جدلية الوجود و المعرفة في فلسفة أرسطو – بوشعيب بن ايجا
يعتبر أرسطو من أبرز الفلاسفة العظام الذين ساهموا في تأسيس الفكر الفلسفي ، و قد لقب بالمعلم الاول ، لاسيما و أنه يعد استاذ فلاسفة اليونان الذي كتب في جميع المجالات المعرفية ، بدءا من الانطولوجيا، و مرورا بالمعرفة وانتهاء بالقيم ، و تحتل نظرية المعرفة مكانة مهمة و مرموقة جدا بين العلوم البشرية، فهي الحجر الاساس لكل رأي ، و نظرية يتبناها العالم في مجال الفلسفة و العلوم الطبيعية ، و نظرية المعرفة عند أرسطو كانت هي العامل الوحيد في خروجه على فلسفة أفلاطون و بدئه تأسيس فلسفته المتميزة ، فحينما ادرك أرسطو ان المعرفة الحسية ، و احترام ما تنقله الحواس، و البدء بتصفح ما تنقله الاشياء عبر الحواس ، مسألة في غاية الاهمية ، و أنها تشكل الوسيلة الاساسية للمعرفة، الانسانية ، حيث شق لنفسه فلسفة مغايرة لفلسفة أستاذه أفلاطون ، و بهذا اصبح للفلسفة وجهان ، هما الجانب العقلي و الجانب التجريبي، فالإحساس هو الذي يضع الملامح الاولى للمعرفة على طريق العقل ، و العقل هو الذي يتكلف بتحليل تلك المعطيات الحسية ، فمن خلال العقل ندرك المعقولات ، و على رأسها الاله الخالق ، و الواحد الذي هو عبارة عن صورة خالصة و عقل خالص ، و نجد ان أرسطو يعطي القدر من الاهمية للمعرفة الحسية ، و هذا لا يعني أنه أهمل الجانب العقلي الذي اهتم به أستاذه أفلاطون خصوصا في نظرية المثل ، بل يعطي أهمية بالغة للمعرفة الحسية ، و ذلك من زاويتين ، أولا لأنها بداية كل معرفة إنسانية ؛ فالحواس تتدخل من أجل تكوين المعرفة بالعالم الخارجي ، و هذا التأثير سوف نجده حاضرا عند الفلاسفة المحدثين خصوصا جون لوك الفيلسوف الانجليزي صاحب النزعة التجريبية ، حيث يقول في كتاب مقالة في الفهم البشري “لنفترض بأن العقل عبارة عن صفحة بيضاء خالي من جميع الصفات و دون أية أفكار ، فكيف كانت تملئ ، و يحصل العقل على جميع مواد التفكير ، كل هذا أجيب عنه بكلمة واحدة ألا و هي التجربة” ، و حالما اكتشف الجانب العقلي و الجانب الحسي ، حتى بدأت فلسفة أرسطو توازن بين البحث في الطبيعة ، و البحث فيما وراء الطبيعة، و كلاهما مهم للكشف عن الحقيقة ، و بذلك فقد جمع بين الجانب العلمي والفلسفي ، و تفتحت عبقرية أرسطو لتكشف أبعاد جديدة و أفاق واسعة لا محدودة من الفلسفة و العلوم و على رأسها علم الطبيعة ، فأرسطو على العكس من أفلاطون يقدر أي نوع من المعرفة الإنسانية ، سواء كانت صادرة عن الحواس أو العين خاصة أو البصر ، و هناك درجات مختلفة للمعرفة ، و قد حدد أرسطو معيار التفاضل بقوله ” نحن نؤثر معرفة على أخرى لدقتها ، و أنها تبحث عن شيء أجمل ، و أكرم “
فالتمييز بين درجات الانسانية، يقوم على أساسين أولهما مدى دقة هذه المعرفة ، و بالطبع فإن ما تنقله لنا الحواس من معرفة يتفاوت في دقتها عما ينقله إلينا العقل بمستوييه النظري و العملي ، و ثانيهما هو الموضوع ، أي موضوع المعرفة في حد ذاته فكلما كان الموضوع اشرف و اكمل ، كلما كانت الاداة التي تنقله أفضل و أهم ، و فضل أرسطو المعرفة العقلية لأنها أشرف ، و أكرم ، و أكثر دقة من حقائقها .
