رهانات العقلانية “العلـــــم”  جان لاديار ترجمة : عبد الوهاب البراهمي

  • رهانات العقلانية ” العلـــــم
  • جان لاديار  Jean Ladriere
  •  ترجمة : عبد الوهاب البراهمي/ متفقد عام للفلسفة  – من تونس.     

                     

    ” يمكن النظر إلى العلم بوصفه مجموع المعارف العلمية الراهنة أو نشاطا بحثيا أو أيضا منهجا في اكتساب المعرفة. إنّ المظهر الذي يبدو عليه العلم اليوم وعلى نحو ملفت للانتباه، هو كونه منظّم اجتماعيّا بشكل متزايد. لقد مضى زمن كان فيه العمل العلمي شأن البعض؛ يجري تقريبا على هامش المؤسسات، أما اليوم فقد أصبح قطاعا مهمّا من قطاعات العمل الإنساني، بل هو من بعض النواحي، قطاعا حاسما ، جدّ مُمَؤْسس، منظّم وفق مخطّطات  يوجبها طابعه المنظم بالذات. وقد أضحى جانب التخيّل والمصادفة والتوقعيّة والإبداعية الشخصية، والّذي كان فائق الأهمية في أولى مراحل التطوّر العلمي، تقريبا هامشيّا. وأصبح نشاط البحث العلمي مهنة كسائر المهن، تمارس في مؤسّسات عمومية أو خاصّة، تتجه إلى أن تنتظم وفق النموذج البيروقراطي؛ إنّها تنشـأ في علاقة بمشاريع محدّدة تمليها تحديدا دوافع خارجة تماما عن العلم. زد على ذلك، فإنّ جزءا من البحث متزايد الأهمية، يتّجه مع ذلك، لا إلى حلّ مشكلات علمية بحصر المعنى، بل إلى استعمال معارف ومناهج ومهارة علمية بغرض خلق إجراءات صناعية جديدة وتمكين الاقتصاد من وسائل جديدة وصناعة أجهزة حربية جديدة أو المساهمة في إنجازات تستهدف تطوير منطقة أو بلد. وباختصار، فقد أصبح البحث العلمي عامل قوّة، إنْ على صعيد اقتصادي أو بصورة مباشرة على الصعيد السياسي. وفضلا عن ذلك فمنذ الحرب العالمية أصبح العلم أو بالأحرى البحث العلمي عاملا أساسيا توليه سائر الدول أكبر الاهتمام. وتحديدا، لأنّه بات من البديهي أنّ القدرة على استعمال مصادر العلم تمثّل اليوم مكوّنا أساسيا للقوّة الاقتصادية- السياسية للمجموعة الاجتماعية. فنحن نشهد في كلّ مكان نشوء سياسة للعلم، وبناء مؤسّسات حكومية مخصّصة لذلك. إنّ تنظيم البحث يتّجه أكثر فأكثر إلى أن يضحى شاملا، أن يكون تحت المراقبة التامّة، المباشرة وغير المباشرة للدّولة. و علينا بالتأكيد أن نأخذ بعين الاعتبار الفوارق بين مختلف أشكال النظام الاقتصادي- السياسي. فيمكن لتنظيم العلم أن يكون  ممركزا بعض الشيء. ولكن حتّى في الموقع الذي تتعدّد فيه مراكز القرار المستقلّ والتي عند الاقتضاء، تسعى إلى أهدافها الخاصّة  في علاقة بمصالح معيّنة، يكون التوجّه مع ذلك وقدر الإمكان، نحو تحقيق توحيد معيّن للنشاطات العلمّية، على الأقلّ، بطريقة تجنّب الاستعمالات المزدوجة وتساعد على التعاون، و ربّما التعريف ببعض الأهداف الشاملة التي تقدر على إنشاء ضرب من التأطير العام موجّه نحو جعل مختلف الأهداف متوافقة وفي أحسن الحالات منسجمة.

   لكن ، وقبل أن ننظر في البحث العلمي من جانبه الاجتماعي، وأشكال تنظيمه واستتباعاته السّياسيّة، يجب التساؤل عمّا يميّزه، ولماذا يحظى بهذه الأهميّة في المجتمعات الحديثة. وبعبارة أخرى، يجب النظر إلى الظاهرة العلمية في حدّ ذاتها، في نواتها الأساسية. إنّ ما يهمّ إذن، وفق هذا المنظور، هو محتوى العلم ومنهجه في نفس الوقت. فالعلم يوفّر بمحتواه ضربا من المعرفة بالواقع. ويسعى بمنهجه إلى التمكين من نموّ منظّم لهذه المعرفة، بل التحسين تدريجيا للوسائل التي تضمن هذا النموّ. وتقريبا فالطّابع الأكثر تمييزا للتمشي العلمي، هو تحديدا هذه القدرة على التقدّم التي تعرّف بنوع معيّن من النموّ. يتعلّق الأمر إذن بتمييز نمط المعرفة التي يوفّرها العلم وتحليل الديناميكا الداخلية لتمشّي العلم.

   إنّ العلم الحديث ذي صلة وثيقة بالسلطة على الأشياء وعلى الإنسان ذاته، ولهذا يبدو مرتبطا بالتكنولوجيا ارتباطا لا انفصام له. لكنّه ليس بأقلّ من تمشّ، غائيته الخاصّة والمباشرة هي توفير معارف تزداد اتساعا، دقيقة وموثوقة أكثر فأكثر.إنّ ما يجب محاولة ضبطه هو منزلة هذه المعارف، إذا ما كنّا نريد فهم لماذا تتّسع المعرفة العلمية وبصورة جدّ طبيعية إلى أن تصبح الآن مهارة تنتمي إلى دائرة التكنولوجيا. و يمكن أن نختصر القول، حتّى نخلص إلى ما هو أساسي، فنؤكد إنّ المعرفة العلميّة ليست من نمط تأمّلي ولا تأويلي ولا حتّى من نمط إجرائي.Opérationnel

     لقد كانت الفلسفة على أي حال، في بداياتها، بل حتّى في أزمنة قريبة منّا، وفي بعض أبرز تعبيراتها، منهجا يطرح على نفسه بلوغ الحكمة عن طريق المعرفة.إنّ شيئا من هذا التصوّر ما يزال قائما في بعض توجّهات الفلسفة المعاصرة. والفكرة الكامنة هي أنّه ثمّة وجهة نظر صائبة عن الوجود والعالم، وجهة نظر يمكن انطلاقا منها أن يتوافق الإنسان مع الكون في انسجام، لكنّ وجهة النظر هذه ليست مباشرة. إنّ الحياة المباشرة تنغمس في خصوصيات الهموم العرضية وتزدحم بصور خدّاعة، غير قادرة على فهم ذاتها، وتجهل وجهتها الخاّصة؛ وباختصار فهي تتميّز بالتّيه. إنّ الجهد من أجل ملائمة الوجود مع معناه الأصلي يتمثّل أساسا في التخلّص من الأوهام، بفضل نقد لاذع لكلّ أشكال الخطأ، والظفر برؤية للعالم والحياة. يُفهم الخطأ عامّة، بما هو التمسّك بوجهة نظر جزئية، وبما نتناوله مباشرة، و بالبداهات الأكثر عفوية، وفي المقابل تفهم الحقيقة بما هي وجهة النظر الشمولية. إنّ النظر إلى الأشياء في حقيقتها يعني تحديد منزلتها بالنسبة إلى الكلّ، الإمساك بتشابكها مع البنية الكونية التي تمثّل الجامع الأقصى، الذي يجب أن يُفهم كلّ شيء انطلاقا منه. فأن يرى المرء ذاته في حقيقتها، هو أن يدرك موقعه داخل روابط الكلّ، وهو فهم ذاته كلحظة في امتداد الحياة الكونية؛ لحظة، هي مع ذلك، ليست بالضّرورة بلا معنى، لكن دلالاتها الوضعيّة تتعلّق كلّيا بالمساهمة التي تقدّمها لهذا الاتساع وللخاصّة التي تتلقّاها.ومن هذا المنظور، فإنّ التحديدات التي تعترض الوجود    ضرورة والتي يمثّل اختبارها ألما، يعاد تأويلها إمّا كتغيّرات طارئة خاصّة تستمدّ معناها من تعلّقها بمصير يتجاوزها مطلقا، أو كآثار للوهم، ضحاياه هم بالضرورة أولئك الذين ظلّوا متمسّكين بعفويّة التجربة ومن ثمّ بفقرها بل لاتناسقها. توجد بالتأكيد، ضروب من الحكمة يكون المرور إلى الحياة الأصيلة بالنسبة إليها، هو قبل كلّ شيء مسألة ممارسة: إنّه بعمل متأنّ على الذات، وبتزهّد مطوّلّ، وبتوخّي مسلك طويل من الترفّع وإنكار الذات، نستطيع بلوغ حالة تحرّر يتعذّر مع ذلك التعبيرعنها. ولكن من منظور حكمة سبيلها المعرفة، والتي لعبت بالتأكيد دورا حاسما في نشأة الفلسفة الغربية وتطوّرها، لا يمكن لنا إدراك مصالحة حقيقية مع الحياة إلاّ بواسطة المعرفة. ووجهة النظر المطابقة لها هي تحديدا تلك التي يملكها فكر أضحى قادرا على إدراك الكليّ و فهم كيف تحتلّ جميع الكائنات وجميع الخصائص والحوادث موقعا فيه، وبالخصوص فهم كيف أنّ حياة ” الحكيم” تندرج ضمن هذا التنظيم الكوني لكلّ الأشياء الذي ينظر إليه بوصفه تناسقا وكمالا للمعقول، وأسمى تألّق للجمال. إنّ النظر إلى هذا الجمال يعني الانخراط فيه فعليا؛ الرؤية تغيير، هي تحويل وتحوّل في الآن نفسه، ابتعاد عن الرؤى الضيّقة والخاطئة والتلاؤم مع قانون الكلّ. إنّ الحياة على نهج الحكمة حياة سعيدة؛ بل إن نموذج الغبطة بامتياز هو عمل الفكر المتحكّم تماما في نفسه؛ ولبلوغ الحياة السعيدة على المرء أن يرتقي إلى معرفة هذا الفعل ويتعلّم النّظر إلى الكون ككلّ بوصفه متعلّقا به. إنّ الحكمة هي هذا الفكر وهي الانخراط في الفكر الخالص.

