ديكارت، و خطوة مشوار الالف ميل. بقلم ذ. عصام الخدير
بقلم الأستاذ عصام الخدير – أستاذ فلسفة وفكر إسلامي
______________________
عندما انهارت فكرة مركزية الأرض تحت ضربات العلم الحديث الناشئ في أوربا إبان القرن 17 م و بدأت نظرية أرسطو الفيزيائية حول الكسموس القديم تتضعضع، كان لزاما أن يظهر مفكر فلسفي يكون انعكاسا فكريا للروح العلمية الناشئة آنذاك في أوربا على يد نيكولا كوبرنيك وامتداداته العلمية، خاصة غاليلو غاليلي و يوهان كبلر.. لم يكن هذا الانعكاس الفلسفي سوى أب الفلسفة الحديثة رونيه ديكارت (1596 – 1650).
بانهيار نظرية مركزية الأرض وبداية الشك في مسألة نهاءية الكون ومحدوديته بقبة فلك النجوم الثابتة، وتعويضها بمركزية الشمس ودوران الأرض حولها و حول محورها.. أصبحت الذات العارفة والباحثة (الإنسان) متحركة وليست ثابتة أمام موضوع للمعرفة متحرك بدوره وليس ثابتا.. أصبح الإنسان جزءاً من الطبيعة وعنصرا متحركا فيها ولا امتياز له عن الطبيعة، أصبح المعطى المعرفي يبنى بناء ولا يوجد بشكل معطى قبلي.. أي قبل التفكير.. قبل الشك..
لقد تم التموقع نظريا مع اللحظة الديكارتية نظريا خارج الذات، و بابتكاره ونحته لكلمة Réflexion يكون ديكارت قد ولج مجاهل جديدة كانت عصية على الاقدمين سواء فلاسفة اليونان أو رهبان السكولائية..
إن كلمة تفكير الديكارتية ليست كلمة عادية عابرة.. إن لفظةRéflexion من أصل جذورها اللاتينية REFLEXIO تعني انعكاس الذات على نفسها داخليا تامليا تساؤليا و شكيا.. إذا كانت حواسنا خادعة و خداعها لنا ثابت دائما وابدا في المسافات والسرابات والاحجام و غيرها كما ذهب إلى ذلك ديكارت نفسه ، فإنه ينبغي للمرء أن يتموقع في نقطة ارتكاز ثابتة.. إنها الفكر أي العقل إنسانيا، و الشمس الثابتة نظريا كوسمولوجيا.. بهذا يظهر جليا تأثر ديكارت الكبير بالفكر العلمي الجديد اقصد الكوبرنيكية، كيف لا..؟ وهو الرياضي البارع مكتشف الهندسة التحليلية وصاحب المبرهنات الديكارتية الشهيرة والتي بز بها شيخ رياضيي عصره الألماني Faul Haber نفسه..
هكذا أصبح الفكر مع ديكارت موضوعا للفكر ذاته شكا وتمحيصا وإعادة تركيب من جديد من هنا كذلك الكوجيطو الديكارتي الشهير أنا أفكر je pense.. إنني أصبحت افكر في كوني افكر في شيء مفكر فيه.. يقول ديكارت بهذا الصدد réfléchir c’est l’esprit faisant réflexion sur lui même..
EX EO QUIOD MENS HUMANA IN SE CONVERSA..
ويحتاج لذلك قواعد هداية إنها من طبيعة رياضية بالضرورة وهي أربع وكأننا به يريد بز قواعد أرسطو المنطقية الأربع ذاتها :
1 – بداية البداهة أو اليقين
Certitude.. Res Certa
2 ثم التحليل أو التجزييء
analyse.. Analitio
3- فالتركيب أو النظام..
Reconstruction..ordre.. Recongtio..
4- و أخيرا المراجعة أو الإحصاء
Révision.. Revisio..
لقد تأثر كثيرا ديكارت بالكوبرنيكية واعترف في مراسلات و مذكراته أنه كوبرنيكي في مسألة الفلك الجديد، بل كانت له حساباته الخاصة وملاحظاته الفلكية التي توصل فيها إلى نفس نتائج كوبرنيك.. ولكن نشاط محاكم التفتيش جعلته يوثر السلامة ويحجم عن الإفصاح بما لديه بشكل مباشر تاركا الأمر كله لكوبرنيك وتلامذته فيما بعد.
إن مراسلات ديكارت مع صديقه الراهب الأب مرسين Mersenne و خاصة تلك المتعلقة بسنة 1633 توضح بشكل جلي مدى ذهابه بعيدا في كتابه رسالة في العالم Traité du Monde في تأييد فلك كوبرنيك الجديد بمقابل فيزيائي ورياضي ملائم للنظرية الوليدة..يقول في سياق رسالته ما يفيد ذلك
( si le mouvement de la terre est faux, tous les fondements de ma philosophie sont faux, car ils se démontre par eux )..!
ولكنه في الأخير خاف محاكم التفتيش فاحجم عن إتمام الكتاب أو نشره علانية، وإن كان مخطوطه السري ظل شاهدا ومصانا في رفوف مكتبته و عند صديقه المخلص الأب مرسين.