-
نظرية المعرفة
شغف أرسطو بالمعرفة ، فقد انشغل انشغالا شديدا بالبحث في وسائل المعرفة الانسانية و مدى ما يمكن أن نصل إليه من خلال هذه الوسائل ، و قد بدأ بحثه في طبيعة الحواس ، فوجد أن الطبيعة تؤكد قصورها و محدوديتها ، و قد بحث فيما يمكن أن يؤديه العقل ، و قد استطاع أن يحلل العقل ، و يبني ما يسمى بالمعرفة الانسانية ، فالإنسان هو العقل ، و يستدل و يقيس أساسا ، و قد ركز أرسطو اهتمامه على دراسة العقل ، و إمكاناته المعرفية ، بالإضافة الى وضع القوانين اللازمة لضبط التفكير العقلي ، حتى لا يبتعد العقل على المجال المعرفي ، و قظ ظلت نظرية المعرفة مختلطة بالمنطق ، و كانت قيمة العلم و طرق تحصيله يشكلان سويا موضوع دراسة و احدة ، و عندما نبحث في فلسفة أرسطو نجد اتجاها تجريبيا في أعماله ، إذ يصف مرتين النمو التدريجي للمعرفة بادئا بالانطباعات الحسية، و منتهي بتكوين المبادئ و القواعد العامة و على حد تعبير ألان فهناك اوجه عديدة في فلسفة أرسطو تجعل بالإمكان دعوته بأنه فيلسوف تجريبي ، و تربط بينه و بين لوك و ميل والنظرية المعرفية الارسطية مع ما يتظافر مع جانبها العقلي منذ البداية ، و نجد أرسطو يحدثنا في مؤلفاته المبكرة عن أنواع المعرفة ، بادئا من ذلك الوجه التجريبي الحسي ،يقول في دعوة للفلسفة ” إن المعرفة على أنواع مختلفة ، فهناك المعرفة التي تنتج خبرات الحياة ، و هناك المعرفة التي نستخدمها ، و تمت تقسيم آخر ” ، فهناك الانواع التي تخدم و تضيع ، و هناك الانواع التي تأمر ، و الانواع الاخرى الاخيرة أعلى درجة ، و فيها يكمن الخير بمعناه الحقيقي ، و هذا النوع من المعرفة هو الذي يتوصل للحكم الصحيح ، و يستخدم العقل و يضع الخير في مجموعة نصب عينيه ، و نظرية المعرفة الارسطية تقوم على عدم وجود أشياء هذه المثل ، فهذه الاخيرة ليست إلا مجازات شعرية ، و نجد ان العلم عند ارسطو هو المعرفة البرهانية ، أي المبرهن عليها و نجد ان هذه المعرفة دائما قائمة على وسائط ، و معرفة النتائج من خلال المقدمات ، فالعلم هو تحديد لعلة الأشياء ، و هذا هو ما يعنيه المبدأ الارسطي القائل بأن معرفة العلم هي معرفة الاشياء من خلال عللها ، و المعرفة الارسطية تتكون عن طريق الادراك الحسي الذي يكون في الذاكرة، و بدأ العقل في دفع الحواس الى التجربة و هذه الاخيرة تكون من خلال معرفة الاسباب ، و المعارف ، و العلل ، تم نجد مرحلة التأمل النظري للوصول الى الاستنتاج و الحكم ، و التقط أرسطو الخيط من أستاذه لكن بدا له أن ذلك الكلي الذي يبحث عنه هو مفارق لما جاء به أستاذه أفلاطون ، لا يجب أن نستمر في البحث في ذلك العالم ، بل علينا أن نبحث عنه هنا في نطاق الاشياء المحسوسة ذاتها ، و رأى أن الكلي هو الماهية التي يقوم عليها كل شيء محسوس عيني ، و بهذا تحول المثال الافلاطوني الى الطبيعة الحقيقية ، فأرسطو لا يرى تعارضا بين الادراكات الحسية المتغيرة و التي هي بغير قيمة و بين معرفة الوجود، و ذلك على الاقل من حيث الاساس ، فقد كان الادراك الحسي عند أرسطو مجرد انفعال ، و هو يتحدث عنه كشيء متغير ، و يدعوه من جانب آخر فعالا ، و هذا لا يعني أنه فعال في انتاج التغير، بل فعال في ادراك الواقع الفعلي ، و ليس مجرد قوة و استعداد محض ، إما التأمل بالنسبة له فهو على الجانب الآخر قوة فعالة حقيقية ، و الحق أنه الوجه الحسي من نظرية المعرفة الارسطية ، و قد اعتبر بان الانسان معيار الوجود ، و قصد بذلك أن الانسان بحواسه هو معيار معرفة الوجود ، فهو لم يرى إلا الحس و سيلة للمعرفة إلا بوجود المادة ، و تمييز ارسطو بين الإنسان و الحيوان يقوم على أساس معرفي صرف ، و الفرق بينهما إنما هو في درجة الخبرة و الاستفادة من الذكريات و تشكيل نوع من الفن و المهارة، و اتسعت فلسفة ارسطو لتشمل نظريات دقيقة و عميقة في المعرفة، فبحث في وسائل المعرفة المختلفة ، و خاصة الاحساس و العقل ، و قد ذهب ارسطو في بحثه الى القول بنظرية غريبة ، و طريفة إلى حد ما ، فهو يقول ان العضو الحاس يتلقى صورة المحسوس في الأشياء بعملية تجريد مؤداها أن العضو الحاس بجرد الصورة الحسية عن مادتها فينطبع بها ، أي أن الاحساس هو انتقال الصورة الحسية الى الوجود بالفعل ، في العضو الحاس كالعين مثلا ، فاليد تسخن بالحرارة ، و الأذن تتحد بالصوت ، و معنى هذا أن الاحساس عند أرسطو ليس عملية جسمانية ترجع الى الجسم كما يرى افلاطون مثلا ، او كما شاع من الجسم هو الذي يتعامل مع المحسوسات في حين يظل العقل مجردا من المجردات ، و إنما ينتهي تفسير ارسطو للإدراك الحسي بأنه عملية تستدعي عمل النفس ، بالإضافة الى الجسم ، و استخلاص الصورة من مادتها ، اي انها عملية تجريد تمهد لعملية تجديد أخرى أعلى ، و تحدث حين يدرك العقل المجردات ، أو حين يرتفع من ادراك الجزئيات ، المحسوسة الى الكليات أو الماهيات العقلية ، و ينتقد ارسطو اولئك الذين يقولون بأن الإحساسات هي واحدة ، و ينتهي الى اثبات ان كل احساس يختلف عن الآخر ، تبعا لإختلاف أداة الحس ، فموضوع السمع يختلف عن موضوع الابصار ، فالصوت موضوع الأول ، و اللون موضوع الثاني ، و على خلاف الكميين و دوجين[1] ، ” و قد كان حكيما فاضلا، متقشفا لا يقتني شيئا و لا يأوي الى منزل ، يقول بأن الله تعالى علة الخيرات و الفضائل و الوجود و العقل ” [2] ، الذين اعتبروا أن المخ هو أساس الاحساس، اتجه الفيلسوف ارسطو الى التأكيد و القول بأن المحسوس على ثلاثة أنواع من الاشياء نوعين يدركان بالذات و نوع يدرك بالعرض ، و من النوعين الاولين احدهما هو المحسوس الخاص بكل حاسة ، و الآخر يعممها جميعا ، و يقصد بالمحسوس الخاص ذلك الذي لا يمكن ان يحس بحاسة أخرى ، و يستطيع ان يقع الخطأ فيها ، مثلا البصر حالة اللون ، السمع حاسة الصوت ، الذوق حاسة الطعام ، و اللمس موضوعاته مختلفة ، و المحسوسات المشتركة هي الحركة ، و السكون ، و العدد ، و الشكل ،و المقدار.