  من السّهل أن يؤدّي هذا التصوّر للمعرفة ، الذي هو بمعنى ما تصوّر تنشّطه رؤية عملية، بما أنّه معدّ لحالة يجب إدراكها في نهاية طريق نقطعه كليّة، طريقا يؤدّي بيسر إلى معرفة تأملّية.إنّ المبحث الملهم هنا ليس الحكمة بل النظرية. نحن دوما على صعيد المعرفة، وبأكثر دقّة نحن على صعيد معرفة بالشّمولية ولكن التعبير تغيّر: فما وقع إبرازه ليس هذه الحالة السعيدة التي يجب أن توفّر رؤية صائبة، ولكن الرؤية ذاتها، على اعتبارها بوجه ما قيمة في حدّ ذاتها، منفصلة عن كلّ منظور عملي، لا على صعيد أداتي، أي على صعيد المنافع المباشرة ، بل حتّى على صعيد هذا الفعل في الذات، ومنفصلة عن هذا التحوّل الداخلي الذي يجب أن يقود إلى الغبطة. ألا يتبقّى هنا بالتأكيد، بعض من هذا المنظور السّابق. ويظل التقابل قائما بين حياة غير أصيلة، سجينة الخطأ، أي مُبَاشَرّيَة الرؤى الجزئية ، وحياة أصيلة متعلّقة بالحقيقة. بيد أن الحقيقة هي كمال التجلّي، إنّها في الآن نفسه انكشاف العالم في أقصى مداه ونهاية الحركة المكتملة  لنموّه  في إثباته لذاته ، مثلما يظهر منذ أصوله حتّى النهايات الأكثر رقّة لازدهاره. هكذا تتبع الرؤية الحقّ العالم في اتساعه، تخطّ معه من جديد طريق نموّه وتفتّحه، ترافق حركة التجلّي منذ البداية إلى حدّ آخر تفرّعاتها. من هنا فهي ترتفع فوق كلّ شكل من أشكال الإدراك، سواء أكان على صعيد الحساسية، التخيّل أو الفكر، إدراكا يظل على سطح الأشياء الأكثر ظهورا، فلا يدرك، بموجب ذلك بالذات، إلاّ أجزاء من الواقع معزولة نسبيا.

    إنّ التوافق مع الحقيقة، أي مع اتّساع النّشأة الكونية ذاتها، هو صورة لحياة، هي حقاّ على صعيد السّيادة. ذلك أنّ الكائن البشري المفكّر، بارتقائه إلى فهم مطابق لكلّ ما يجمع كلّ الأشكال الخاصّة في وحدة انبجاس ضخم، والتحاقه بقوّة الأصلي ذاته، يتجاوز خصوصيته ذاتها، والتحديدات التي يخضع من خلالها لقوانين الطبيعة والحياة والتاريخ، كي يتوافق مع ما هو أصلا لكلّ القوانين وبالتالي ما وراء كلّ قانون وكلّ تحديد وكلّ تشريط. إنّ الأصلي هو بالضروريّ لا مشروط، ما لا يحيل إلاّ إلى ذاته، وإلى السرّ غير القابل للنفاذ لطاقته في التجلّي؛ ولا يمكن إلاّ أن يكون احتفاء بذاته، وتألقّه الذاتي في مجد لا مثيل له، مجد لا يزول. وليست النظريّة نظرة عقيمة لعالم يتسطّح فيه كلّ شيء، فلا يكون إلاّ شيئا آخر غير بريق يتبدّى للناظر، وليست تمرينا لا معنى له يُبقى كلّ شيء على حاله فلا يفعل غير أن يضاعف بؤس الحياة، تضعيفا غير نافع لانعكاس عقيم، إن النظرية هي الجهد الرائع” للّوغوس” في الإنسان من أجل الارتقاء بحياة عرضية، موكولة في الظّاهر إلى الأقدار وآيلة إلى الفناء، إلى شرط أسمى لحياة رفيعة هي التوافق التامّ مع ما يقيم في صميم التجلّي ذاته. إنّ فكرة التوافق مع الحقّ، أو الحقيقة بوصفها توافقا هي أبعد ما يكون عن استسلام للقوة الخارجية، إنّها في المقابل، لا تفعل غير التعبير عن مطلب ربّما كان مكوّنا للكائن البشري وهو بمثل أثر حياة الأصلي في هذا الكائن: حياة تتّجه، في صورة “لوغوس” ، إلى التحقّق في كلام يعبّر عن كلّ قوّتها ويستكمل في ذات الوقت حركة التجلّي. إنّ النظرية هي في ذات الوقت الفضاء، حيث تُستجمع القوى المكِوّنة والصّورة الأكثر وضوحا المؤّكدة لخاصّتها. إنّها في الآن نفسه انعكاس واستكمال الحركة الكونية للحقيقة، أي بلوغ الواقع الشامل ذاته في عظمة مجيئه المتواصل. تؤدّي فكرة النّظرية، المشتقّة بذاتها من فكرة الحكمة، إلى تصوّر هارمونيطيقي أو تأويلي للمعرفة. إنّ النظرية ضرب من التكرار للواقع المتمظهر. إنّها إعادة إنجاز للمراحل المكوّنة للتجلّي في فضاء الكلام. من هنا فإنّها تصير بذاتها تجلّ، ليس في معنى أنّها تمنح ذاتها للتأمّل بإنتاجها ذاتها واكتمالها فحسب، بل أيضا، وبشكل أكثر جوهرية، في معنى أنّها تكوّن اللحظة الأسمى للتجلّي. إنّها الدّعوى التي يُستجمع فيها ظهور الواقع في قوّة الكلام، والتي هي في الآن نفسه مكوِّن للظهور والحيّز الذي يمكن أن يتحقّق فيه، وهي في الآن نفسه اللّحظة النّهائية والشرط الأصلي.لأجل هذا فليست ( النظرية) مجرّد عرض وصفي، بل امتدادا لما يتمظهر، تجلّ لإفتراضي ما يزال ملفوفا فيما كان تمظهرا فحسب؛ و تكون قادرة، بالتحاقها بالمنبع في تمظهرها، الذي يجعل الناجع فيها مرئيّا، على التعبير عن كلّ ما فيه من قوّة وتضيف إذن إلى المرئيّ هذا النوع من الإشعاع اللاّمحدود الذي يكرّس اللانهائيّ.  وإذا كان بمقدورها ذلك، فبفضل المفهوم الذي ليس هو صورة فحسب، مضاعفة للظّاهر، بل القوة الديناميكيّة القادرة، في الظاهر، على مسك وجعل الحركة التي تحملها ظاهرة للعيان، و كلّ ما تصرّح به عندئذ، والحقيقة التي تساهم في إحداثها. إنّ النّظرية في شكلها النّهائي هي نسق، أي تشكّل مفهومي مكتمل، كلّ عناصره متكاملة، وتكشف بنيته ذاتها عن تناسق داخليّ وعمّا فيه من خاصيّة الإشباع(saturation). للنّسق قانون اشتغاله الخاص ومن خلاله يكشف عن قانون العالم وحقيقة الوجود. إنّه يتصرف على طريقة كاشف لا كمرآة. غير أنّ هذا بالتحديد ما يميّز التأويل. فالخطاب الهارمونيطيقي ليس وصفا، بل ضربا من إعادة الخلق؛ فهو لا يتعلّق بالظّاهر، بغية ترميم نسيج السّطح فيه، إنّما يهدف إلى كشف ما فيه من معنى. إلاّ أن المعنى لا يتجلّى بوصفه موضوعا ولا نسقا من الموضوعات، بل بما هو ذاك العنصر غير الملموس الذي يمرّ عبر كلّ الموضوعات وكلّ الأنساق ويصلها بالحركة الكونيّة للبيان أو التجلّي. إنّ هذه الحركة هي إشعاع الأصليّ l’originaire؛ تُعيد المرئيّ إلى منبعه وتقوده دوما نحو الآفاق الأكثر اتساعا التي لن يقوم إلاّ بالتّصريح بها. إنّ جعل المعنى ظاهرا، هو إغراق المظاهر المستقرّة للعالم من جديد في صيرورة التّجلّي هذه. ولا يمكن لخطاب أن يبلغ ذلك، إلاّ إذا جعل من نفسه صيرورة. إنّ حركة التأويل، هي بالتحديد هذا المسار للخطاب الذي، بانبناءه على المقتضيات الخاصّة للمفهوم، يُحْدِث تدريجيّا، في التسلسل المنطقي للحظاته بالذات، وفي نسقيّة هندسته الشاملة، معنى يتمظهر فيه ويحتفل بعمق الواقع ذاته.  

