ترجمة الصّفحات الأولى لكتاب العزلة ( شذرات من دفتر الإنسان) جاستون باشلار

الصّفحات الأولى لكتاب العزلة

( شذرات من دفتر الإنسان) جاستون باشلار

 ترجمة : عبد الوهاب البراهمـــي/ متفقد عام للتربية/ تونس

 

  • هذا المساء وأنا جالس على حافة الشّفق
  • وقدماي ترقص فوق الأمواج
  • أرى قدوم الليل: يظنّ أنّه وحيدا
  • وقلبي يهمس لي: إجعلني شيئا
  • أحسّه لو كنت على الدوام قلبك

                         (جيل سيبارفيل – جاذبيّة ص 82)

      

      إنّ الصفحات الأولى من كتاب الفيلسوف صعبة وخطيرة بالنسبة إليه، لأنّها تثقل التزامه. يودّ القارئ أن تكون دسمة، واضحة، وسريعة وإلاّ فهي أدبيّة. ويودّ القارئ أيضا أن تبدو له مباشرة، أي متّصلة بمشاكله، وهو ما يفترض اتفاق العقول، اتفاقا، على الفيلسوف أن يضعه موضع التساؤل بموجب مَهّمَّته بالذات. فما تكاد تكتمل الصفحة الأولى، حتى يلج الخيط في سمّ الخِياط. فلا نملك الوقت لاستعادة ما كُتب ولا تعديله ولا البدء من جديد. ولكن، إذا كانت الفلسفة هي البحث في البدايات، فكيف لها أن تتعلّم دون صبر الإعادة؟ فأن نبدأ، معناه في نظام الفكر أن نعي بحقّ البدء من جديد. إنّ الفلسفة هي علم الأصول المقصودة. وبموجب هذا، تكفّ الفلسفة عن أن تكون وصفيّة لتصبح فعلا حميميّة.

    وكما أنّنا قد نحتاج إلى بعض القياسات مجانا ! وإلى الحقّ في فسحة طويلة. قد نعبّر فيها ببساطة عن غبطة التأمّل، كي ندرك أن التأمّل فعل، فعل فلسفي نقوم فيه بالتأمّل الخالص. وقد نجعل منه سلوك الذات المتفلسفة. فلْنلعب بالكلمات الجميلة المجرّدة. ونؤمن بها. ثمّ نكفّ عن ذلك، سُعداء بما نعيشه من تجريد آخر. أن نحيا التجريد، أيّ حركيّة هذه! كلّ الأفكار، الخطيرة والدقيقة، الشغوفة والفاترة، العقليّة والخياليّة، هي بعض من هذا الجزء التأمّلي. إنّنا نشكّ بعقولنا أو بقلوبنا، عن معرفة أو عن سذاجة، منهجيّا أو بإفراط، بإخلاص أو عن مكر. إنّنا نعدّه بعدُ للمشاهد الكبرى حينما يتبادل الكون والإنسان الأعزل نورهما وتحدّيهما، حينما ينهار الإنسان أو يَكْره. إنّنا نتغنّى بالفيلسوف في الحقول، بالفيلسوف في سجنه، في بهجته وفي بكاءه. ويصبح الزمن شبابا وموتا، نقطة أرغن. وسيعرف كيف يعلّق نفسه. و سيكون زمنا منه يبدأ كل ّ شيء من جديد، ويندهش. وقد نتساءل فيه فجأة: أين أنا ؟ ومن أكون؟ داخل أيّ فضاء خياليّ سجنتني حبائلي ؟ ما هو هذا الطّبع الغريب للفكر الفلسفي الذي يجعل المألوف مُدهشا؟ وما هذا المسلك الغريب للفلاسفة حيث كل نقطة هي ملتقى طرق؟ إنّ التفكير الفلسفي ترّدد مستمرّ، وهو جدّ أصمّ حتى حينما يكون له الضّمانات الدغمائيّة الفخمة. وحتّى إذا ما تقدّم، انطوى على نفسه. نقول عنه واحد وينكسر. أفلا يجب أن نزيح عن الفيلسوف التعريف البريسيbarrésienne للشّاعر: أليس الفيلسوف ” مغترب يصنع مغتربين”؟ وبالفعل، لو نظرتُ في نفسي، كنت” أنا هو آخر”. إنّ مضاعفة الفكر هو آليّا مضاعفة الكائن. إنّ الوعي بكوني وحيدا هو دوما في الظلّ، الحنين إلى أن نكون اثنين.