-
البصر[3]
عند ارسطو هي اهم حاسة لأنها تأتينا بقدر هام من المعلومات ، و موضوعها الاساسي هو المرئي ، و المرئي هو اللون بالذات ، و هذا الاخير ليس ماهية ، بل ما يكون مرئيا لأنه يحمل في نفسه علة رؤيته ، و في كل لونه القوة على تحريك الجسم ، و هذا السبب في ان اللون لا يرى الا من خلال الضوء ، فأرسطو يؤكد وجود الضوء كوسط اي كحد وسط ، و بدونه تنعدم عملية الابصار ، فالضوء مجرد وسيط ينفذ فيه اللون الى العين ، فتنفعل العين بدون أن يكون هناك وسيط .
-
السمع والصوت
يبدأ ارسطو حديثه عن حاسة السمع بالتمييز بين الصوت و السمع ، فالصوت يقال لمعنيين ، الصوت بالفعل و الصوت بالقوة ، فنقول عن بعض الاشياء لا صوت لها ، مثل الاسفنج او صوف ،و عن بعض الاشياء الأخرى ان لها صوت ، فالصوت بالفعل يكون دائما عن شيء بالإضافة الى شيء آخر ، و قد استطاع ارسطو التمييز بين حاسة السمع الأذن ، و بين موضوعها ألا و هو الصوت ، وميز بين حاسة البصر و العين ، و موضوعها المرئيات اي انه استطاع التمييز بين الحاس و المحسوس ، بين المدرك و المدرك .
-
الشم و الرائحة
يذهب العلماء القدامى الى ان حاسة الشم موجودة في الأنف ، و يختلفون في مركز هذا الإحساس الذي تنتهي اليه الاعصاب الشمية ، و يرى الكميون و ديوجين ان الشم موجود في المخ ، غير ان افلاطون ذهب الى ان مركزه موجود في التجويف الممتد بين الرأس و سرة البطن ، و قد خالفهم ارسطو، و اعتبر ان القلب هو مركز الشم ، و قد اكد ارسطو ان هذا الاحساس ليس دقيقا عندنا ، فالأنف لا يدرك اي رائحة مصحوبة بالألم و باللذة ، مما يدل على أن عضو الحس يخلو من الدقة ، و هذه الاخيرة ترتبط بالمعرفة ، و ما دامت ترتبط بالألم و اللذة فهي غير دقيقة عند الانسان ، و اعتبر ارسطو ان الحواس و خصوصا حاسة اللمس هي التي جعلت الانسان أعقل انواع الحيوان ، فبعض الناس أفضل موهبة من غيرهم ، لأن ذوي اللحم الغليظ أقل ذكاء من ذوي اللحم الرقيق ، و الهواء عند ارسطو هو الوسط في حاسة الشم، فلا يستطيع الانسان الشم بدون التنفس اي تنفس الهواء .
-
الذوق و الطعم
اتفق كل من أفلاطون و أرسطو على ان الحاسة تعد نوعا من اللمس إلا أن كليهما يدرس دراسة مستقلة ، و قد اكد أرسطو ان المطعوم هو نوع من المحسوس الملموس، فمثلما أن المرئي هو اللون ، كذلك المطعوم هو الطعم ، وقد تحدث ارسطو عن اللسان ، و اكد على انه من اللازم ان يترطب دون ان يفسد جوهره مع انه لا يكون رطبا بالفعل ، و يقول ارسطو ان اللسان لا يدرك الطعم اذا كان شديد البيوسة أو شديد الرطوبة ، فهو حاسة الذوق هو نهاية الاعصاب المنتشرة في طبقة اللسان الظاهرة ، و هذا ما ذهب اليه العلم الحديث. فأفلاطون و أرسطو لم يستطيعا التمييز بين الاعصاب الحسية ، و الاوعية الدموية حينما ذهبا الى أن الاحساس الذوقي ينتقل خلال الاوعية الدموية ، و العروق المتفرقة من اللسان الى القلب .
-
اللمس عند ارسطو
يعتبر اللمس لدى ارسطو أول قوى الحس في الحيوان ، و أما نفس الانسان ، فإن مبدأ وجوده كإنسان فهو العقل ، و إذا كان الادراك الحسي هو ما يميز الحيوان عن النبات ، فإن ملكة الحس لا يكون لها وجود عنده الا بالقوة ، و لا تنتقل الى الوجود بالفعل الا بعد ان تنفعل بالمحسوس ، الذي يكون له وجود بالفعل يقول ارسطو ” إلا أن ملكة الحس هي بالقوة ، كما أن المحسوس هو بالفعل ، فهي تنفعل إذن من حيث أنها ليست حتى إذا انفعلت اصبحت شبيهة بالمحسوس، و اتصفت بوصفه ” ، أن يكون الكائن قادرا على الانفعال ، بالموضوع ، أي استقبال الصورة المحسوسة ، لذلك الموضوع ، و كان الموضوع مهيأ لإحداث فعل او تأثير في الاحساس فيمده بصورته ، و النتيجة هي ان قوة الحس عند الكائن تتوحد مع صورة الموضوع المدرك و تنتقل الى الوجود بالفعل ، و في سياق تحليله، لملكات النفس ، انتهى ارسطو الى وجود تلازم ، و ارتباط بين بعض الملكات ، و من امثلة ذلك قوله ان ملكة الحس تنشأ عنها ملكة أخرى ، و هي ملكة المخيلة ، بحيث يمكن القول انه كلما كانت القوة الحساسة ، الا و وجدت معها قوة المخيلة ، اذن فهناك علاقة قوية بين الإحساس و التخيل و كذلك توجد علاقة بين التخيل و النزوع و الشوق ، يقول أرسطو ” و اذا كان في كل جزء الاحساس ففيه أيضا التخيل و النزوع ، لأنه اذا وجد الاحساس و جد الألم و اللذة ، و اذا وجد الألم و اللذة بالضرورة سوف يوجد الشوق ” ، و اعتبر ارسطو بأن ملكة التخيل أو المخيلة تابعة للإحساس ، فالنفس الحاسة تستطيع التخيل ، و ما دام الاحساس كائن في النفس البشرية حين اذن سوف يكون الألم و اللذة ، و يلخص ارسطو في النهاية الى ان هناك قوتين محركتين ، و هما النزوع أو الرغبة و العقل العملي ، و هذا الاخير هو العقل الذي يستدل لبلوغه غرض معين ، ما فيما يخص الحاسة المشتركة باعتبارها ذلك الحس الباطن الذي تجتمع فيه جميع الاحساسات من الحواس الظاهرة ، و هو بمثابة المركز للحاس الظاهرة ، و يؤكد ارسطو أنه لا يوجد عضو خاص للحس للمحسوسات المشتركة ، التي ندركها بالعرض ، بواسطة كل حاسة كما يقول ارسطو و يؤكد ابن رشد على أنه لو كان هناك حاسة سادسة لكان لها عضو آخر [4]، فلو كان هناك حاسة اخرى لكان هناك عضو آلة اخرى ، فالمحسوسات إما أن تكون أصواتا و ألوانا أو طعوما أو محسوسات باللمس ، إذن لا وجود لحاسة سادسة مشتركة .