      لا يمكن أن ننكر أنّ الخطاب العلمي يحتفظ ببعض من هذه الإلهامات. بل قد يستمدّ منها أكثر خاصيّاته الخفية، ولعلّه اندمج في العمل وتأوّل ذاته كعمل بضرب من الانزياح فحسب. ومن المحتمل أنّه يوم لا يضحى العلم شيئا آخر غير “فعل”، يوم يكون قد فقد كلّ صلة له بأصوله التأمّلية، ويكون قد نضب تماما، فإنّه يتبقّى فيه ، ولو بصورة مرئية، شيئا من الفكرة القديمة لمعرفة منقذة، لمعرفة يجب أن تحرّرنا من الأوهام، من الاعتقادات الخاطئة وسذاجات الطفولة؛ وحتّى لو كان كلّ شيء يفسّر بقوانين، وإذا كنّا لا نقدر على التفكير في تجنّب لعبة الحتميات المختلفة، فسنصل إلى شكل أسمى من الوجود، بمعرفة الآليات التي نخضع لها. نعثر هنا على فكرة الحريّة التي تتضمّن الضّرورة. ويظلّ في العلم الحديث أيضا، وبأكثر بداهة شيئا من فكرة النظرية. لا يتعلّق الأمر بالتأكيد، بمعرفة بالكلّ. إنّه على حساب تجزئة للواقع، و تجزئة اصطناعية أحيانا، ننجح في اكتشاف الألغاز. لكن العلم ليس على أيّ حال من الأحوال، حتّى فيما يتعلّق بقطاع مخصوص من التجربة، مجموعة من المعطيات المجزّأة. إنّه يعبّر عن نفسه في أنساق مفهومية خاضعة بالتأكيد لشروط ملائمة للتّطابق مع الواقع الظّاهراتي، لكن لها انسجامها وإنتاجها الخاص، و مع ذلك نطالبها بالذهاب إلى أبعد ممّا هو معطى بباسطة، بتوفير أداة تحرّر قادر على توجيه البحث، وتحسّس الظّواهر التي نطلب اكتشافها، والتحديد مسبقا بوجه من الوجوه موضوع الاكتشاف فعليا. من هنا، يملك العلم بلا ريب طابعا تأويليا. وليست النظرية بما هي جزئية، مجرّد خلاصة لنتائج الملاحظة، ولا حتّى مجرّد تأليف لتعميمات خبريّة، إنّها خطاب يحاول، على طريقته، إعادة بناء اشتغال المجموع في قطاع معيّن من الواقع، وتقريبا إعادة حياته الخفيّة، على الأقلّ بطريقة حدسية، والوقوف على المبادئ المكوّنة له، وبذل جهد إذن لتمديد المرئي إلى كلّ توسيعاته الممكنة، وباختصار الكشف مسبقا عن أيّ من الاتجاهات تسلك حركة التجلّي. وبالارتكاز على ما تمظهر، يحاول (هذا الخطاب) أن يكشف فيه لا فقط الانسجام، بل أيضا، وربّما بالذاّت كلّ ما يُعلنه، كلّ هذا القسم من اللامرئي الذي ليس ظاهره في الجملة، سوى بروزا للجزئي.

    وإذا صحّ أنّ العلم يواصل التجذّر في هذه الأشكال المؤسسة للمعرفة، فإنّه مع ذلك قد ظفر بأصالته، بالتخلّص بطريقة واعية من الأنماط التأمّلية المحض أو التأويلية للمعرفة وبإنشاء تمشيّات خاصّة لاكتساب المعارف. وكما أشرنا سابقا، فإنّ مركز هذه التمشيّات، هو فكرة الإجراء opération . يوجد في التمشّي العلمي إجمالا، مكوّنين أساسيين: البرهنة والتجربة. هكذا الشأن على الأقلّ بالنسبة إلى العلوم التي يمكن نعتها بالتجريبية. بينما الأمر خلاف ذلك بالنسبة إلى العلوم الصورية المحض، المنطق والرياضيات ، حيث المكوّن التجريبي غائب، ويمكن تمييزها بكونها تبني مجال بحثها بقدر استكشافها له. بيد أنّنا لا نأخذ هنا بعين الاعتبار العلوم الصوريّة إلا بقدر ما تقدّمه من إسهام، حاسم والحقّ يقال، في مجال العلوم التجريبية. ويمكن أن نبسّط تمشيات هذه العلوم كما يلي: أن يوجد مجال بحث محدّد نسبيا، مع شيء من التعوّد نحصّله من علاقتنا بهذا المجال، وأن نصوغ بشأنه فرضيات معيّنة، يفترض أنّها تمثّل الانتظامات الأكثر تعميما التي تتحكّم في عمل هذا المجال المذكور. تعبّر هذه الفرضيات عن نفسها في صورة قضايا عامّة يمكن انطلاقا منها إجراء استنتاجات تقود إلى قضايا أخرى في درجة من التعميم مساوية لسابقاتها أو تفوق. والمجموع الافتراضي للقضايا الذي يمكن الحصول عليه إذن انطلاقا من الفرضيات التي نتبناها يشكّل نظريّة.

     وبالرغم من كون هذا ممكنا، فإنّنا نبذل جهدا في صياغة الفرضيات بواسطة التمثّلات الرياضّية، وهو ما يشكّل ميزة لا يرقى إليها الشكّ، إذ تمنح الرياضيات تنوّعا جدّ غنيّ من البنى المجرّدة، خصائصها جدّ معروفة (نسبيا)، وتمنح كثيرا من حقول التمثّل يمكن أن نبني داخلها نظائر صورية  للأعمال التي نريد تمييزها. إنّ جزءا كبيرا من الفيزياء مؤسّس إذن على استعمال نظرية رياضية معروفة جدّا بالخصوص، نظرية الدوالّ ذات المتغيّرات الحقيقية. وما سمح باللّجوء إلى نظرية الدوالّ، هو أنّ الوحدات(grandeurs) المحتفظ بها لتحليل الظواهر المدروسة ( مثل السرعة، الطاقة، الحرارة، الخ.)أمكن لها أن تقترن بإجراءات قيس، أي في النهاية بأعداد حقيقية. حينئذ، فقد أشير إلى كلّ شيء بتمثّل التّرابط بين هذه الوحدات بواسطة دوالّ متغيّرات حقيقية. وبوجه عام، فإنّ تحليل وضعية واقعيّة، أو بالتحديد تحليل نمط معطى لوضعية ( مثلا سلوك جسم خاضع لقوّة ارتداد  force rappel أو قوةّ مركزية force central  أو شيوع الحرارة في وسط متّصل milieu continu، أو نشر موجة diffusion d’ une onde  )، لا يؤدّي إلى تمييز مباشر للدالّة الممثّلة ( التي تمكّن من مفتاح الترابطات المدروسة) ، بل إلى علاقة تدمج تغيّر هذه الدالّة في الزمن. يعبّر عن مثل هذه العلاقة بمعادلة تفاضلية équation différentielle وقد يسمح حلّ هذه المعادلة، التي هي مشكل رياضي خالص، بتحديد الدالّة التي نبحث عنها، وانطلاقا من هذا، سيكون من اليسير تقديم تأويل فيزيائي للحلّ في صيغة الحركة والتفاعلات الماديّة. فعلى سبيل المثال، دراسة سلوك جسم خاضع لقوة ارتدادrappel تسمح بمعادلة حلّها دالة تواتريّةfonction périodique، أي دالّة تستعيد نفس القيمة بالنسبة إلى الإحداثية. تمثّل هذه الدالّة فعلا، في جنس المشكل المدروس، موقع الجسم بالنسبة إلى إحداثية ثابتة. إنّ الطابع الدوري للدّالة الحلّ تؤوّل بطريقة جدّ مباشرة كمطابق لحركة دورية: والجسم المعني هنا يتذبذب بطريقة منتظمة حول موقع متوازن. وسيكون هذا مثلا، حال جسم معلّق على نابض ressort ( يمكن إهمال معدّل الصلابة fonction de rigidité ) والذي حوّل من وضع انطلاق position initiale  في لحظة معيّنة.

     إنّ ما يمكن أن نجريه من تحاليل بواسطة نظرية الدوالّ يصطبغ بطابع كمّي، في معنى أنّها تحاليل تسمح بالوصول إلى تحديدات رقميّة. ففي حال جسم مذبذب مثلا، يمكن توقّع ما يكون عليه وضع الجسم بالنسبة إلى إحداثية مختارة في لحظة معيّنة. لكن لابدّ من تأكيد الملاحظة بأنّ الرياضيات توفّر مصادر أخرى غير نظرية الدوالّ بالخصوص، مثلما بيّنته أعمال روني طوم، من كون الطوبولوجيا تمنح دائما آلية تسمح على نحو دقيق، بتحليل الظواهر المتّصلة بالشكل، مثل التوازن البنيوي أو التحوّلات المورفولوجية. ليست المقاربة الرياضية إذن، بالضرورة كميّة؛ يمكن أن تكون تماما كيفية ، و من غير اليقيني أنّ التحليل الكمّي يؤدّي إلى أهمّ النّتائج. وليس إدماج الحساب، أي إمكانية التحديد الرقمي  أساسيا في استعمال التمثل الرياضي، بل الأساسي، لو استعرنا عبارة لكانط، “بناء المفاهيم”. فالتمثل الرياضي يطابق مع ما ليس إلاّ محمولا، فيه يعطى تحديد مجرّد بصفة كلية ( مثل الحركة والدورية والتناظر،الخ)، كيانا صوريا سلوكه معلوم، أو في كلّ الحالات قابل للتحليل، بطريقة مفصّلة، لسبب وجيه هو أنّ هذا الكيان مبنيّ وفق إجراءات محدّدة تضفي عليه تمييزا دقيقا وحصريا، إجراءات هي بذاتها غير قابلة دوما، مبدئيا ، للتفكيك إلى عمليات أوليّة خصائصها واضحة تماما.

