ديكارت يقلب الطاولة الأرسطية – أيوب أوعلي
- مقال بعنوان : ديكارت يقلب الطاولة الأرسطية.
- من إعداد أيوب أوعلي / طالب بالمدرسة العليا للأساتذة.
ظلت الميتافيزيقيا كبحث ودراسة الوجود ، أو على حد تعبير أرسطو ” العلم بالوجود من حيث هو وجود ” ، سائدة لقرون عدة ، فصار على منوالها الفلاسفة المشائيون؛ المسيحيون منهم والمسلمون ، إلا أن مع بداية القرن السابع عشر خاصة مع ديكارت ستعرف الميتافيزيقا شكلا آخر في البحث ، إذ معه ستنتقل من دراسة الوجود الخارجي إلى دراسة وجود الذات كمنطلق أساسي في البحث الميتافيزيقي .
– فما الميتافيزيقا عند ديكارت ؟ وما هي أوجه الاختلاف بينها وبين الميتافيزيقا التقليدية ؟ وكيف استطاع ديكارت إقامة صرح جديد ؟ أو بعبارة أخرى ما طرق البحث التي سلكها في تناول القضايا الماورائية ؟
شكلت الميتافيزيقا الديكارتية الأساس الذي يقوم عليه العلم ، فهو بحاجة إليها بل يجب أن يبدأ بها ، لذلك يعرف الفلسفة بقوله ” الفلسفة أشبه بشجرة ، جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزيقا والفروع التي تتفرع عنها تنتهي بثلاث علوم رئيسية : الطب والميكانيكا والأخلاق “، الجذور هي التي تمد الشجرة بالطاقة والحيوية ، بل وتثبتها من كل ريح يمكن أن يزحزحها ، نفس الأمر ينطبق على الميتافيزيقا فهي التي تزود العلم بالطاقة وتمنح شجرة المعرفة النمو اللازم لتعطينا غصون العلم اليقيني غير القابل للزحزحة ، الميتافيزيقا الديكارتية إذن تنتقل من الأفكار إلى الموضوعات الخارجية ، من الأسباب إلى المواد ، وبناءا على هذا نستطيع القول بأن ديكارت أول من قلب نظام العلم الذي ساد منذ أرسطو، ولم يجرؤ أحد على خدشه، بل كان الجميع يبدأ بالعلم الطبيعي ليخلص منه إلى الميتافيزيقا كنتيجة وليس كمقدمة كما هو الشأن بالنسبة لديكارت ، لهذا استحق ديكارت لقب بطل الأزمنة الحديثة على حد تعبير هيغل ، لما لا يكون ديكارت هذا البطل الشجاع، الذي تجرأ على مجابهة المخاطر والسير قدما لفتح مناطق ظلت لقرون عدة حصينة منيعة ؟ من كان يوما يشك في أن أرسطو ترك للخلف موضوعا للاجتهاد والإبداع؟ ألم يقتصر عمل الفلاسفة العرب والمسلمون على شرح انتاجات المعلم الأول ؟ كيف لا يكون ديكارت هذا البطل؛ وهو الذي فتح هذا الحصن المنيع، لما ثار ضد هذا الفكر العتيق ، حقا إنه بطل الأزمنة الحديثة بامتياز ، لكن مع ذلك يجب أن نساءل هذا البطل عن إمكانية قيام المادي على اللامادي ؟ أو بعبارة أخرى قيام العلم الطبيعي على الميتافيزيقا ؟، مما لا شك فيه أن الرهان الحقيقي لديكارت تجلى في إقامة علم كلي يتأسس على العقل ، أليس هو القائل بأن ” العقل أعدل قسمة بين الناس”، هذا يعني عمليا أن ما من شيء جلي إلا ما هو عقلي ، أو على الأقل ما يمكن التوصل إليه باستخدام العقل ، لذلك من الطبيعي أن تكون معرفة الوجود المادي مرتكزة على الميتافيزيقا ، حيث يجب علينا بادئ ذي بدء طرح كل الأفكار التي تكون الحواس مصدرا رئيسيا لها ، بمعنى آخر تقويض كل المعارف المرتبطة بالوجود الفيزيائي والرجوع القهقرى إلى ذاتنا ، والبحث في عقولنا ، يقول ديكارت في كتابه تأملات ميتافيزيقيا ، التأمل الأول *” لعلنا غير مخطئين إذن، في الاستنتاج أن علوم الطبيعة ، والفلك، والطب، وسائر العلوم الأخرى ، التي تدور على الأشياء المركبة ، هي عرضة لشك قوي ، إن الثقة بها قليلة ، أما الحساب ، والهندسة ، وما شاكلهما من العلوم ، التي لا تنظر إلا في أمور بسيطة جدا، وعامة جدا، دون اهتمام كثير بمبلغ تحقيق هذه الأمور، في الخارج، أو عدم تحقيقها، فهي تحتوي على شيء يقيني لا سبيل إلى الشك فيه “، هذه دعوة صريحة لسلك سبيل الرياضيات المكتفية بالأمور البسيطة، المقتصرة على التحقق الذهني، دون اهتمامها بالعالم المادي ، مما يعطيها صلاحية اليقين الذي لا يمكن الشك في نتائجه ، لكن ما الكيفية التي يمكن إتباعها للوصول إلى اليقين الراسخ ، الذي يماثل يقين الرياضيات ؟