      ها أنا إذن مادّة للشكّ، مادّة لثنائية هائجة، ثقيلة وخفيفة كلّما وقع إثراءها أو تبخّرت، كلّما سالت أو هربت. يتناقض الكون مع نفسه فيّ أنا متأمّلا، في الغبطة والذّهول. إنّه مادّة صلبة وخادعة. وينعزل الكون كلّه فيّ أنا وقد جُنّ جنونه إلى حدّ يظنّ فيه نفسه فكرا واحدا.

    غير أنّه وقد كاد أن يؤلّف في واحد، هاهو الكون يتعدّد. وينظّم الفكر، مجدّلا كل وحدة، إلى عتبة مَغْناته، تأمّله المتعدّد الأشكال. فيمنح حواسّنا كلّها، الذوّق كما البصر، الوقت المحدّد للتأمّل. فيكون لكلّ حاسّة من حواسّنا شخصيّتها، ولكلّ شخصية ديكورها. إنّ وصف الديكور في الأدب هو دائما من شأن البسيكولوجيا. سيكون هناك على الأقلّ خمسة عوالم محسوسة وخمسة أنظمة عزلة حسيّة. وسيكون لكلّ عوامل الكون الموجودة بالقوّة في الحياة الإنسانية، حرية التحكّم في عالمها، وتمجيد الإمبريالية الفلسفيّة للذات وحدها. آه ! لو كان للفيلسوف الحقّ في التأمّل بكلّ كيانه، بعضلاته وبرغبته؛ مثلما يتخلّص من تأمّلاته        المتصنّعة حيث يجعل المنطق من التأمّل عقيما ! أو بالأحرى، مثلما يضع التأملات المتصنّعة تحديدا في مكانها الملائم، تأملات فكر الدقّة والفكر المُعنّى والماكر الذي يتمسّك بإرادة التفريق، والذي له على الأقلّ وظيفة جميلة، التخفيف من صلابة القناعات المقفلة !

    ينكشف الكون مدخلا لكلّ أنواع التأمل، متهيّئا لاحتضان أكثر الأفكار عزلة. يكفي التأمل طويلا في فكرة رائعة حتّى نرى الكون قد حقّقها. يمكن للمخطّط أن يكون هشّا. ويكفي لقطيعة عزلة أن تحطّمه. ولكن، تكون العزلة، فوق أحلام اليقظة مرتّبة، عالما، وديكورا ضخما لكلّ ماضينا. فكلّ أحلام اليقظة لدينا، أحلام الغابة و الجدول و قطاف العنب والحصاد، قد رسخت هنا، حالاّ، في هذه الشجرة وفي هذه السنبلة. تكون أقلّ الأشياء بالنسبة إلى فيلسوف حالم منظوريّة حيث تنتظم كلّ شخصيته، أفكاره الأكثر سريّة والأكثر عزلة. فكأس النبيذ المصفرّ هذا، النديّ، والجافّ، يرتّب كلّ حياتي الشنبانوزية   champenoise  . يُعتقد أنني أشرب الخمر: إنّي أتذكّر…فأقلّ الأشياء التي نتأمّل بإخلاص تعزلنا وتكثّرنا. يحسّ الكائن الحالم بعزلته أمام كثير من الأشياء. وتحسّ الذات الحالمة بتعدّدها ، أمام واحد. 

  هكذا، يترجم الكون والذات الحالمة، في أنواعهما وفي تبادلاتهما الألف، الفعل المحقّق لتأمّل فاعل. يعود بنا التأمّل المنعزل إلى بدائية العالم . بمثل ما نقول بأنّ العزلة تجعلنا في حالة تأمل أولى. يجب على الفيلسوف أن ينعزل في كلّ صورة من صوره كي يصنّف التعدّد الضخم لكلّ التأمّلات الحسيّة. وسرعان ما سيعترف أنّ كل الأنواع الحسيّة هي تعلاّت لكسمولوجيات متفرّقة. إلاّ أنّه يتّجه بأسرع ما يكون نحو تأليفات كبرى، وفي  ايمانه الشفوي في وحدة العالم، يعتقد أن ليس له إلاّ عالما واحدا يقصده. ينفلت عن فيلسوف المدرسة تغيّر الأشكال المُمَسرحة لحلم اليقظة الكوسمولوجي. وحالما تُحبس النفس بإحكام داخل عزلتها، يكون كلّ انطباع فرصة لكون. ومن دون شكّ، تكوّن هذه العوالم بعد ذلك، باختلاطها، عالما مركّبا. غير أن العالم مكثّف قبل أن يكون مركّبا. إنّه مكثّف فينا.  ونحن نرتاح لهذه الكثافة، لهذا الرغبة الحميميّة في انعكاس عالم ما، إذا ما انقدنا إلى هذه الصور الديناميكية، إلى الصور التي تحرّك كياننا. إنّنا نعتقد إذن أنّه، وقبل الميتافيزيقيات التأليفيّة الكبرى والسمفونية، يجب أن تظهر بحوث أوليّة حيث سيُفاجئ تعجّب الأنا وعجائب العالم في أوسع ارتباطها المتبادل. وستكون الفلسفة لحسن الحظّ إذن قد رُدّت إلى رسومها الطفوليّة.