من الأمور التي عابها ديكارت على غاليلي على سبيل المثال بناء اساس لصرح علمي فلكي جديد دون دلائل عقلية وفكرية قوية تكون ذات طبيعة ميتافيزيقية وليست رياضية أو فلكية فقط، لكي تستطيع مجابهة فكر آخر لا يقل قوة وقتها ومسلح بفكر مزدوج ميتافيزيقي فكري و رياضي نظري علمي.. إنه الفكر الكنسي السكولائي العتيد.. لذلك اقترح ديكارت نقطة ارتكاز جديدة مادام العالم كله يتحرك بما فيه الأرض و الإنسان كذلك.. نقطة الارتكاز الجديدة هاته هي ذات الإنسان الداخلية الباطنية العميقة الغير قابلة للتلف أو الاغواء أو التزحزح، إنها الفكر ذاته.. العقل البشري المفكر والواعي والقادر على الحكم إنه الشك الوحيد الذي لا يمكن الشك فيه.. أو الشك في ممارسته.. إنه التفكير. وجود التفكير كحقيقة لا تقبل الجدل أو الظن أو الشك هي الكوجيطو الفكري الحديث المنافس للفكر القديم.. فكر الكنيسة ميتافيزيقيا و فكر أرسطو كوسمولوجيا وعلميا..
“أنا أشك، انا افكر، إذن انا موجود “
Je pense donc je suis
EGO COGITO ERGO SUM
هذه قضية غير قابلة للتجزيء أو للتفاوض إنها قضية بمضامينها و بمفاهيمها لا تقبل التجزييء. إنها نقطة ارتكاز صلبة جديدة وسط عالم حديث بدأ يدب فيه الشك ويساءله العقل و العلم الحديث في أكثر مسلماته بداهة..
يطرح السؤال كيف يمكن للفكر على هذه الحال ان يخرج من ذاته الثابتة نحو العالم الطبيعي المتغير المشكوك فيه ليؤسس معرفة وعلما نظريا متماسكا ومقنعا.. سيلجأ ديكارت إلى حل لم يقنعه هو نفسه في قرارة نفسه ولكن كان لا بد له أن ينقذ صرحه الجديد بأي ثمن.. إن المسألة بسيطة للغاية إنها قضية واضحة ومتميزة.. ضامنها الله الطيب العادل العارف المطلق المعرفة والخير.. إنه يساعدني على اليقين وعلى محاربة الأهواء ووضع حد للشك وإلا عد شك ديكارت شكا مذهبيا عقديا و عدميا.. إنه شك مؤقت يروم اليقين لا العدم.. والله بعدله وخيريته و كماله يضمن عدم الخطأ.. كما يضمن إبعاد وساوس الشيطان الماكر و المخادع le malin génie الذي قد يحاول خداع الفكر أو التلبيس عليه وإذا كانت الأفكار أنواع ثلاث عند ديكارت :
– أفكار عارضة حسية idées adventices
– و أفكار متخيلة مصطنعة idées factices
– وأخرى أفكار فطرية idées innées..
فإن الله موجود فينا كفكرة بالفطرة وهو المسؤول عن وضعها فينا منذ الأزل.. أي منذ بدء الخليقة.. وبما أن قاعدة ديكارت المنطقية تقول أن الكامل لا يصدر عن الناقص فالله غير صادر عن ذات الإنسان أي فكره، بل العكس هو الصحيح.. فالذات الإنسانية هي الصادرة عن الله.
لا يمكن في منطق العلل من هذا المنظور أن تكون العلة الصغرى الناقصة(الإنسان) هي مصدر العلة الكبرى الكاملة (الله) ..! الله إذن جوهر كامل مفارق ومستقل عن ذهن الذات و هو من أودع فينا فكرة وجوده.
لقد حاول ديكارت جهد امكانه أن يتخلص من أفكار الكنيسة العتيقة و العقيمة من منظور حكمه و التي عدها غير صالحة لأي بناء معرفي جديد، سواء فلكيا أو طبيعيا أو فلسفيا، وحاول كذلك أن يتخلص من هيمنة أرسطو وفكره العلمي الخاطئ ما استطاع إلى ذلك، وحاول بطريقته الخاصة الدفاع عن العلم الجديد الوليد آنذاك بكل ما يبشر به من انقلابات عنيفة في طرائق تفكير وفهم الناس أقله في أوربا لذواتهم وللعالم.. ولكنه رغم مجهوده الجبار ذلك لم يكن له إلا أن ينتهي شاء أم أبى شبه “راهب كنسي” حديث، عندما اضطر لتوظيف نظرية (الضمان الإلهي) لينقد صرحه الفلسفي العتيد.. لكن يحسب له أنه جعل لله مفهوما وفهما خاصا داخل الميتافيزيقا الفلسفية وأخرجه من ميتافيزيقيا اللاهوت والغيب الديني، لقد جعل من الله وجودا فلسفيا وليس وجودا لاهوتيا أو تيولوجيا فاتحا بذلك الباب لكل من سيأتي بعده بدءا من باروخ سبينوزا إلى فريدريك هيغل.
— المراجع —
- – رونيه ديكارت. كتاب التاملات.
- – رونيه ديكارت. مقال في المنهج.
- – ريتشارد شاخت. تاريخ الفلسفة الحديثة.
- – وليام كيلي رايت. تاريخ الفلسفة الحديثة.
- – سالم يفوت. العلم و الفلسفة في العصر الكلاسيكي.