، لعلى الكيفية الأساسية في التأمل الميتافيزيقي عند ديكارت هي الشك ، الشك في كل شيء، يقول ديكارت في الفصل الأول من كتابه تأملات ميتافيزيقيا ” تبين لي إذا كنت ناعم الأظافر طائفة من الآراء الخاطئة، ظننتها صحيحة ، ثم وضح لي أن ما بنيته بعد ذلك على مبادئ ، تلك حالها من الاضطراب ، لا يمكن أن يكون إلا أمرا يشك فيه وترتاب منه “، شك ديكارت في المعارف التي تلقاها بواسطة الحس ثم نقل الشك إلى وجوده كذات ، شك في كل شيء إلا أنه يشك، لا يمكن أن يشك في أنه يمارس فعل الشك ، فما الشك إذن ؟ إنه ضرب من ضروب التفكير، ففعل التفكير دليل على وجوده ، وهو ما عبر عنه ديكارت في الكوجيتو ” je pense donc je suis” ، أنا أفكر إذن أنا موجود ، فلا يمكن قيام فعل دون فاعل ، لكل فعل فاعل ، قد أشك مثلا في نوعية الطعام الذي أتناوله ، لكن لا يمكن أن أشك في أنني أنا الذي أتناول الطعام، ففعل الأكل ناتج عن فاعل هو بالضرورة ذاتي ، نفس الأمر بالنسبة لفعل التفكير لابد له من فاعل وهو الذات ، هكذا توصل ديكارت إلى إثبات اليقين الأول ، يقين وجوده، ومنه واصل الطريق لإثبات اليقين الثاني ، وهو وجود الذات الإلهية، بما أن ديكارت يشك، فهذا يعني ضمنيا أنه كائن ناقص ، فالشك نقص وقصور عن بلوغ الحقيقة، وفكرة النقصان تقتضي فكرة الكمال، فهو لا يمكن أن يضع في نفسه هذه الصفة ، أليس هو الناقص ؟، وبما أنه ناقص فبالضرورة هناك ذات كاملة أوجدت فيه هذه الفكرة وهذه الذات أكمل وأتم منه ، ولما كان اسم الله يطلق على الكائن الكامل فالله موجود ، الآن بعد أن توصل ديكارت إلى إثبات وجوده ووجود الذات الإلهية ، سيسعى لإثبات اليقين الثالث وهو إثبات العالم المادي ، يقول ديكارت، *كتاب عثمان أمين- ديكارت- ص 164*، ” أنا الآن أعلم علم اليقين حقيقتين: أعلم أني موجود وأن الله موجود ، أنا موجود بمعنى أن لي نفسا متميزة عن بدني، وهي إذن قادرة على أن تبقى بدونه فهي خالدة لا تموت، والله موجود، ولليقين بوجود الله منزلة رفيعة عندي، فمن دون الله كنت أبقى سجينا في الكوجيتو لا أبرحه، ومن دونه كنت أعرف نفسي ولا أعرف شيئا آخر، ولكن وجود الله ضمان لكل علم، لكل يقين، وبوجوده أستطيع أن أعبر الهوة التي حفرها الشك بين فكري وبين الأشياء، وأستطيع أن أطمئن إلى وجود العالم الخارجي“، وجود الله إذن ضمان لوجود العالم المادي، فالموجود الكامل لا يمكن أن يضللنا، وبالتالي أفكارنا الواضحة تكشف لنا الوجود، الثقة بعقلنا تتأسس حسب ديكارت على ثقتنا بالله.
نخلص مما سبق إلى أن الصرح العلمي عند ديكارت لابد له من أن يستند على الميتافيزيقا، ويبدأ بها كطريق آمنة للوصول إلى اليقين العلمي، فنهج الشك لإثبات الحقائق الثلاث التي تشكل الخيط الناظم لبحثه الميتافيزيقي، شك في وجوده كمنطلق أساسي للوصول إلى معارف جديدة ، فاستنتج أنه لا يمكن الشك في الشك، وبذلك توصل إلى إثبات ذاته، لكن بما أن الشك يحيل إلى صفة النقصان، فبالضرورة هناك كامل أوجدني، وبذلك توصل إلى حقيقة وجود الذات الإلهية، وبما أن الله هو الذي أوجده فهو الضامن للحقائق الأخرى، أي حقيقة وجود العالم المادي، وعلى هذا النحو تمكن ديكارت من إثبات وجوده كذات، ووجود الله، ووجود العالم المادي.
- أهم المراجع المعتمدة
- تأملات ميتافيزيقيا في الفلسفة الأولى، رنيه ديكارت- ترجمة الدكتور كمال الحاج، منشورات عويدات بيروت- باريس.
- مدخل إلى الميتافيزيقا، إمام عبد الفتاح إمام- الطبعة الأولى- أكتوبر 2005 بنهضة مصر للطباعة والنشر.
- أمين (د. عثمان) “ديكارت” الطبعة الرابعة مكتبة القاهرة الحديثة عام 1980.