-
المعرفة العقلية
ان العقل على حد تعبير ارسطو آخر ما ينشأ من ملكات النفس ، في كتاب الدعوة للفلسفة، فغايتنا كبشر هو استخدام العقل الذي من اجله نشأنا ، و تحتل نظرية المعرفة مكانة مرموقة بين العلوم البشرية فهي اساس كل معرفة و نظرية يتبناها الانسان، و تعتبر ابجد العلوم و هي الاساس لكل رأي ، و نظرية يتبناها العالم في كل من مجال الفلسفة ، و العلم الطبيعي، و يرى ارسطو باننا نصل الى الكلي عن طريق الجزئي من خلال الاستقراء ، فجعل التجربة الحسية مقاما مهما في المعرفة ، و العقل ينفعل بصورة المعقول و العقل لا يمكنه ان يمتزج بالجسم و البدن و الحواس و من تم فإنه سوف يصبح شيئا محدودا من جهة الجسم فقط ، أما باردا أو قد يكون له عضو من أعضاء الحس، و يرى ارسطو ان العقل لا يمتزج بالجسم فالحاسة لا تقوى على الادراك عقب تأثير المحسوس ، فنحن مثلا لا ندرك الصوت عقب سماع أصوات جديدة ، و لا نستطيع أن نبصر عوض رؤية ألوان شديدة ، أما العقل عندما يعقل معقولات شديدة فإنه يكون أكثر قدرة على تعقل المعقولات الضعيفة ، وبهذا فإن ارسطو ينتقد سابقيه ، لأنهم نظروا الى العقل نظرة مادية ، و أضعف براهينه السابقة تلك هي النظرة الفيزيقية ، و قد استند ارسطو في توضيح فكرة ان المعرفة العقلية منفصلة عن الجسم بمبدأين ، اولهما المبدأ التجريبي ، القائل بأن المعرفة الحسية منبع المعرفة و الفكر ، و هو يعني أن الفكر يجب أن يكون مشتملا على تلك الخبرة ، و ثانيا نجد بأن التفكير هو خاصية من خصائص النفس ، سواء كان خيالا أو بدون خيال ، هكذا فإن التفكير موجود بدون وجود الجسم ، و قد ميز أرسطو بين العقل هو هيولي و بالقوة ، و عقل بالفعل ، و هذا الاخير يمثل العلة الفاعلة للمعرفة العلمية ، و قد اكد ارسطو على أسبقية الأول زمانيا ، فلا معرفة تتم في العقل إلا من خلال القوة الفاعلة ، أي أن العقل يتحول من حالة الاستعداد للمعرفة الى الوجود للمعرفة ووجودها ، و بهذا فإنه يمثل لنا المادة و الشكل ، و قد عنى ارسطو أن القدرة على التفكير تسبق التفكير الفعلي ، فتصبح بدون قيمة الا اذا تحولت الى عقل بالفعل ، فالعقل يظل صفحة بيضاء حتى تتشكل لديه القدرة على تجريد المعقولات ، اذن فالوجود بالقوة هو مجرد إمكانية و استعداد من اجل تلقي المعقولات ، و الوجود بالفعل يبلورها و ينقلها ، و بهذا يصبح العقل و المعقول شيئا واحدا .
و حسب ارسطو يرى بأن الافكار تتكون بالفكر و ليس بالإدراك الحسي ، و قد اراد التمييز بين العقل قبل الادراك الحسي و بعد الادراك الحسي ، أي أنه ميز بين العقل بالقوة و الذي هو المادة ، و العقل بالفعل و الذي هو الشكل ، فالعقل بالقوة ينمو و يفنى مع البدن و العقل بالفعل يظل خالد ، و قد أراد ارسطو التمييز بين درجات المعرفة العقلية .
- المعرفة العقلية المستندة الى الخبرات الحسية: تلك التي تنطبع على صفحة العقل منذ وجود الإنسان.
- المعرفة العقلية التأملية الخالصة : و التي تستند الى أي خبرة حسية ، وهذه المعرفة لا ترتبط في ذاتها بأي شيء حسي أو ملموس ، بل تصبح عقل مدرك للمعقولات بالفعل ، بالإضافة الى هذا فقد ميز ارسطو بين العقل النظري ، و العقل العملي، فالأول يتعلق بادراك المجردات و التمييز المطلق بين الخطأ و الصواب و الصادقة و الكاذب، و العقل العملي ، هو تلك القوة التي تتجه الى ما يجب تجنبه أو طلبه من المحسوسات ، و تساعد على التنبؤ بما هو لذيذ و مؤلم حسن أو قبيح فالعقل النظري هو الذي يضع القواعد و المبادئ التي تحكم السلوك الإنساني ، و العقل العملي هو الذي يلتزم بتطبيق هذه المبادئ، و القوانين في إطار تحقيقه لغرائز النفس ، و ارسطو لم يكن يؤمن لا بخلود النفس ، و لا بخلود العقل ككل فلحظة مفارقة الواقع المادي لإدراك ما وراء يكتسب صفة الخلود ، و الازلية ، و أول خطوة يخطوها الفكر في سبيل المعرفة هي الادراك الحسي ، فإذا اجتمعت في الذهن طائفة من الادراكات الجزئية ، و احتفظت بها الذاكرة ، بدأت الخطوة الثانية، و هي التجربة من أجل معرفة أسبابها و عللها و علاقاتها و يصل العقل الى مسألة التأمل النظري ، و بهذا رتب ارسطو الى نظرية أخرى مغايرة لأفلاطون ، فقد أمن بدور الحواس في تكوين المعرفة و كما قال جون لوك ، فالعقل هو عبارة عن صفحة بيضاء و التجربة الحسية هي التي تملأ العقل بالأفكار، و قد استحق بها لقب المعلم الاول .
