درس الرأي والحقيقة – مفهوم الحقيقة
مجزوءة المعرفة
مفهوم الحقيقة
المحور الأول: الحقيقة والرأي
التأطير الإشكالي:
إن أول ما يجب التفكير فيه، ونحن نبحث في مفهوم الحقيقة، هو مسألة الرأي وعلاقته بالحقيقة، ذلك أن الحقيقة تدل على اليقين، كما أنها تتميز بكونها مبناة وليست جاهزة ومعطاة، لكن الرأي يشير في الغالب إلى الظن والاعتقاد، كما أنه معطى وجاهز. وهكذا يتحدد الإشكال في طبيعة العلاقة بالرأي، وإن كان يمكن أن تكون الحقيقة معطاة وجاهزة، أم أنها مبناة. إذن، ما طبيعة العلاقة القائمة بين الرأي والحقيقة، هل هي علاقة اتصال وترابط أم علاقة انفصال وقطيعة؟ بتعبير آخر، هل يمكن للرأي أن يعبر عن حقيقة، وأن يمثل حقيقة، أم أن الرأي لا يرقى إلا مستوى الحقيقة؟ إضافة إلى ذلك، هل الحقيقة معطاة أم مبناة؟
أولا: تعريف الحقيقة والرأي
مفهوم الرأي: يرادف الرأي الظن والاعتقاد، ويأتي نقيضا لليقين، ويعرفه لالاند في موسوعته الفلسفة بقوله: “الرأي حالة ذهنية تتمثل في الإعتقاد بصحة قول معين، مع القبول بإمكان الخطأ أثناء حكمنا هذا”.
مفهوم الحقيقة: تفيد الحقيقة في اللغة اليقين والحق والصواب والواقع، وهي نقيض الكذب والوهم والزيف والمجاز. وتعني الحقيقة فلسفيا، وخاصة في دلالتها الكلاسيكية، الاتساق بين الفكر وذاته، أو بينه وبين الواقع، أو بينهما معا.
ثانيا: مواقف وتصورات فلسفي في علاقة الرأي بالحقيقة
-
غوتفريد لايبنتز: الرأئ القائم على الاحتمال يستحق اسم معرفة
يؤكد الفيلسوف الألماني غوتفريد لابنتز في كتابه “أبحاث جديدة في الفهم البشري” أن الرأي القائم على الاحتمال يستحق اسم معرفة، والمقصود بالرأي القائم على الاحتمال، الرأي الذي يحتمل أن يكون رأيا صائبا. ولتأكيد موقف بخصوص الرأي القائم على الاحتمال، يستحضر لايبنتز مثالا لمعرفة تتأسس بشكل أساسي على الاحتمال، وهي المعرفة التاريخية، وذلك ليؤكد أن استبعاد الرأي القائم على الاحتمال سيؤدي إلى إسقاط هذه المعرفة التي تقوم على الاحتمال. إضافة إلى ذلك، ولتدعيم قوله، يستحضر لايبنتز مثالا لرأي علمي أُثبت صدقه، وهو رأي كوبرنيك القائل بعدم ثبات الأرض وعدم مركزيتها، فقد كان قوله هذا مجرد رأي، إلا أنه كان أكثر احتمالا بشكر لا يقبل المقارنة مع رأي باقي النوع البشري، وهو الآن يعتبر من بين الحقائق العلمية التي يصعب تفنيدها.
أهمية الموقف: لا يمكن أن ننفي ما للرأي من أهمية، لا سواء في مجال العلوم الإنسانية، أو في مجال العلوم الطبيعية. فالتاريخ كعلم إنساني يتأسس على الرأي القائم على الاحتمال حقا، وكذلك في العلوم الطبيعية، حيث يكون الرأي أحيانا طريقا لبلوغ الحقيقة إذا كان رأيا قائما على الاحتمال.