    وبناء على ما قيل، فإنّ جسما من القضايا لا يجب أن يرتبط بالضرورة بتمثّل رياضي حتّى يشكّل نظرية. يمكن ببساطة أن نساند القول بانّ للعلم ميل إلى اللجوء، قدر الإمكان، إلى مثل هذا التمثّل لأنّه يوفّر إمكانيات اختصار شديد التنوّع وأنّه أكثر ملائمة من أيّ شيء آخر لمراقبة دقيقة للعمليات المنجزة. وعلى أيّ حال، فإنّ تجسيد نظرية يدمج عمليات منطقية، لها بذاتها طابعا صوريا، يمكننا عند الاقتضاء تمثّلها بواسطة ألغوريتمات، كما هو شأن البناءات الرياضية بالضبط. ( إنّ التمييز بين المنطق والرياضيات يطرح مع ذلك مشكلا عويصا. فلم يعد من الممكن اليوم مساندة الأطروحة المنطقوية logiciste، التي يمكن وفقا لها أن تردّ الرياضيات مبدئيا وبصفة كلية إلى المنطق. غير أن النظريات المنطقية كما النظريات الرياضية لها قاسم مشترك هو ما تختصّ به من قدرة على التعبير عن ذاتها في إطار ما نسمّيه الأنساق الصوريّة. ولو بسّطنا الأمر قليلا، أمكن لنا القول بأنّ نسقا صوريا هو عُدّة تسمح بتوليد جسم من القضايا بصورة منظّمة، دون تدخّل تأويلات يمكن أن ترتبط عرضيا بهذه القضايا، وبالتالي لا ننظر إليها إلاّ من جهة صورتها.) يجب على النظرية على الأقلّ توفير إطار يسمح بالقيام باستدلالات متّصلة بالمجال المدروس؛ تسمح مثلا بتوقّعات عمّا يمكن أن ننتظره في هذه الحالة أو تلك. إنّها إذن فضاء لعمليات منطقية. ثّم، إنّها في أكثر الحالات ملائمة، تقدّم محتواها ذاته في شكل آخر يستمدّ كلّ معقوليته من طبيعته الإجرائية.

    إلاّ أنّ النظريّة لا يمكن أن  تقدّم الخدمات الموكولة لها إلاّ إذا ارتبطت بالتجربة. إنّ هذا اللفظ لا يعني، في سياق العلم، مجرّد اتصال بالعالم الواقعي،اتصالا من قبيل الإدراك، بل تدخّلا ذي طابع نسقي في مجرى الأحداث. فتجربة علميّة ما بحصر المعنى، هي إجراء يتمثّل في إظهار أثر محدّد، قابل للكشف والتحليل، في ظروف أعدّت وفق خطّة محدّدة في علاقة بفرضيات معيّنة متّصلة بالآثار المحتملة. والحالة النموذجية للتجربة هي المتمثّلة في إظهار ارتباط وظيفي بين الوحدات المتغيرة grandeurs variables . وإذا كان لنا موجبات للاعتقاد، بمقتضى فرضيات معيّنة، بأن وحدة معيّنة “ب” مرتبطة بآخرى “أ”، في نسق معطى يمكن له أن يحتمل عموما وحدات أخرى، وإذا ما كانت لنا رغبة في تدقيق طبيعة العلاقة بين هذه الوحدات “أ” و “ب”، تدبّرنا الأمر على نحو نغيّر فيه بطريقة نسقية الوحدة “أ”، مع الاحتفاظ بالوحدات الأخرى ثابتة أو في كلّ الحالات تحييدها، فنلاحظ أيّ قيمة تأخذها الوحدة ” ب ” بالنسبة إلى كلّ من القيم التي تأخذها الوحدة “أ “. يمكننا إذن، على قاعدة المعطيات الرقميّة التي تحصّلنا عليها، أن نجد من خلال التعديل، الدّالة التي تمثّل بصورة أفضل العلاقة المدروسة.

    غالبا ما نقرن فكرة التجربة بفكرة اضطراب ندخله على نسق بصورة خاضعة للرقابة ( كما في الحالة المذكورة، حيث نغيّر إراديا حجما معيّنا)، فنقابل إذن التجربة بمجرّد الملاحظة (حيث لا يوجد اضطراب للنسق المدروس). غير أنّ التمييز الذي سقناه للتجربة ينسحب أيضا على الملاحظة. فليست الملاحظة العلمية لنسق (واقعي) تسجيلَ ما يقع في النسق بطريقة سلبية، إنّها إعداد عدّة يصير بفضلها ممكنا جمع معلومات عن نوع معطى، منتقى بعناية، صادرة عن نسق.( وهكذا، إذا ما لاحظنا طيف الضوء المنبعث من نجم، فلا ندخل مباشرة تحويرا في النجم، ولكنّنا نتدبّر الأمر كي نحدث تفاعلا لجزء – صغير جدّا بالنسبة إلى البقية – من الضوء المنبعث من هذا النجم بواسطة جهاز رؤية  معقّد نسبيا نعرف خصائصه وله طبيعة تماثل تلك التي تخوّل لنا إذن التأويل من غير لبس لنتائج التفاعل المثارة ).

     إنّ الأساسي في التجربة ليس بالطبع تسجيل المعطيات، بل كلّ ما يسبقها وكلّ ما يلحقها. و يجب، قبل الحصول على نتائج، أن نقوم بما نسمّيه” إعدادا”، أي أن نخضع في الجملة النسق المدروس لبعض الإكراهات، أهمّها يتمثّل في أن نقرنه بأنساق اصطناعية، سلوكها معروف تماما وبالإمكان التأثير عليها بطريقة ناجعة تماما، مع علمنا في كلّ لحظة بأثر العمل الذي نجريه على حالة النسق. يصحّ هذا كما رأينا، حتّى في حالة الملاحظة البسيطة، بما أن كلّ ملاحظة تفترض إطارا مسبقا وتدخّل الأجهزة. (يمكن على الأكثر، الإقرار بأن ّ هناك ملاحظات بدون أجهزة، لكن يجب أن نعتبر إذن أنّ أعضاء الحواسّ، و بالأساس العينين، تلعب دور الجهاز). ومن جهة أخرى، حالما تكون الآثار قد سجّلت، يجب، قبل الوصول إلى نتيجة ذات معنى، أن يقع التأليف بينها ونقد التجربة على نحو نستبعد فيه- قدر الإمكان – دور “أخطاء الملاحظ”، وأخيرا تأويل المعطيات الأوليةّ المتحصّل عليها ( التي يعبّر عنها في شكل منحنيات، وسلاسل إحصائية أو في جداول ارتباط ،الخ.) بطريقة نستخرج منها معطيات قابلة للاستعمال على قاعدة ما نملك من أفكار نظرية ” لفهم” الظاهرة المدروسة. فعلى سبيل المثال، إذا كانت التجربة مستوحاة من فرضية معيّنة، يجب أن تؤوّل المعطيات في بيانات يمكن أن تقارن مباشرة مع هذه الفرضية، مثلا في شكل بيان معادل أو متوافق أو غير متوافق مع هذه الفرضية. إنّ التمشي العلمي كما التمشي النظري يمكن تحليله في صورة إجراءات. ويتعلّق الأمر هنا في جانب منه بإجراءات ماديّة (تركيب أجهزة تسجيل، إعداد لنسق مدروس، وضع تفاعلات، توثيق آلي أو غير آلي للمعطيات) وفي جانب بعملية ذات طابع ذهني، تدمج أشكالا مختلفة من الاستدلالات(حذف الأخطاء، توافق المنحيات للمعطيات المتحصّل عليها، معالجة إحصائية لهذه المعطيات، تمشي استقرائي واستنتاجي ضروري للحصول على معطيات ذات دلالة، قابلة للاستعمال على مستوى نقاش نظري حول مدى التجربة التي تباشر).

   يتكوّن التمشي العلمي من مراوحة دائمة بين اللحظة النظرية واللحظة التجريبية. وتطرح الفرضيات التي تقوم عليها نظرية مقبولة في لحظة معيّنة، أوفي الغالب، بعض القضايا الأكثر خصوصية التي نستنتجها منها، مباشرة تجارب، مثلا، قصد ملاحظة ما إذا كان أثرا ننتظره على أساس النظرية، ينتج فعلا حينما تتحقّق شروطه المطلوبة. تحمل التّجربة معها إمّا تصديقا أو تكذيبا للفرضيات المستعملة. وفي حالة تصديق هذه الفرضيات يمكن الاستمرار في استعمالها لاقتراح تجارب جديدة. وفي خلاف ذلك يجب تحويرها تقريبا بطريقة جوهريّة. وستكون التجربة غالبا- ودون أن تكون لوحدها، إذ هناك عناصر نظام نظري تحديدا، مثل مبادئ اللاتغير أو اعتبارات المماثلة، تدخل أيضا في الحسبان- هي التي تقترح أفكارا جديدة تسمح بصياغة الفرضيات الأكثر ملائمة. و مع ذلك، فليس هذا سوى صورة مختزلة جدا. وفي العموم، فإنّ المواجهة بين نظرية تجربة لا يسمح بتدخّل نظرية واحدة. فتأويل النتائج الأوليّة للتجربة يتطلّب أحيانا تدخّل أفكار نظرية متنوّعة. وتبعا لذلك، فإنّ التحقّق من نظريّة ” أ ” بواسطة تجربة ” ب” لا يمكن أن يحدث عموما إلاّ بفضل اختبار مقترن بنظريات عديدة أخرى، يجب اعتبارها بالطبع مقبولة في تلك اللحظة.