-
منهج الاستقراء عند ارسطو
و هو أساس نظرية المعرفة عند ارسطو ، و الاستدلال الاستقرائي و هو احد اشكال الاستدلال و بتعبير منطقي هو الاستدلال الذي ينتقل من الجزئي الى الكلي، أي انه الحكم على الكلي بما يوجد في جزئياته جميعا ، و هو الاستقراء الصوري الذي ذهب اليه ارسطو و حده و سماه القياس المقسم او الحكم على الكلي ، بما يوجد في بعض اجزائه ، و هو الاستقراء القائم على التعميم ، و ارسطو يعي تماما أن استقراءه لا يثبت النتيجة ، إلا اذا دخلت كل الحالات تحت الفحص ، فالاستقراء الذي يؤدي الى نتيجة يقينية لا يبدأ من الوقائع الفردية على الإطلاق ، انما هو للتدليل على أن ما تثبت صحته عن كل الفئات الفرعية التابعة لفئة أعلى سيكون صحيحا عن الفئة الأعلى ككل فمقدمات هذا الاستقراء كلية ، على الدوام ، و في المنطق هو الانتقال من الجزئي الى الكلي، و هذا الاستقراء لا يمكن اعتباره برهان فلو عدنا الى مبحث القياس في المنطق سوف نجد هناك القياس و البرهان فكل قياس هو برهان ، و ليس كل برهان قياس ، فالأول يعطيك المقدمات الصحيحة و النتائج الصحيحة حتى في جهة المحصورات ، و الثاني اي البرهان يوصلك بطريقة مباشرة الى موضوعية و صدق تلك القضية المنطقية، و يعتبر ارسطو اول فيلسوف جعل للاستقراء مكانة في الفلسفة ، و الاستقراء هو تراث إنساني ، و هو نوعان حسب المعلم الاول ، و هو الاستقراء التام الكامل ثم الحدسي؛ فالأول يقوم على الاحصاء التام لجميع جزئيات الظاهرة ، و قد جعله ارسطو في نفس درجة اليقين و يقتضي احصاء جميع حالات الظاهرة و هذا الاستقراء هو بمثابة تلخيص لكل ما شهدناه ، أما الثاني فهو الذي نحكم فيه على جزء واحد الذي يخول لنا الحكم على باقي اجزاء الظاهرة، فيكفي أن أحكم على واحد من الحديد بأنه يتمدد لكي اعممها على باقي أجزاء الظاهرة أو الحديد الآخر ، أي توجيه حكم على جزء واحد من أجل الحكم على باقي الجزئيات ( دلالة تضمنية في علم المنطق ) فالاستقراء الحدسي عند ارسطو ، هو اذن الانتقال من الجزء الى حكم عام ، و قد استخدم ارسطو هذا المنهج في محاولته الجادة من اجل استنباط نتائج كلية لعلم الأخلاق ، فالعلم هو الشيء الوحيد الذي يحتاج اليه الانسان فمثلا نجد أن من يعرف نظرية الملاحة هو الملاح الافضل، فمن يعرف نظرية ما هو أفضل يقوم بعمله ، و يعد الاستقراء الارسطي ضروري في نظرية المعرفة، التي تتأسس على التجربة الحسية ، فهو رافض لفكرة ديكارت أن الانسان يولد ، و في ذهنه افكار فطرية ، و اعتبر ان كل معرفة لا بد ان تمر بيد الحواس اولا ، و لكن مع ذلك نجد ان ارسطو وازن بين الطرفين ليعطينا فكرة كانطية عن العقل ( التجريد ) ، و الحواس ( الواقع) ، حيث اكد على انه بالرغم من ان التجربة الحسية تعطينا الافكار و المعلومات إلا أنها تكون غير منظمة ، و هذه المهمة أي التنظيم يتولى العقل فعلها ، فالعلم عند ارسطو هو المعرفة البرهانية اي المبرهن عليها و المعرفة البرهانية هي دائما معرفة من خلال وسائط ، فالعلم هو تحديد لعلة الأشياء ، و العلم هو معرفة النتائج من خلال المقدمات ، فالمعرفة الارسطية ما هي الا رباط بين الحقيقة التي نسميها النتيجة و الحقائق الأخرى التي تعتبر هي المقدمات التي تعطي الإستنتاج الصحيح ، و ذلك من خلال الاستدلال فمعرفة العلم هي معرفة الاشياء من خلال عللها ، علاوة على ذلك نجد ان الادراك الحسي عند ارسطو لا يستطيع ان يقدم لنا حقيقة علنية و الذي يستطيع اثباته هو واقعية تلك الحالة أو الحادثة ، اذن فالعلم الارسطي إنما هو معرفة الترابطات الكلية ، بين الوقائع و الأحداث ” الحقائق تدرك بالحس أو الفحص الداخلي ، و تظهر لنا واضحة بذاتها امام العقل أو الذهن و لكن تصبح معلومة لنا كنتيجة لاستقراء التجربة الحسية ” هكذا يتبين ان ارسطو إما أنه افلاطوني ، أو أنه تجريبي ، و يؤكد ارسطو بأننا نصل الى التفكير بشأن البديهيات عن طريق الإستقراء ، بهذا المعنى فهو في هذه الحالة يعتبر سلفا للفيلسوف التجريبي جون لوك ، و جورج ستيوارت ميل ، و مفهوم الاستقراء حسب ارسطو انه وظيفة و مقارنة الحالات ، و ذلك من خلال تركيز الانتباه على المبدأ الكلي ، و لم يكن العقل ، واعيا قبل عقد المقارنة ، فالإستقراء يجعلنا نركز على مبدأ واحد فالاستقراء يوصل العقل الى الإنتباه الى المبدأ و العقل هو الذي يرى بنفسه ان المبدأ صواب ، و يرى العقل ذلك بوسيلة الفحص الداخلي المباشر تماما كما يحدث في حالة الادراك الحسي ، فمبادئ العلم تدرك عن طريق التجربة الحسية، لكن لا تدرك الا عبر الفحص الداخلي الباطني الخالص ، فلا يدخل في تكوينها اي معطيات حسية ، و بهذا نجد ان رفض ارسطو الظاهري للخيالات القمرية التي تعلو على التجربة انتهى الى الفراغ ، فالفرق بينه و بين أستاذه أفلاطون، يكمن في وضوح الرؤية العقلية عند هذا الاخير ، فهو يؤكد على ان كليات العلم الدقيق لا توجد في ادراكاتنا الحسية ، و أنها نظام من التصورات المثالية المتداخلة التي تسعى التجربة الى تقليدها.