لكن ألا يمكن أن يكون الرأي عائقا ابستمولوجيا، أمام بلوغ الحقيقة؟
-
غاستون باشلار: الرأي عائق ابستمولوجي وجب القضاء عليه
في حديثه عن علاقة الحقيقة بالرأي، يؤكد الفيلسوف والابستمولوجي الفرنسي غاستون باشلار أن الرأي عائق ابستمولوجي وجب القضاء عليه. فقد ذهب غاستون باشلار في “كتابه تكون الفكر العلمي” إلى اعتبار الرأي عائقا يحول دون بناء معرفة علمية، ذلك لأن الرأي حسب باشلار نوع من التفكير السيء، بل أكثر من ذلك فهو ليس بتفكير على الإطلاق. زد على ذلك أنه لا يقوم إلا بترجمة الحاجات البشرية إلى معارف من خلال تعيينه للأشياء وفق منفعتها، ومن ثم فالرأي يحرم نفسه من معرفتها حق المعرفة، لذلك يجب حسب باشلار القضاء على الرأي. إضافة إلى ذلك يؤكد باشلار أن مجال العلم ومجال التفكير العلمي، يمنعنا من إبداء رأينا، وفي هذا الإطار يقول باشلار: “إن التفكير العلمي يمنعنا من تكوين رأي بخصوص مسائل لا نفهمها، أي بخصوص مسائل لا نعرف كيفية صياغتها بشكل واضح…”.
إضافة إلى ذلك، فالذي يجعل الحقيقة متعارضة مع الرأي، هو أن الرأي يتميز بكونه معطى وجاهز، كما أنه لا يعبر إلا عن الحاجات والرغبات، على خلاف الحقيقة، وعلى خلاف المعرفة العلمية، والتي هي معرفة مبناة، ومعرفة مؤسسة على الحجاج الاستدلالي، والتماسك المنطقي، والاستنتاج المتماسك نظريا وتطبيقيا. لذلك لابد من القضاء على الرأي لغاية تأسيس معرفة علمية موضوعية، ولغاية بلوغ الحقيقة.
-
رونيه ديكارت: ضرورة مراجعة الآراء والأحكام المسبقة
يدعو الفيلسوف الفرنسي ديكارت في كتابه “مقال في المنهج” إلى ضرورة مراجعة الأحكام المسبقة، والآراء التي انتقلت إلى النفس بغير طريق العقل. أما الطريقة التي يمكن من خلالها مراجعتها، فهي المتمثلة في المنهج العقلي المتشكل من أربع قواعد: الشك، التحليل، التركيب، المراجعة.
أهمية الموقفين:
لموقفي باشلار وديكارت أهمية فكرية، إنهما موقفين بالغي الأهمية. فمجال المعرفة العلمية حقا ليست مجالا للرأي، بل هو مجال البرهان والاستدلال والحجاج والأبنية المنطقية. إضافة إلى ذلك، وكما أكد ديكارت فالأحكام المسبقة كثيرا ما تمنعنا من كشف الحقيقة، فهي أشبه بالظلمة التي تحجب الرؤية كما قال ديكارت. ولذلك وجب الشك في الآراء والأحكام المسبقة بغية بلوغ الحقيقة.
لكن ألا يعد إبعاد الرأي إسقاطا للمعارف التي تقوم بالأساس على الاحتمال؟ ألا يمكن أن يكون الرأي طريقا لكشف الحقيقة؟
خلاصة تركيبية:
إن أول ما يمكن استنتاجه بخصوص العلاقة بين الرأي والحقيقة، هو الطابع الاشكالي لمفهوم الحقيقة، والطابع الإشكالي لمفهوم الحقيقة إضافة إلى اختلاف المنطلقات، هو الذي أدى إلى تعدد المواقف. لكن، رغم هذا التعدد والاختلاف، تبقى الحقيقة مطلبا وهمَّأ إنسانيين، فالحقيقة تبقى غاية كل إنسان، وغاية كل بحث كيفما كان. لكن الحقيقة ليست معطاة، وليست مكشوفة، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل ديوجين الكلبي يحمل مصباحه، باحثا عن الحقيقة في واضحة النهار. وبما أن الحقيقة ليست معطاة، فلابد من معيار نتمكن من خلاله من إدراك الحقيقة، منه يمكن أن نتساءل: ما المعيار الذي يمكن من خلاله التمييز بين الحقيقة واللاحقيقة؟