محمد الورداشي كاتب وباحث مغربي له مجموعتان قصصيتان: “حينما يتنكر الوطن لبنيه” (المغرب)، “القرية المهجورة ” (مصر). ومجموعة من المقالات نشرت في جرائد ورقية وإلكترونية داخل المغرب وخارجه.
إن الغاية التي كان يطمح لها نيتشه هي بلوغ درجة التفوق بالفرد الإنساني عامة، والفرد الألماني على وجه الخصوص. وهذه الغاية اقتضت منه أن يمر بمراحل عدة متتالية؛ لأن هذه النقلة لا تقتضي القفز على الإنسان العادي وصولا للإنسان المتفوق، بل إنها تتطلب بناء الإنسان العادي ليرتقي إلى المنزلة المتفوقة حسب نيتشه. إذن، كيف عمل نيتشه على بناء الفرد العادي؟ لقد نهج نيتشه مجموعة من المراحل التي تؤهل الإنسان من درجته الحالية إلى درجة أسمى وأرقى: لقد اعتبر نيتشه المسيحية حجر عثرة في طريق الإنسان إلى التفوق، لهذا اعتبر أن الإله قد مات، بل كل الآلهة قد ماتت ولم تبق من غاية للبشرية سوى بلوغ الإنسان الراقي. ومن هنا، يأتي النقد اللاذع الذي وجهه للمسيحية لكونها تقدم ” فعل الرأفة تجاه جميع الفاشلين والضعفاء”(1)، فضلا عن كونها تحارب في الإنسان كل الغرائز التي تحبب إليه الحياة باعتبارها” غريزة تنام، وبقاء، وتجميع للقوة، وغريزة اقتدار”(2). وهكذا حاول نيتشه أن يخلص الفرد من السيطرة الكنسية المسيحية، وجعله قادرا على قول كلمة لا في وجه كل الواجبات التي يراها سلاسل وأغلالا، ومن ثم يجب التفوق عليها، وكذا رد الاعتبار إلى الجسد وملذاته وشهواته التي تحبب الحياة. فعوض البقاء على إرادة الحق التي يدعو إليها الكهنة ويعملون على إخضاع الفرد لها، يدعو نيتشه إلى إرادة القوة المبدعة والخلاقة لقيم جديدة منحوتة على ألواح جديدة، ومن هنا نقده للأخلاق المسيحية التي يراها أخلاقا للعبيد والحثالة من الناس، وقضاء على الأخلاق الأرستقراطية القوية التي هي أخلاق السادة الأقوياء. فالمساواة، مثلا، التي جاءت بها المسيحية قد قضت على النبالة والأرستقراطية، وعلى كل كريم موجود على وجه البسيطة. كما أن نيتشه يريد أن يحقق للفرد خلاصا أرضيا لا خلاصا أخرويا كما تعد بذلك الديانات السماوية عامة، والمسيحية خاصة. – إن الخطوة الثانية لبلوغ الإنسان الراقي، هي نقد الحداثة المريضة التي أنتجت إنسانا مريضا، وسلاما متعفنا وتسوية جبانة، حسب نيتشه. وبالتالي فإنه مطالب بتخليصه منها عبر فكر فلسفي يقيم للفرد اعتباره ويرد له إنسانيته التي فقدها في فترات تاريخية معينة. – كما أنه صنف المجتمع إلى طبقات، بحيث يحتل المسيطرون عقليا الطبقة الأولى، ثم يليهم المتصفون بالرجولة الجسدية، وأخيرا عامة الناس “الشاندالا” والأراذل الذين لا يتوقون إلى الترقي والتفوق. ولعل تقسيم نيتشه لطبقات المجتمع، نجد له شبيها لدى صاحب المدينة الفاضلة. حيث قسم أفلاطون، قبل نيتشه، سكان المدينة الفاضلة إلى فلاسفة وحراس وعمال. إذن فما الدور المناط بكل طبقة عند كل من أفلاطون ونيتشه؟ لقد كان أفلاطون يشدد على ضرورة بقاء كل طبقة في حدودها الخاصة مقدما لكل واحدة شروطا معينة. فالذين يحكمون، حسب أفلاطون، هم الفلاسفة الحكماء، في حين أن نيتشه يرى أن في الطبقة الثانية ملكا وحراسا و… مطالبون بتنفيذ أوامر الراقين عقليا” الذين يرون الواجب امتيازا؛ لأنهم يستخفون الأحمال التي تسحق الآخرين”(3)، كما أنهم اليد اليمنى للملك. إذن فمهمة المسيطرين عقليا هي التفكير والتوجيه، والأقوياء جسديا ينفذون فحسب. لكن لدى أفلاطون نجد أن الفلاسفة اختصوا بالحكمة، والحراس بالشجاعة، والعمال بالتحكم في النفس، أي أن على الحكماء والحراس كبح شهوات وجماح غرائز العمال، بيد أن نيتشه يرفض كل دعوة إلى كبح الشهوات وقمع الغرائز التي تحبب الحياة للفرد على وجه الأرض، وهنا نقطة الاختلاف الأولى مع أفلاطون. كما أن هذا الأخير، وفي ظل تأكيده على استقلال الطبقات، يدعو إلى الجمع فيما بينها لتحقيق ما يسمى بالعدالة. بيد أن نيتشه يرى أن “الفصل بين الطبقات الثلاث ضروري لحفظ المجتمع، ليكون ممكنا قيام أفراد راقيين، ووجود رقي”(4)، فضلا عن كونه لا يقيم اعتبارا للطبقة الثالثة” طبقة المستعبَدين”، وإنما يجعل من واجب المسيطرين عقليا تقديم يد العون والمساعدة للمتوسطين؛ لأن هذه الطبقة منها أيضا: التجارة والفن و…، وأصحابها هم أواسط القدرة والرغبات، و”حضارة رفيعة مشروطة بالأواسط”(5)، وذلك لكونهم شرطا وضرورة لتواجد الراقين المتفوقين. لكنّ ثمة سؤالا يطرح نفسَه هنا: ما موقع الكهنة من تصنيف نيتشه لطبقات المجتمع؟ يجيب نيتشه قائلا: “الكاهن هو طبقتنا المنحطة “الشاندالا” ويجب أن يكون مبعدا محظورا، ميتا من الجوع، منفيا إلى أي قفر كان”(6). ومن ثم يبدو لنا جليا أن نيتشه يقصي كل عقيدة في بنائه للفرد الراقي؛ لأن العقيدة (الدوغما) حسب تصوره، هي سجن وحجر عثرة أمام تأسيس الفرد لعقيدته الذاتية الراسخة القائمة على الشك المتحرر المدقق. فالنظر إلى العقائد وإقصاؤها من دائرة الأخلاق، قد دعا إليه فلاسفة كثيرون قبله، نذكر منهم جان لورن دالمبير، الفيلسوف الفرنسي الذي رأى أن المسيح هو واعظ أخلاقي، والعقيدة قد أسسها آباء الكنيسة، لهذا دعا إلى تأسيس دين إنساني عقلاني، تكون فيه الأخلاق هي أسّ الدين لا العقيدة. وهكذا يؤسس نيتشه قيمه وأخلاقه الذاتيتين على العقيدة الذاتية المشدودة إلى حب الأرض وعلى خلاص أرضي، لا على عقيدة دينية ما. في كتابه “عدو المسيح” نجده يقدم نقدا لمفكرين من أمثال روبسيير وسان سيمون، ومنه فإن الاختلاف بين هذين الفيلسوفين ونيتشه، يتجلى في دعوة روبسيير إلى عبادة الكائن الأسمى، وسان سيمون في المسيحية الجديدة. فهؤلاء الفلاسفة قد آمنوا بضرورة التمسك بسلطة روحية، وكذا ضرورة ممارسات طقوسية تعبدية مشتركة، وهذا ما ينتقده نيتشه الذي يدعو إلى عقيدة ذاتية وخلاص أرضي. وعلى سبيل الختم، يمكن القول إن نيتشه فيلسوف أخلاقي حتى وإن كانت منهجيته تقوم على الهدم والتقويض للسائد في عصره، ولكن ذلك يعزى إلى كون كل بناء جديد يسبقه تقويض وهدم للقديم. حيث قال: ” كم سيستحيل علينا آنذاك أن نحيا دون أن نضع قيما”(7). كما أنه سعى إلى تخليص الإنسان الأوربي من وسواس المرض المسيحي “الذي يصيب أولئك الأفراد الوحيدين الذين يعذبهم الأحاسيس الدينية والذين سيستحضرون دائما آلام وموت المسيح”(8).
…………………
(1)عدو المسيح ص 26 ت جورج ميخائيل ديب.
(2) نفسه ص 30.
(3) نفسه ص 168.
(4) نفسه ص 169.
(5) نفسه ص 170.
(6) نفسه، ص 190 “البند الخامس” ضد المسيحية.
(7) إنسان مفرط في إنسانيته، ت محمد الناجي، ص 36.
(8) نفسه ص 46.