    يًردّ الفيلسوف إلى مصير التأمّل الأول بفعل العزلة. وبها يكون للتأمّل كلّ فعاليّة الدّهشة. إنّ التأمّل الأوّل هو في ذات الوقت، قابليّة للانفعال كليّا وقابلية للإنتاج كوسمولوجية. فتأمّل صباحي مثلا، هو في الحال، عالما نوقظه. ولتوضيح هذه الحركيّة الساذجة لحلم اليقظة الصّباحي، علينا إعادة قراءة القصّة التي يحبّ اوسكار وايلد حكايتها : كان هناك قديس يستيقظ كلّ يوم قبل الفجر، يدعو ربّه أن تشرق شمس هذا اليوم من جديد . ثمّ إنّه حالما يطلع الفجر، يتّجه إلى ربّه بالدعاء يحمده أن استجاب لدعائه. ثمّ إنّه في إحدى الليالي أثقل عليه النّعاس فنام نوما عميقا فنسي صلاته الفجريّة. وحينما استيقظ، كانت الشمس على الأفق. وبعد لحظة اضطراب إذن، قام القديس إلى صلاته يحمد ربّه الذي، رغم إثم إهمال خادمه المطيع، جعل الشمس مع ذلك تشرق.

                                               ІІ

    كي نضرب مثلا عن التأمّل الحالم الذي يبني عالما بالتعمّق في انطباعات عزلة الحالم، لنحاول جميعنا مباغتة شكوك النفس عند الفجر وإغراءات الليل الكونية. ولنرَ كيف ترتّب العزلة في الليل عالم الليل، وكيف ينشط فينا كائن أسود حالك، حينما يشعر الليل فينا بذاته. سيكون لنا إذن رسما أول للمجانسة بين العزلة الإنسانيّة وكوسموس الصحراء.

   سأذهب إذن هذا المساء أتأمّل على الشرفة، وسأذهب لأرى كيف يعتمل الليل، وسأهب نفسي كليّا لأشكاله المطوّقة، ولستائره، وللمادّة المخاتلة التي تلفّ كلّ الزّوايا. وسأحاول الإحساس بساعات هذا الخريف ساعة بعد ساعة، هذه السّاعات التي ما تزال نشطة كي ينضج الثّمر، لكنّها تفقد شيئا فشيئا قوّة الدفاع عن الأوراق المتناثرة من الشجرة. هذه الساعات هي في مجموعها حياة وموت.

    هل الورقة التي تسقط في الليل، هي ذكرى تنشد النّسيان؟ إرادة النّسيان، إنّها أكثر ضروب التذكّر حدّة. هل لألم صغير نطلقه كورقة ذاوية، أن يكون حقّا دليلا على قلب قد سَكَن؟ عند شجرة الزّيزفون وهي تداعب الشرفة، وقرب همسات الأغصان، أنسى مهمّتي كإنسان وشواغل يومي؛ وأشعر بالتأمّل النّسيِّ وقد تشكّل فيَّ، تأمّلا يدع الضّباب يعمّ الأشياء، وهو الذي لا يبالي ليلا بهذه الأمثلة. هل انأ سعيد لرؤية اختصار الكون؟ هل انأ سعيد لكوني أقلّ قربا من صوري، أكثر عزلة بفعل رؤية ملبّدة، وحيدا أكثر؟ هل أنا سعيد لكوني وحيدا في خريف عمري؟… إنّ العزلة في العالم هي في الحال سنّ الشيخوخة.