الوجود عند ارسطو ( الفلسفة الاولى )
الانطولوجيا من حيث معناها اللغوي هي كلمة ذات جذر لاثيني مكونة من مقطعين باتحادهما يكون معناها علم الوجود ، و هي تعني من جهة أخرى الكينونة عند الفيلسوف مارتن هايدجر في كتابه “الوجود و الزمان” ، و التي تتعلق بما هو غير جوهري يتعلق بالظواهر ، و الأنطولوجيا هي في الاصل الفلسفة الاولى عند ارسطو ، و هي العلم بالوجود من حيث هو موجود و هي بمعنى قريب من الاول ، و علم الجوهر في فلسفة ديكارت و لايبنيز بمعنى أن الشيء له مكان و كينونة ، و علم الوجود هو قسم من أقسام الفلسفة يبحث في ماهية الوجود و جوهره ، ناهيك عن أعراض هذا الوجود ، و هي مبحث من المباحث التي تتناولها الفلسفة بالتفصيل ، و تعد عند الفيلسوف ارسطو العلم بالوجود بما هو موجود ، و تجدر الاشارة الى أن الانطولوجيا كمصطلح هو أعم من مفهوم الميتافيزيقا عند ارسطو ، و الانطولوجيا تبحث عن صفات الوجود في ذاته ، و هي مذهب من يرى أن الموجود مطلق ، و فلسفة الوجود تتعلق بطبيعة الواقع بشكل تجريدي حين تستخلص صورة اللامادي من أشكاله الملموسة المحددة ، و هناك بعض الدراسات التي تؤكد على أن الوجود أو علم الوجود ظهر مع الفلاسفة الطبيعيين الاوائل ، و بالضبط مع طاليس الذي أرجع أصل الكون الى الماء اي انه قال بعلة واحدة مشكلة للوجود ، و في سياق آخر نجد بأن هناك مجموعة من الدراسات التي حاولت ارجاع أصل الفكر ، و الوجود الى الشرق الادنى القديم و الحضارات الشرقية القديمة ، و يمثل هذا الرأي الاستاذ ري في كتابه “شباب العلم اليوناني“ ، و لهم في هذا الرأي حجج تستند الى الموضوعية و العلمية الدقيقة، و قد كشفت بحوث المستشرقين عن وجود حضارة شرقية بابلية زاهرة ، و نجد فيها مثلا آراء عن الخلق و الكون من الماء تشبه في الظاهر كلام طاليس ، و قد كشفت أوراق البردي المعروفة عند المصريين عن براعتهم في الرياضيات ، و الانطولوجيا هي مبحث في الفلسفة الاولى ، و هي تهتم بالوجود و أول من وضع نسقا فلسفيا هو ارسطو ، و اول من وضع اسم الفلسفة الاولى ، هذا الأخير لم يستخدم مفهوم الميتافيزيقا، بل استخدم اسم الفلسفة الاولى ، و نجد ان الانطولوجيا هي العلم الذي يهتم بدراسة الوجود بما هو موجود في ذاته و علم الوجود معاد الميتافيزيقا، و قد كان ارسطو اول من ادخل هذا العلم الى الفلسفة و الانطولوجيا مكونة من كلمتين ؛ انطو و تعني الوجود ، و لوجي ، و تعني العلم ، ، و قد ورد هذا العلم في القاموس الذي ألفه رودلف كوكلينيوس[5] سنة 1613 ، و اول من استخدم هذا المصطلح عنوانا لكتاب هو كريستيان فون ، وولف في القرن 18، و مفهوم الميتافيزيقا استعمل من احد تلامذة ارسطو و هو اندري كوس الروديسي و الفلسفة الاولى تتناول العلل و الاسباب ، و لهذا اهتمت بالوجود بشكل كبير و تقوم الانطولوجيا عند ارسطو على مفهوم الجوهر و العرض ، فما به يقوم الشيء هو الجوهر ، و الجوهر ما به يتحقق الشيء ، و الجوهر هو الشيء الثابت في الشيء و هو الهوية و الماهية ، اما العرض هو مجموعة من الصفات و الخصائص و التي اذا زالت لا يزول معها الشيء ، و قد تناول الفلاسفة الآخرين مفهوم الوجود مثل فلاسفة المدرسة الملطية ، الذين ارجعوا أصل الوجود الى عناصر الجذور الأربعة كما سماه امبادوقلس ، كأن العلة من جنس المعلول مثلما فعل طاليس ، فماهية الشيء حسب ارسطو تكون فيه و ليس خارجه و قد تمكن بفضل نقذه لنظرية المثل الأفلاطونية التي تؤكد على أن الكلي هو الحقيقة المطلقة و أنه معزول تماما عن الجزئي ، إذ لا يمكن في نظر ارسطو ان يكون الكلي الذي هو ماهية الشيء خارجا عن الماهية نفسها و ماهية الشيء حسب المفهوم الارسطي يحب أن تكون فيه لا خارجه ، و ذلك بعد أن يجمع ارسطو العلل الاربعة الأولى ( المادية ، الصورية ، الفاعلة ، و الغائية ) من أفكار الفلاسفة المتناثرة الذين سبقوه و منهم ارسطو و هذا يدل على سعة اطلاعه على الثقافات الغربية الأخرى، ولهذا يقول عنه ابن سينا “أول من مد يده الى تمييز مخلوط ، و تهذيب مفسد” و حسب ارسطو يجب دراسة الوجود في :
- ذاته : أي دراسة الوجود في ذاته ، لا من خلال كليته ، أو شيء آخر .