    ومهما يكن، يمكن تمييز التمشي العلمي، إن من جهة الإنشاء والاستعمال والتحقّق من النظريات أو من جهة الإجراءات التجريبية، بفكرة الإجراء. من المهمّ تمييز هذه الفكرة بصورة مناسبة، لإبراز ما يخصّ المعرفة العلمية. فأول سمة واضحة جدّا للإجراء كونه فعل تحوّل. وأبسط صورة للإجراء هي ما يمنحه نمط اشتغال ما نسمّيه ” عامل حسابي”opérateur في الرياضيات أو في المنطق. إذا كان ” أ” عاملا : فهذا الشيء يتميّز بالطريقة التي يمكن أن يغيّر بها كيانا من نمط معيّن إلى كيان آخر من نمط محدّد. فعلى سبيل المثال، تميّز عامل التعاكس في المنطق بالطريقة التي يحوّل بها زوجا من الموضوعات (من طبيعة ما) معطاة في ترتيب معيّن، إلى زوج آخر من نفس الموضوعات، ولكن معطى هذه المرّة في ترتيب مقابل للسابق: أ( ق ب)= (ب ق).

   السمة الثانية للإجراء، كونه من طبيعة صوريّة. وهذا يعني أن الخصائص التي تعرّفه مستقلّة عن الطبيعة الخاصّة للموضوعات التي يطبّق عليها.إنّ ما يهمّ هو شكل العمل، لا مادّته. والموضوعات التي تدخل في تعريف العامل لا تلعب أيّ دور، إنّها موجودة ببساطة لتشير إلى كيفية تطبيق العامل. وفضلا عن ذلك يمكن بالفعل ملاحظتها بواسطة متغيّرات تبقى دلالتها غير محدّدة تماما. يمكننا إذن تعريف عامل التعاكسopérateur d’inversion  كما يلي: أ(س ج)= (ج س). والشيء الوحيد المهمّ، وجود مسألة زوج موضوعات وأنّ هناك تعاكس للترتيب. يمكن تلخيص هذا بالقول بأنّ العامل يعرّف فحسب بواسطة خصائصه الصوريّة.

    سمة ثالثة للإجراء، كونه قابلا أن يكون مبحثا thématisable، أي يمكن أن يكون بذاته موضوعا وأن يُصنّف ربّما ضمن عملية ذات مستوى أعلى. يمكن لكلّ عاملopérateur أن يصبح عند الاقتضاء حجّة لعامل آخر في مستوى ملائم. ويمكن إذن لعامل التعاكس المذكور آنفا أن يعتبر ضمن حقل اشتغال عامل تناسق opérateur de combinaison، جامعا، وفق نظام محدّد اثنين أو عديد العوامل. وبوجه عام لا يوجد ضمن مجال العمليات مستوى أسمى قد يكون مكوّنا من عمليات ذات مستوى أقصى. فالإجراء كيان قابل أن يكون موضوعا ،  وقد يكون دوما خاضعا بدوره لإجراءات أخرى، لأنّه تحديدا ذي طبيعة صوريّة.

    سمة رابعة للإجراء كونه قابلا للتعميم. يمكن تمثّل الإجراء كما رأينا، بواسطة مخطّط مجرّد يدلّ على كيفية إنتاجه لأثره. بيد أنّ هذا المخطّط، هو مبدئيا، قابل دوما أن يستعاد في مخطّط أشمل، موافقا لهذه الخاصية الصوريّة أو تلك، خاصية الإجراء المقصود. فالعمليات الحسابية مثلا من جمع وضرب لها خاصيّة بارزة هي العودية أو التكرارية récursivité. يمكننا دائما إنجاز هذه العمليات بالبدء بتدرّج وبأن لا نجري في كل مرحلة سوى عملية جزئية تماما (يمكننا على سبيل المثال إضافة 3 ل 2 بإضافة 1 ل2، ثلاثة مرات متتالية). لكن كثيرا من العمليّات لها نفس هذه الخاصيّة. ومن الممكن تمييزها بواسطة رسم عام يدلّ على كيفية اشتغال عملية تكرارية فيبرز هكذا بوضوح ما في فكرة التمشي من أساسي يتحقّق “خطوة خطوة”.

   وأخيرا للإجراء خاصيّة خامسة، كونه ليس بالمرّة كيانا معزولا بل يندرج ضمن شبكة إجرائية، شبكة يمكن لها مع ذلك أن تمتدّ تدريجيا بقدر إنجاز تعميمات جديدة. وما يجعل العمليات متعاضدة إذن مع بعضها بعضا هو خاصيّتها الصوريّة. فبقدر ما ننجح في تشييد نظرية الخصائص الصوريّة لمجموعة عمليات ذات الصلة (كالتي للعمليات التكرارية مثلا)، نبرز بوضوح بطريقة موضوعية، ما لهذه العمليات من خصائص مشتركة ونكون بذلك في مستوى فهم لماذا تبدو متصلة.لكن، مادام التعميم يمكن مبدئيا أن يستمرّ دون حدّ، فإنّ إبراز الشبكة التي تندرج ضمنها فعلا مُختلف العمليات الممكنة يمكن، مبدئيا، أن يمتدّ إلى مجالات لهذه الشبكة أكثر فأكثر اتساعا. 

   وفي أقصى حدّ، يجب أن تكون لنا القدرة على توقّع تمييز لكلّ المجال الإجرائي كما هو. ولكن من المحتمل جدّا أن لا نكون هنا سوى أمام فكرة قصوى، إذ أنّ تمييزا صوريا لكلّ المجال الإجرائي يجب أن يشرك بعض العمليات. وقد تصير هذه العمليات قابلة لأن تكون موضوعا ويمكن لها أن تميّز بدورها برسوم إجرائية على مستوى أعلى، وهلمّ جرا. ولكي نصل إلى خاتمة، علينا أن نقدر على تمييز المجال الإجرائي باستخدامنا فحسب لعمليات تنتمي بعدُ إلى المجال ذاته. ولكن بالنظر إلى ما نعرفه من إمكانيات التمثّل للخصائص في نسق صوري، فإنّ احتمال إمكان تحقيق هذا التمييز ضعيف جدا. نحن محمولون إذن على أن نتمثّل بأنفسنا مجال الإجرائي كما هو، بوصفه نوعا من الأفق لانتماء مشترك co-appartenance  تندرج ضمنه الشبكات الجزئية التي صارت موضوعا والتي وقع تمثّلها صوريا في مستوى ملائم من التعميم ( شأن الشبكة الجزئية التي كوّنتها العمليات التكرارية).

   بيد أن الواقع ليس قابلا دفعة واحدة لمثل هذا الفهم؛ فلا يمكن المرور مباشرة من الإدراك وممّا يقترن به من سلوك عملي تلقائي، إلى بناء نظري وممارسة تجريبية. لابدّ من وسيط، هو النموذج. ودون الدخول هنا في المشكلات المعقّدة شيئا ما والمرتبطة بتدخّل النماذج في العلم، فقد نقول بأنّ نموذجا ما هو بناء ذهني مجرّد يفترض أن يوفّر مقاربة مبسّطة approximation schématique  ومأمثلة idéalisée للمجال العيني الذي نهتم به وتكون بنيته بسيطة بما فيه الكفاية بحيث يمكن وصفها بما لدينا من رصيد مفهومي. إن النمط البارادغماتي للنموذج هو النسق : إنّه، على أيّ حال، نوع النموذج المؤهّل بشكل أفضل للتحليل بعبارات جبرية (مع ذلك ليس بالضرورة في شكل كميّ, كما سبق أن أكدنا).  إنّ النسق كيان مثالي يملك غالبا بنية داخلية معيّنة، يمكن وصفها ببعض الخصائص المحدّدة، متغيّر في الغالب عبر الزمن وله قابلية أن يجد نفسه، في كلّ لحظة، في حالة قابلة مبدئيا للتحليل تماما. وقد تكون أبسط حالة لهذا، حالة نسق دون بنية داخلية ( أو على كلّ حال نسق لن يقع تحليل بنيته ). فهو مميّز إذن بخصائصه الشموليّة (هكذا قد يتميّز غاز بحرارته وضغطه). وفي العموم، ليست خصائصه ثابتة، و يمكن أن توجد في مراحل مختلفة أو تأخذ، في حالة كونها كميّة ( أي مرتبطة بدالّة قيس) قيما رقمية مختلفة. وتكون حالة النسق في لحظة معيّنة مثبّتة بالمراحل التي توجد فيها مميّزاتها الخاصّة، أو بما تأخذه من قيم رقميّة في تلك اللحظة.  إذا كان للنسق بنية داخلية، وعلى أيّ حال، إذا أخذنا بعين الاعتبار بنيته، اعتبرناه غير قابل للقسمة إلى عدد معين من المكوّنات، التي  لها قابلية أن تماثل بمجموعات صغرى والتي يفترض إذن أن يكون لها في كلّ لحظة حالة محدّدة. و ترتبط هذه المكوّنات فيما بينها بتفاعلات ما، و مجموع هذه الروابط هو ما يمثّل بنية النسق. ويمكن بالطبع لهذه البنية أن تتغيّر إذا ما تبدلت التفاعلات بين المكوّنات. تتحدّد حالة النسق في لحظة معطاة إذن، وفي ذات الوقت، بحالات المجموعات الصغرى المكونة له في تلك اللحظة وبشكل الروابط بين المكوّنات في تلك اللحظة ذاتها.

