، على استغلال الطبيب (فاروق فلوكس) للمُتخلِّفات عقليًّا والاعتداء عليهنّ جنسيًّا.

   قدّمت تلك الأفلام “العبيط” ـ في إطار درامي مرة، وكوميدي مرة أخرى ـ كشخص مُتخلّف عقليًّا، بلا مأوى، يُعاني ويلات الحياة، ومن السهل جدًا استدراجه/ ها والاعتداء عليه/ ها جنسيًّا. وفي النهاية مصير الجاني معلوم: إمّا القتل على يد المجني عليه (كما في فيلم توت توت)، أو السجن في ظلّ دولة القانون (كما في فيلم خالتي فرنسا). أمّا المُعتدى عليه، العبيط، فليس له إلا الرضا بحياته كما هي، بما فيها من ويلات، ما يجعل المُشاهد باقيًا في حيرة من أمره أمام العديد من التساؤلات الذهنية..

   إلى جانب ذلك، نجد فيلم “الحرامي والعبيط” (2013م)، تلك الدراما الاجتماعية الإنسانية التي تُصوِّر حياة رجلين: فتحي (خالد صالح) الذي فقد عقله بسبب ظروف الحياة القاسية، والظلم الذي يطعنه من كلّ صوب، وزوجته الخائنة؛ في مقابل صلاح (خالد الصاوي) ذلك البلطجي اللئيم الذي يفقد عينه في إحدى المُشاجرات، ليحاول لاحقًا التودّد إلى فتحي، ومعاملته بالحسنى، لكن تلك المُعاملة والاهتمام تخفي وراءها مؤامرة قذرة تُحاك بجهل من فتحي يقوم بها صلاح بمعاونة خطيبته الممرضة ناهد (روبي) لأجل سرقة (عين) فتحي، وبذلك يتمّ استغلاله جسديًّا.

   وقد صوّر الفيلم شخصية “العبيط” بواقعية تامة، تلك الشخصية التي تعيش بلا مأوى، وتأكل بقايا الطعام من القمامة، وتُنظّف الحي أو الحارة، وتغدو نموذجًا لكافة إسقاطاتنا.. وتتلخّص مستوى نظافتها في الجملة التي قالها شريك بطولة العمل (صلاح): “الواد بينضف كلّ حاجة في الحارة إلا نفسه”..

   إنّ هذه الممارسات التعويضية تُقدّم سلسلة فاعلة مُؤثّرة في النُظم الدفاعية للمجتمعات العربية، فعبر إرساء قواعد الفُحش واستمرارية مُمارسته ورتابته، يُمكن إدراك أنّ الفُحش ليس ظاهرةً هامشيّة، بل على النقيض تمامًا، إنّه يضرب بجذوره في أعماق الجماعة، وينعكس أحيانًا بأسلوب مُتطرِّف. كما أنّه، في الحقيقة، لا يعدو سوى النقص في الشخصية الزائفة الهشّة، ومُجرّد ظاهرة لخاصية السطحيّة التي تخفي الذات الحقيقية.

[*] ) باحث في الفلسفة والأخلاق التطبيقية ـ مصر

إغلاق