- ماهيته: عدم البحث في خصائص خارجية و أعراض زائلة و ظاهرة بل ننظر إليه في مقوماته.
- كليته : دراسة الوجود في كليته ، و عدم الاهتمام بالجزئيات ، فعلماء الفيزياء يدرسون الوجود في جزئياته و عدم الاهتمام بالكليات، و الفلسفة الاولى هي تبحث في الفلسفة البعيدة اي السبب الاقصى ، تبحث عن العلة التي خلف كل علة الى أصل العلة ، و التي لا علة و هي الله و الفلاسفة الآخرين ارجعوا الوجود الى عالم المثل عند أفلاطون ، و نجد ان ارسطو قد انتقد الفلاسفة السابقين لأنهم ظلوا يبحثون عن علة واحدة ، و هي العلة الفاعلة و قد قسم ارسطو العلل الى أربع ، فهناك العلة الفاعلة و هي ما به الشيء يكون ، و العلة المادية و هي ما به يصنع الشيء ، بالإضافة الى العلة الصورية و هي ما عليه الشيء يكون ، و العلة الغائية و هي ما من أجله الشيء يكون ، و اخيرا نجد العلة الاولى و التي لا علة لها و هي الله ، و يعتمد ارسطو على الهيولي و الصورة في تفسير تغيرات هذا الوجود و ما يحدث فيه من كون و فساد ، و الوجود هو القدرة على التفاعل مع الواقع ، هذا بشكل مباشر أو غير مباشر ، فأرسطو حدد الوجود اولا كجوهر ، و ثانيا كعرض للجوهر ، و الفلسفة المادية تفترض ان الوجود يتكون من مادة و طاقة و ان الظواهر و بما في ذلك الوعي هي نتيجة لتفاعلات مادية ، و قد ابتكر ارسطو مفهوم الوجود بالقوة و الوجود بالفعل ، و الوجود بالفعل أعلى مرتبة من الوجود بالقوة ، و الهيولي وجود بالقوة بينما المادة وحدها هي وجود بالفعل و نحن سوف نكون مخطئين ، اذا فصلنا بين الوجود بالقوة و الوجود بالفعل ، فمثلا الحجارة التي كانت في الارض و لم تأخذ شكلا هي الهيولي ، أي الشيء الذي يوجد في حالة المجهولية ، و الوجود بالفعل هو إعطاء الشكل و هكذا نجد ان العلل الاربعة هي مقومات الوجود ، فالمادة في نظر ارسطو هي وجود الشيء بالقوة ، و ان الصورة عبارة عن وجود الشيء بالفعل فوجود الأشياء هو خروجها من القوة الى الفعل ، و إعدام ما يعدم منها ليس الا رجوعا من الفعل الى القوة ، فماهية الشيء حسب المفهوم الارسطي تكمن فيه و ليس خارجه ، و قد اشتغل ارسطو على العلل الاربع للوجود و ارجعهما الى علتين اساسيتين و هما الهيولي و الصورة ، فالوجود بالقوة مواز للهيولي اي المادة التي لم تتخذ شكلا بعد ، و الوجود بالفعل مواز للصورة ، يقول الاسكندر الافروديسي ” الهيولي هي الاشياء كلها بالقوة ، و الصورة هي الاشياء كلها بالفعل ، فالوجود في ذاته هو الذي تهتم به الفلسفة الاولى عند ارسطو” فمثلا نأخذ مادة الرخام ، فهي مادة اولى لم تأخذ بعد اي شكل يذكر ، لكن عندما يحاول النحات تحويل هذه المنحوتة و يعطيها شكل حيوان أو إنسان فقد أعطاها صورة ، و اهم مفهوم عند ارسطو هو العلة الغائية ليس فقط باعتبارها سيرورة و انقضاء ، و لكن تعتبر هي العلة الحاسمة في جميع العلل ، و نجد أنها الحاسمة في وجود التمثال ، فالنحات الغاية التي دفعته الى البحث عن صخرة الرخام و بفضلها صممت عين مخيلته صورة ، و هي ما دفع يده الى أخذ الإزميل و الإشتغال به على كتلة الرخام الى أن استحوذت الصورة على المادة ، اذن هذه العلة هي الحاسمة و نجد أن ارسطو يطلق على الصورة اسم “ايدوس” و الكلمة نفسها تشير عند أفلاطون الى المثال و هناك في الحقيقة رابط بين الصورة الارسطوطاليسية و المثال الأفلاطوني ، و الإيدوس يجوز دينامية سيرورة التحقق ، يقول الفيلسوف وليام جيمس “إن الميتافيزيقي أشبه بالأعمى الذي يبحث في حجرة مظلمة عن قطة سوداء لا وجود لها “[6]، و يصف شوبنهاور الانسان باعتباره حيوان ميتافيزيقي ، و نجد ان صعوبة تعريف الميتافيزيقا ترجع الى سببين ، اولا اختلاف الفلاسفة في نظرتهم الى هذا العلم و بساطة المشكلة الميتافيزيقية ، فالإنسان بتفكيره الجاد و الذي يكون حول نفسه يدخل في دائرة الميتافيزيقا، و هذه الاخيرة مبحث صعب الدراسة فمثلا نحن لا نجد صعوبة في معرفة الوقت إذ يكفي النظر الى الساعة من أجل معرفة الساعة بالضبط ، لكن إذا سألك أحد ما الزمان ، سوف تدخل في دوامة من الحيرة و الاندهاش لذلك نجد الفلاسفة أفنوا حياتهم في تحليل منطوق هذا السؤال بدأ من زينون الايلي الى اينشتاين في القرن 20 ، و هذا