     إنّ الهدف الذي نرسمه لأنفسنا في دراسة هذا النسق، هو تحديد كيف يتطوّر عبر الزمن. ومن أجل هذا علينا الاستناد إلى قانون تطوّر. وغالبا ما يعبّر عن مثل هذا القانون بصورة تفاضلية : تشير إلى كيفيّة مرور النّسق من الحالة التي يكون عليها في لحظة ما، إلى الحالة التي يوجد عليها في لحظة مجاورة نهائيا للسّابقة. وحينما يكون لنا قانون تفاضليّ، يمكن مبدئيّا، انطلاقا من حالة معطاة، توقّع واستعادة توقّع كل حالات النسق في لحظات ما. يكون لنا إذن معرفة مبدئيا تامّة بكلّ تاريخ( في المتناول) النّسق.

    إنّ  مثالا بسيطا جدّا يتوفّر لنا في الحالة المشار إليها آنفا، حالة جسم مشدود إلى نابض(ressort). ويمكن وصف النموذج المبني لتحليل مثل هذا النوع من الجهاز كما يلي: إنّ نقطة مادية، أي كيان له كتلة ثابتة ومختزل في نقطة، خاضع مباشرة لقوّة مرتدّة de rappel  forceمناسبة طردا لمسافته بالنسبة إلى إحداثية ثابتة.( هذه المسافة توافق تمدّد أو تقبّضraccourcissementالنابض). تتميز حالة النسق في لحظة معيّنة بموقعه وسرعته في تلك اللحظة. إنّ قانون التطوّر هو ببساطة القانون الأساسي للديناميكا: القوّة التي تسلّط على النسق تساوي حاصل الكتلة بالتّسارع. وبما أنّ هذه القوّة معطاة بالمشتق الثاني dériveé seconde بالنسبة إلى الزمن، من المسافة إلى الإحداثية الثابتة، فنحن إزاء قانون تفاضل différentielle. انطلاقا منه يمكن أن نثبت بسهولة أنّ حركة النسق متواترة  périodique كما يمكننا التوقّع والتوقّع بشكل رجعي بكل حالاته.

   نلاحظ جيّدا أن هذا النموذج هو تأمثل idéalisation. ففي الواقع حركة جسم مشدود إلى نابض تسكن تدريجيا، خلافا لحركة النموذج. ويمكننا، مع ذلك أن ننشأ نموذجا أقرب للواقع بإدماج قوّة أكثر تعقيد، تحتوي عامل تبديد للقوّة.

   إنّ النظرية هي في الواقع وصف للنموذج. وما تحويه من قضايا افتراضية تميّز، إن وجدت، بنية النموذج، أو تمنحه على كلّ حال، قانون تطوّره. يجب إذن على تحليل تامّ لنظرية، أن يتضمّن بالضرورة معطى النموذج الضّمني، ولابدّ أن تؤوّل( بالمعنى الدلالي للكلمة ) عبارات النظرية في علاقة بخصائص النموذج. و حينما نتحدّث عن فرضيّة، فنحن نستهدف في ذات الوقت القضايا الأولية للنظرية والنموذج المرتبط بها. ( ولابدّ أن نأخذ هنا بعين الاعتبار أنّه يمكن لنظرية أن ترتبط في العموم بنماذج عدّة، بمعنى بعدد كبير من النماذج؛ غير أنّه في الواقع، في اللحظة التي ننشأ فيها نظريّة، يوجّههنا نموذج محدّد، معدّ سلفا). إنّ النموذج موضوع مركّب، من طبيعة مثالية، يعتبر(على نحو مؤقّت على الأقل) بمثابة تمثّل مبسّط مقبول لنوع الموضوع المدروس. إنّ النظريةّ جسم من القضايا تصف خصائص النموذج وتسمح بالقيام باستدلالات في شانه، بتوقّع سلوكه المستقبلي مثلا، أو بكيفية تفاعله إذا ما غيّرنا بنيته على هذه الصورة أو تلك.

   ولا ترتبط النظريّة بالتجربة إلاّ بواسطة النموذج، على أنّ تجرى التجربة بالتأكيد، لا في مجال مثالي، بل في الواقع العيني. وهذا يعني أنّه في التجربة، يُعالج الواقع المدروس فحسب، وفق الخصائص التي يكون من خلالها متهيّأ للتأويل الذي يمنحه النموذج. وبعبارة أخرى هناك نوعا من “الاختزال”بالضرورة يقوم به رجل العلم بالنسبة إلى عالم الإدراك والتصرّفات المعيشة.وهذا الاختزال يتحقّق فعلا من خلال ” الإعداد” الذي يمثّل المرحلة الأوليّة لمسار تجريبي.

   ففي حالة ملاحظة بسيطة. حينما نأخذ صورة فوتغرافية لشعاع نجم، فنحن لا نحتفظ من النجم سوى بخاصيته الوحيدة كونه مصدر ضوء و لا نأخذ بعين الاعتبار ما  ينبعث منه و ما يتقبّله من ضوء إلاّ من جهة مخصوصة جدّا، أي من حيث كونه قابلا للدخول في التفاعل مع جهاز بصري يحتوي مثلا على منظار وموشورprisme ولوحة فوتغرافية. هذه الطريقة في اعتبار الضوء المنبعث من النجم يوافق نموذجا معيّنا بنيناه انطلاقا من سلوك الإشعاعات الضوئية في حقول مختلفة.

   إنّ التجربة شكل من العمل، لكنّه عمل غير “طبيعي” بالمرّة لا تتحكّم فيه – على الأقلّ بصورة مباشرة – غايات حيوية أو تركيب حسّي – حركي فطري أو مكتسب أثناء الطفولة. إنّه عمل مبنيّ يستجيب لإشارات نمذجة مُسبَقة، موجّه في كلّ مرحلة من مراحله، بواسطة بيانات النظريّة التي تسمح بالاستدلال على النموذج المُلهم. وقد يحدث، بالطبع، أنّ لا تقدّم التجربة لنا نوع النتائج التي يمكن أن ننتظرها منها أو حتّى التي لا يمكن متابعتها، وأنّ الواقع قد يظهر في مجمله متمرّدا على المشروع الذي نخضعه له. إنّ هذا علامة على أنّ النموذج المستعمل غير صالح. فلابدّ إذن من تحويره جزئيا أو كليّا، و في أكثر الأحيان في اتجاه تعقيد أكبر.

  والنقطة الرئيسية في كلّ هذا، هو أنّ المقاربة العلمية للواقع يتحكّم فيها مسار النمذجة. ومثلما تبيّنّا، فبواسطة النموذج تلتحق النظريّة بالتجربة، و تقترح التدخّلات المفيدة التي قد تسمح بدعم أو حذف هذه الفرضية أو تلك، ومن هنا تنمية المعرفة. وفي المقابل، بواسطة النموذج كذلك يمكن للنتائج التجريبية أن تؤوّل في صيغ النظرية المستعملة، مثلا بقصد امتحان هذه النظرية. بيد أنّه يتحكم في بناء نموذج فهم مسبق معيّن للواقع المدروس، يؤثّر، على الأقّلّ بطريقة ضمنية في اختيار الخصائص المميّزة، وفي طريقة وصف البنية وفي طريقة تصوّر التفاعلات، وفي الفكرة التي نكوّنها عن قانون التطوّر. بل إنّ ما يقود مسار النمذجة ذاته، لو عمّقنا النظر ، هو ضرب من المعقولية الماقبلية ؛ فليس النموذج صورة مبسّطة للواقع المدرك، بل إنّه بناء يرتكز على ماقبلي ما، وحتّى إذا ما اقترحته جزئيا معلومات ماقبلية عن سلوك موضوعات واقعيّة، فإنّه يعيد تشكيل هذا السلوك انطلاقا من مقولاته الخاصّة. يتجلّى هذا بالخصوص في الحالة التي يتّخذ فيها النموذج شكل النسق. ففي فكرة النسق يوجد بالأساس تصوّر تحليلي ووظيفيّ، وبمعنى من المعاني حتميّ، لاشتغال الواقع. وهو تصوّر تحليلي، من حيث أنّنا نعتبر النسق قابل( احتمالا) للتّفكيك إلى أنساق صغرى وعلى أيّ حال قابل للتمييز بخصائص محدّدة بدقّة ومتميّزة تماما، لها بذاتها قابلية أن توجد في مراحل أو أن تأخذ قيما قابلة للعزل تماما. وهو تصوّر نفعيّ من حيث أنّنا نعتبر أنّ الروابط بين أجزاء النسق (في حال تحليل بنيته) يمكن أن توصف كتفاعلات وظيفيّة وأنّ الخصائص المميّزة مرتبطة بذاتها بروابط وظيفية. وأخيرا، هو تصوّر حتمي من حيث أنّنا نعتبر أنّ الحالات مرتبطة في الزمان بطريقة محدّدة تماما، وأنّ هذه العلاقة يمكن أن يعبّر عنها بروابط تقبل تحديدات رقميّة أو يمكنها أن تُحلّل فحسب بعبارات كيفية، تكفي لتمييز تحويرات مورفولوجية ذات دلالة. ولنلاحظ أنّ هذا ينسحب على أشكال الصورنة التوقّعية ذات الطابع الإحصائي.وحينما يكون نسق ما ذي طبيعة لا تقبل التحديد التامّ لكلّ الوحدات المميّزة للحالة، تكون إعادة صياغة مقولة الحالة بشكل مناسب، كافيا ليبقى الشكل الحتميّ صالحا: فتعرّف الحالة عندئذ كحاو لمجموع أقصى للمعلومات المتاحة حول النسق، مجموعا لا يكون من الممكن عامّة أن نستخلص منه قيما متفرّدة لخصائص النسق، بل قيما ممكنة فحسب، مع الإشارة إلى الاحتمالات الموافقة.

    يوجد في الفهم المسبق المنمذِج، أنطولوجيا ضمنية حقيقيّة، أي نظام تأويل للواقع يتعقّله في صورة كيانات لأنواع معطاة، متميّزة تحديدا بخصائص ضمنيّةّ ومتميّزة بتفاعلاتها.هذه الانطولوجيا مستوحاة بدورها على الأرجح وبقدر كبير، من الأنطولوجيات الصوريّة التي نجدها، إمّا كأساس للنظريات الرياضية، أو كأساس للنماذج المستعملة في المنطق لدراسة الخصائص الميتا- نظرية للأنساق الاستنتاجية. والنوع السائد والأكثر بساطة لهذه الأنطولوجيا الصورية هو ما نجده في نظرية المجموعاتthéorie des ensembles. يمثّل المجموع، حدسيا، حزمة من الموضوعات، فضلا عن كونها غير محدّدة، هي مميّزة بعلاقة انتماء: يوجد معنى للقول إنّ موضوعا ينتمي إلى مجموعة أولا ينتمي إليها. ويمكن أن ندمج في مجموع معطى خصائص وعلاقات دون أن نخرج عن الانطولوجيا الأساس: قد تتماثل الخاصيّة مع مجموعة صغرى sous-ensemble من المجموعة الأساسية (تتكون المجموعة الصغرى من أشياء لها هذه الخاصيّة) والعلاقة بين “n أشياء ” فيمكن أن نماهيها مع مجموعة صغرى من المجموعة المذكورة من “n أشياء مرتّبة ” من المجموعة الأساسية، حيث أنّ ” nأشياء” لها علاقة فيما بينها، يعني أنها ضمن هذه المجموعة الصغرى. ولكي يكون لنا وصف تامّ للأنطولوجيا المجموعاتية، يجب بالطبع تمييز الإجراءات التي بفضلها يمكن بناء مجموعات (مثلا، تكوين مجموع أجزاء لمجموع معطى، أو تكوين لمجموع أزواج منظمّة لموضوعات منتمية لمجموع معطى)، أو يجب التمييز أكسيوميا الخصائص التي تنتمي بالذات لما يمكن تسميته عالم المجموعات. هنا يكمن موضوع نظرية المجموعات، في أن تكون معروضة أكسيوميا أولا. ويمكن، على أساس الأنطولجيا المجموعاتية، بناء أنطولوجيات أكثر تركيبا، وذلك بإدماج، داخل المجموعات التي سبق بناءها، بنيات ملائمة متميّزة بخصائصها الصوريّة (بنيات نظام، ومجاورة، وتركيب، الخ.). إنّ تصوّر أنطولوجيا صوريّة ممكن، إمّا على مستوى نظرية المقولات الرياضية (حيث يضحى التلاؤم هو المفهوم الأساسي)، وإمّا على مستوى نظرية المنسّقات  théorie des combinateurs في المنطق (حيث يضحى المفهوم الأساسي هو مفهوم العامل opérateur). هناك شيء مميّز من الجهتين، فنحن نتّجه إلى تصوّر نستعيض به عن المقولة الحدسية ” للمجال الحصري للكيانات” بمقولة ذات طبيعة إجرائية صريحة ليست للكيانات التي نشتغل عليها أيّ قيمة حقيقية بالنسبة إليها.

   يمكن على أيّ حال، أن نفترض أنّه من حيث أنّ النمذجة تحاول الاستلهام من الانطولوجيات الصوريّة فإنّها تنسجم مع تمثّل رياضي، والبناءات الرياضية هي مؤسّسة بذاتها مباشرة على هذه الأنطولوجيات. ومن جهة أخرى، فإنّه، ومن حيث أنّ الأعمال المبنيّة، التي هي أساس التجريب، تميل إلى أن تنتظم بذاتها وفق وصفات أنطولوجيا صوريّة، وأن تتأقلم مع صياغة نسقيّة في صورة نماذج. غير أنّه يمكن أن نعتقد، أنّه بقدر ما تكون الأنطولوجيا الضمنيّة ذات طابع إجرائيّ، فإنّها توفّر إطارا لتبسيط ناجع للعمل. بمعنى أنّ العمل العلمي تمليه كليّة النماذج المستعملة و الأنطولوجيا الضمنيّة التي تقوم عليها، بحيث لا نفعل سوى أن نعثر من جديد، في مستوى إجراءت التدخّل الفعليّة، عمّا كان من قبل، على الأقلّ ضمنيّا، حاضرا في النموذج. و تكون النمذجة من هذه زاوية النظر، هي المحدّدة. ولكن، ربّما يجب القول بمعنى آخر، إنّ العمل ذاته هو الذي يجعل إجراء النمذجة ممكنا بل يقترح عليها الأنطولوجيا المناسبة. ولعلّه قد  نُقشت داخل بنية العمل ذاته، وبالتّحديد داخل بنية التفاعلات بين الجسم الإنساني والأجهزة الماديّة (الطبيعيّة والاصطناعيّة) التي يمكن أن تتزاوج معها، إمكانية التجزئة التحليلّية والترابط الوظيفي والعلاقة الحتميّة للحالات التي تبيّنا دورها في الفهم الماقبلي المُنمذِج. وعلى أيّ حال، فإنّ ما يميّز التمشّي العلمي هو بالتّحديد هذه الظاهرة اللافتة للنظر والمتمثّلة في تلاؤم متبادل، من جهة بين نسق تمثّلات يجسّد في النهاية أنطولوجيا تأويلية ذات توجّه جدّ صوري ( حينما لا تكون بشكل صريح ومانع)، و من جهة أخرى، نسق من الفعل يبني ذاته وفق مقاطع إجرائيّة قابلة لمراقبة دقيقة وتنظيم قابل للتحكّم فيه تماما.

     هذا التمييز للمعرفة العلميّة، فضلا عن كونه مفرطا في الإيجاز، فإّنه يسمح بتفسير كيف ولماذا تكون هذه المعرفة بالأساس من نمط تطوّري. يقينا، لا يمكن لتحليل تامّ لديناميكا العلم أن يتجاهل كون العلم ليس ممارسة معزولة، بل هي في تفاعل مع كلّ مكوّنات الحياة الاجتماعية الأخرى. وتبعا لذلك، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار، في دراسة تطوّر العلم، العوامل الداخليّة من جهة، والتفاعلات مع الأشكال الأخرى للفعل البشري من جهة أخرى. وسنتوقّف هنا فحسب عند العوامل الداخليّة وذلك بموجب أنّنا سنتناول في الفصول الموالية، التفاعلات مع الممارسات الأخرى. و ماسبق ذكره بشأن الدور الاستباقي للنظريات وحركة المراوحة بين النظرية والتجربة، يشير بعدُ إلى أنّ العلم هو بالأساس مسارprocessus هو من جهة لا تراكمي non cumulatif، بما أنّه يضمّ لحظات إعادة تنظيم (حينما يكون هناك تحوير أساسي للفرضيات الأوليّة)، وأنّه ينظّم ذاته حتّى يسمح لهذا المسار الذي يكوّنه بالذات، بانتعاش مستمرّ.

       يمكننا، وبصورة جدّ تبسيطية، أن نحّلل نموّ العلم، في شكل مسارات أوّلية تنبني كالآتي: في البداية نصوغ مشكلا انطلاقا بالتأكيد من معلومات متوفّرة و تصوّرات تُعتبر مقبولة في ذلك الوقت. ولغرض حلّ المشكل، نصوغ فرضية أو بالأحرى عدّة فرضيات من ضمنها ما نجري عليه عملية انتقاء. هذه الفرضيات هي من طبيعة تسمح بوجود تمشّيات عينية، بفضلها يكون بالإمكان التحقق منها. وهكذا فإنّ الفرضية التي انطلقنا منها يمكن أن تقبل أو ترفض، وإذا ما كان هناك عدّة فرضيات، فإمّا أن تُستبعد جميعها أو أن نحتفظ بتلك التي تبدو أكثر تطابقا. نجد أنفسنا إذن في وضعيّة جديدة، أين أضيف عامل جديد للوضعية الأولى، قد يخوّل لنا ربّما إعادة تأويل هذه الوضعية بصورة تامّة. من هنا، يمكن أن يُطرح مشكل جديد، ليبدأ الدور من جديد. وما يجب ملاحظته، أنّه في كلّ لحظة من لحظات هذا المسار الأوّلي، تلعب النظريّة دورا ذي أولويّة : فهي التي تقترح المشكل، وهي التي، فيما توفّره من إطار، تمكّننا من بناء الفرضيات المناسبة، وفي هذا الإطار أيضا نبني مخطّط تجارب المراقبة التي سنجريها، وهي التي أخيرا، نعود إليها لتأويل نتائج هذه التجارب.