ما جعل الميتافيزيقيا فرعا من أنواع الدراسة الصعبة… و الميتافيزيقيا تستخدم المنطق بالإضافة الى أنها تستخدم التفكير الرياضي على نحو بالغ الوضوح يقول فولتير ” عندما ترى شخصان يتحاوران و لم يفهم أحدهما الآخر فاعلم أنهما يتحدثان في الميتافيزيقا[7] ، و قد عارض أرسطو استاذه أفلاطون الذي يرى أن الموجودات الطبيعية ليست الا ظلال للمثل ، وقد اكد على أن الموجودات الحقيقية هي التي تعبر عن المحسوسات و اما المثل التي هي الكليات اي عالم الافكار الكلية فهي ليست أكثر من أنها لا تمثل سوى الموجودات الحقيقية ، و يعلل ارسطو وجود شواذ المخلوقات، في عالمنا هذا و حالة الاجهاض في الحيوانات بأنه مظهر اخفاق الصورة في تشكيل موجود كامل من الهيولي ، هكذا نجد بأن فلسفة ارسطو في الوجود هي أقرب الى الواقع ، عكس استاذه الذي قال بالكليات و هو عالم الافكار الكلية و التجريد، و قد اكد على ان العلة الغائية ترجع الى الصورة ، و العلة الفاعلة الى المادة ، و قد اطلق على العلة الاولى المادية مصطلح الهيولي و هي المادة التي تكون الاولى حسب ارسطو التي لم تتخذ شكلا ، و العلة الصورية بالصورة[8]، “فالانطولوجيا الارسطية ، معلمة بأربع قضايا تكون بنية مجموعة من المقالات من الألف الكبرى الى الهاء”[9] , ” و على الفلسفة ان تدرك من الجواهر المبادئ و الاسباب ، و الفلسفة هي نظرية الوجود ( الجيم 2)، او سيولوجيا[10]، و اذا كان جوهر ثابت فإن علم هذا الجوهر يجب أن يكون مقدما و يجب أن يكون الفلسفة الاولى ( مقالة الهاء 1)، الفلسفة هي ثيولوجيا[11]، فقد اراد ارسطو ان يدفع بأولية الجوهر الى حدودها القصوى ، ويجعل مبادئ المنطق او البديهيات خاضعة له بإخضاع البديهيات كلها الى مبدأ الهوية و ذلك من خلال تأويل هذا المبدأ انطولوجيا ، و يقول ارسطو قد يمكننا التساؤل عما إذا كانت الفلسفة الأولى فلسفة كلية و يجيب اذا ما وجد جوهر ثابت ، فإن علم هذا الجوهر يجب أن يكون سابقا ، و يجب أن يكون الفلسفة الاولى.
اجمالا يمكن القول بأن فلسفة ارسطو تخطت كل التوقعات كونها عالجت جميع القضايا والمجالات المعرفية المتنوعة ، و التي جعلته مؤسس أول نسق فلسفي متكامل يشهد له بالعبقرية الفكرية و العلمية التي شهدها في عصره ، و الذي كان له دور كبير في نهوض الفكر الفلسفي اليوناني ، استحق عليه لقب أستاذ فلاسفة اليونان ، و المعلم الاول بدون منازع ، أثر في مجموعة من علماء و فلاسفة و مفكري العصر الحديث اللذين ما زالوا يسيرون على خطى هذا العبقري العظيم .
الإحالات والهوامش
[1]– ديوجين ، فيلسوف يوناني يعتبر من اكبر ممثلي المدرسة الكلبية ، ولد بسينوب ، بتركيا ، وقد كان شخصية مثيرة للجدل و قد جعل الفقر فضيلة ، و قد عاصر الاسكندر المقدوني ، و الذي روى انه لو لم يكن الاسكندر لرغب ان يكون ديوجين .
[2] – الملل والنحل ، الشهرستاني ، ص 200
[3] – فلسفة ارسطو و المدارس المتأخرة ، مصطفى النشار، استاذ الفلسفة اليونانية، كلية الآداب، جامعة القاهرة.
[4] – فلسفة ارسطو و المدارس المتأخرة ، مصطفى النشار ، ص ” 82″
[5] – كوكلينيوس او سلينوس ، و هو فيلسوف ألماني ، و لد في ألمانيا ، متخصص في علم الاجتماع ، أهم مؤلفاته ، مدخل الى الانطولوجيا و الميتافيزيقا ، و مشكلة المنطق.
[6] – “كتاب مدخل الى الميتافيزيقا ، ارسطو” ، ص 19 , ترجمة امام عبد الفتاح امام .
[7] – نفس المرجع ، ص 20.
[8] – بهذا الصدد يقول الدكتور البير نصري في تبيان شرحه على الهيولي ، عند ارسطو، ( ان الصورة هي المثال الافلاطوني أنزله ارسطو من السماء ، و رده الى الاشياء ، فصارت هذه حقائق بعد ان كانت عند افلاطون أشباحا ) ، ذ. ألبير نصري ، مقدمة في كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين للفارابي ، دار المشرق ، بيروت، الطبعة الرابعة عام 1986م ، ص ” 28″
[9] – كتاب الوجود و الماهية و الجوهر لدى افلاطون و ارسطو ، بول ريكور، درس ألقي في جامعة سترازيوغ، سنة 1953, 1954 ، ص 213
[10] – نفس المرجع ،ص 213
[11] – نفس المرجع ، ص 213
من إعداد : بوشعيب بن ايجا ، طالب بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط – تخصص التعليم الثانوي التأهيلي – الفلسفة