   ثمّ، ألا يكون من اللافت للنّظر أنّ المشكل المحوري للديناميكا (الداخليّة) للعلم هو مشكل تحوّل النظريات؟. إنّ المبدأ بسيط : نغيّر نظريّة بتحوير الفرضيات التي تقوم عليها، ونكون مجبرين على مثل هذا التحوير حينما تؤدّي إجرائيات التحقّق إلى استبعاد الفرضيات التي وقع قبولها مسبقا. إلاّ أنّ إدماج فرضيات جديدة لا يحدث كيفما اتفق، بل يكون موجّها، مثلما سبق بيانه، بمبادئ معيّنة على صعيد ميتا-نظري يتحكّم في بناء النظريات وتحوّلاتها. ولو تناولنا الأشياء بصورة أشمل، أمكن لنا القول أنّ هذه المبادئ تلعب في مجموعها دور معيار للتحسين.optimisation إنّ كلاّ نظريّا يمثّل حالة قطاع علمي في مرحلة معينة يمكن أن يماثل بنسق (مجرّد) خاضع لضوابط داخليّة ( مثل عدم التناقض، البساطة القصوى، الثبات بالنسبة إلى بعض قوانين التحوّل ، الخ) وموصول ببيئة متكوّنة من بعض المجالات التجريبية (أو، إن شئنا، بأنساق عمل تتوافق مع إجرائيات تجريبية). ولابدّ لهذا التزاوج أن يكون بمثل استيفاء بعض شروط تطابق: يجب أن تكون النتائج التجريبية ملائمة لقضايا النسق، التي تخوّل تفسير ما هو مُلاحظ والتي تلعب دور المرشد في استكشاف المجالات التجريبية. وإذا ما لم تُستوف شروط التطابق، وجب تعديل النّسق ولكن على نحو يستجيب للضّوابط الداخليّة. وتلك الضوابط تؤثّر في النسق على طريقة معايير مفروضة عليه. ويتمثّل مبدأ التحسين في فرض التعديل القادر على الاستجابة لشروط التطابق، مع احترام الضّوابط الداخليّة في نفس الوقت، وهذا على النحو الأكثر اقتصادا، في صيغ أدوات مفهومية و ألغوريتمية.

   غير أنّ هذا لا يكفي بعدُ لتمييز الديناميكية الداخليّة للعلم. ذلك أنّ مبدأ التحسين يمكن أن يفسّر فحسب، التّلاؤم الحسن للنّسق بالنسبة إلى مجالات تجريب معطاة، والمطابقة لإمكانيات تمثّل وتوقّع النسق ذاته. بينما هناك أكثر من هذا: كون العلم يتّجه إلى بناء الأنساق في مستوى من التعميم المتزايد القادر بالتّالي على التحكّم في مجالات التجريب التي تزداد اتساعا. إنّ معيار التّحسين لا يستطيع أن يضمن توازنات مؤقّتة. غير أنّ نسقا علميا ما ليس بنية داخليّة، حتّى لمّا ينشأ في حالة مستقرّة، فلا يوجد فعليا إلاّ في صورة عمل، وفي آن واحد في مستوى النظريّة والتجريب. وتثير التطوّرات النظرية مسائل تتطلّب إجراء تجارب جديدة، وفضلا عن ذلك تثير النتائج التجريبية، من جهة والصعوبات الداخلية التي يمكن أن تنبثق داخل النظرية من جهة أخرى، مشاكل نظريّة جديدة. فتؤدّي هكذا التأثيرات الارتجاعية التي تحصل (بين التجربة والنظرية ، وداخل النظرية ذاتها) إلى توسّعات نظرية تتميّز بدرجة أعلى من العمومية وبسلطة توحيد متنامية. وعلى الأرجح، فإن صيرورة العلم قد تعتبر كحالة خاصّة لبنية عامّة نجدها في كلّ الميادين حيث يوجد تكوين ونموّ للأنساق المركّبة: صورة الانتظام الذاتي. و تتكوّن، لصالح اللاتوازنات، أنساق أكثر تركيب وتنظيم.

    ودون الدخول في تحليل مفصّل لمسار الانتظام الذاتي هذا، على نحو ما يتجلّى في حالة الأنساق العلميّة، فقد نقول إجمالا بأنّ تطوّر العلم يميل إلى إنتاج أنساق أكثر فأكثر تركيب وأكثر فأكثر تكاملا (أي متميّزة بترابط يزداد متانة بين مختلف مكوّناتها). وفضلا عن ذلك، لابدّ من ملاحظة أنّ مختلف الأنساق العلمية الموجودة، الموافقة لمختلف ” المجالات العلمية ” المعروفة حاليا، تميل إلى التأثير بصورة متزايدة على بعضها بعضا. وليست العلوم الصورية والعلوم التجريبية وحدها تتبادل التأثير، بل إنّ العلوم التجريبية تتقارب مع بعضها بعضا، إمّا بأن تستعير من بعضها بعضا بنى تحليل وتفسير متنوّعة، وإمّا بإثارة مشاكل تتّصل بالنظريات العامّة المستعملة في حقول التطبيق الأكثر تنوّعا.( شأن نظرية الأنساق، ونظريّة الألغوريتمات، ونظرّية المسارات العرضيّة، الخ). وبالتأكيد، لا يمكن الحديث عن توحيد في معنى تكوين تدريجي لجسم نظري موحّد، ولا حتّى في معنى توحيد تركيبي مثلما فكّرت فيه الوضعية الجديدة في بداياتها. غير أنّ علاقات الترابط والتفاعلات الارتجاعية المختلفة بين الأنساق العلمية تميل إلى التكثّف، على نحو يسمح لنا بالحديث لا بتكامل متنامي داخل هذه الأنساق فحسب، بل عن الحديث أيضا عن تكامل متنامي للمجال المُكوّن من مجموع هذه الأنساق، أي عن مجال النشاط العلمي بوجه عام. هناك إذن، على ما يبدو، أثر شمولي لانتظام ذاتي، يتطابق مع مسارات الانتظام الذاتي التي تمثّل الأنساق الخاصّة المختلفة حيّزه. وهذا يتطلّب الفرضية التالية: للعلم( منظورا إليه في مجموعه) داخل المجتمعات الراهنة ميل إلى أن يتكوّن، تحت تأثير حركته الداخليّة الخاصّة، في صورة نسق واسع، متكوّن في ذاته من أنساق فرعيّة متفاعلة، وتتطوّر نحو أشكال أكثر فأكثر تركيب وتكامل، وأكثر فأكثر استقلال.

    و بالتأكيد، لايعني هذا بالمرّة أنّ هذا النسق قد ينظر إليه كنسق معزول. بل بالعكس، لا يمكن له أن يشتغل إلاّ من حيث هو ذاته في تفاعل مع أنساق أخرى( أفراد من البشر وأنساق اجتماعية- ثقافية أخرى). وليست الاستقلالية المقصودة سوى استقلالية نسبية، وما هي إلاّ استقلالية في العمل. إنّ نموّ استقلالية المجال العلمي تعني أنّ هذا المجال يملك أكثر فأكثر المنابع الضرورية لضمان عمله الخاصّ(و بالذات بموجب تفاعلاته مع الأنساق الأخرى) وأيضا لضمان نموّه الخاصّ. إنّ تطوّر العلم سيكون في استقلالية متزايدة عن الظروف الخارجيّة، والعرضية وغيرالقابلة نسبيا للمراقبة والمتّصلة أكثر فأكثر بعوامل داخليّة (إيجاد التوازن، عامل الاضطراب ، وإعادة التوازن والانتظام الذاتي) والتي، و حتّى لا تكون تماما بمنأى عن تدخّل الصّدفوي، ليست على الأقل في جزء كبير منها قابلة للمراقبة وللتقويم النقدي. وإذا ما كان الأمر كذلك، يمكن أن نعتبر أنّ تطوّر العلم يحدث بطريقة واعية أكثر فأكثر، ومفكّر فيها ومدبّرة وفق مخطّط هو بذاته، وعلى غرار التّمشيات التي ينظّمها العلم، عقلاني أكثر فأكثر. إنّ ما تناله الاعتبارات الابستيمولوجية من أهمية متزايدة في التّمشيات العلمية، لا في صورة تدخّلات خارجية، وإلهام فلسفي، بل في صورة ضبط داخلي، اقتضاه نوعا ما تدخّل منطق هذه التّمشيات، تبيّن فعلا أنّ تطوّر العلم هو بشكل متزايد، عمل مراقب ذاتيا ولأجل هذا يرسم غايته ذاتيا autofinalisée. وهو ما لا يعني أنه فضلا عن ذلك قابل للتوقّع. يمكننا بالطّبع أن نقوم بتخمينات، ولكن التفاعلات داخل تطوّر الأنساق المركبة جدّا هي جدّ متشابكة وأنّ الإمكانيات هي جدّ متعدّدة بحيث لا يمكن لنا بالمرّة وضع توقّعات. إنّ المراقبة الذاتية للتّمشيات هي شيء آخر غير تطبيق رسم توقّعي، وأنّ مسار الإسناد الذاتي للغاية (التغيء) شيء آخر غير تطوّر حتمي.  

      

*جان لاديار” رهانات المعقولية ، تحدّي العلم والتكنولوجيا للثاقفات” الفصل الأول : العلم ص27-52 – اوبي منونتاني  1977 Aubier Montaigne

إغلاق