   هكذا تظهر بانتظام، في السّلم وفي كلّ سنّ، إحالة إلى ماض، يشيب منه الولدان. ليبدأ إذن حوار أصمّ بأصوات خافتة بين السّكون والعزلة. فهل لشيء من سكون اللّيل أن يكون لطفا نحسّه ككائن أو أمانا منعكسا لكائن؟ وهل أن هذا الليل هواء يُثير أم هواء يتنفّس؟ كلّ شيء يتنفّس فيّ وخارجا عنّي. إنّ إيقاعا أشارك فيه، يجذب الكون إلى السّلام. لِقَمر اليوم ضوء الأمس. ولضوء ليلٍ هادئ حجم وديمومة. وكذا الظلّ. يحمي الليل بعزلته الأدغال والأشجار. وتُلقى على المدينة النائمة وحدة وتوازن. ويَحْرس الحديقة الحالمة مزيج من الضوء الخافت واللّيل وقد تصالحا.

   إنّي أعتقد إذن في سكون الأشياء في اللّيل. وقد أهب سعادتي وسكينتي، وزهدي في هذا العالم البسيط والهادئ. ولكن بينما أنا أحلم بكلّ لطف، تُوقظ بعض النّسائم ألما نائما. وتريد روحي وهي عزيزة المنال، أن تغيّر الكون. هل سأشكّ بألمي، مثل قلب ديكارتي، مانحا نظرة تائهة معنى كونيّا؟ أيّها القلب دافع عن سلامك، أيّها الليل دافع عن يقينك !

    ولكن أين يعتمل هذا الشكّ الذي انبجس؟ من أين يأتي هذا الصّوت الذي يهمس في عمق الليل بهدوء:” ليست إلاّ غريبا في هذا الكون كلّه ! “

    ماذا؟ هل تمثّل ببساطة مشاركة الليل المُجتاح، والمساواة الهادئة بين ظلمات الكائن وظلمات الليل، وتعلّم التجاهل، وتجاهل الذات، نسيانا قليل الحسن لآلام قديمة، آلاما قديمة جدّا في عالم ينسى أشكاله وألوانه، هل يمثّل هذا كلّه برنامجا ضخما ؟ أن لا نرى إلاّ ما هو أسود، وأن نتكلّم إلاّ في الصمت، أن نكون ليلا في الليل، وأن نتدرّب على أن لا نفكّر أمام عالم لا يفكّر، هو مع ذلك تأمّل كوني لليل هادئ مهدّئ. على هذا التأمّل أن يوحّد بشكل أيسر الحدّ الأدنى للكائن فينا مع كونٍ في حدّه الأدنى. ولكن، ها أنّي أشكّ حتى فوق أدنى شكّ، في شكّ غير متشكّل، في شكّ لا واع ، مادّي، راشح يعكّر صفو مادّة هادئة. فالليل الحالك السّواد ليس بوضوح ليلِ حالك السواد. وعزلة الأنا ترتجف. يمنع الليل عنك بداهة عزلته وحضوره. وتعدّد أشكال العزلة الإنسانيّة والكون الليلي على غير كمال. يعاودك حزن قديم، وتستعيد وعيك بعزلتك الإنسانيّة، عزلة تريد أن تَسم كائنا يعرف التغيير بعلامة لا تمّحي. تعتقد أنّك تحلم وتتذكّر نفسك. إنّك وحيد. لقد كنت وحيدا وستكون كذلك. فالعزلة ديمومتك. وعزلتك هي موتك ذاته الذي يدوم في حياتك، وتحتها.

   إذن، كُن فيلسوفا، كُن رواقيّا. وأًعِد تأمّلك قائلا على نهج معلّمك، على طريقتي الشوبهاورية :” الليل عزلتي، الليل عندي إرادة العزلة .” إنّ إرادتي اللّيلية هي أيضا، تمثّل وإرادة. حينما يقذف الإنسان بآلامه إلى الليل، ينتشي الإنسان على الأقلّ بطعم صحّي للإنعكاس.

فلتكن إذن نشطا في فعل عدمك. فالعالم وكينونتك، يعرفان كيف ينقصانه بكثافة. وَلْتفهم أن الحياة يمكن أن تنقص كينونتها بزيادة اتساعها.إنّ الليل النّشط، الليل وقد انعكس سيصبح إذن قليلا من كينونتي المعتّمة والعميقة التي تلقي بسوادها على الأشجار. كائنان أسودان في وجود أسود: هو العدم ذاته يتنفّس.

    غير أنّ هذه الثورة قصيرة المدى. فالكائن المأخوذ بتموّجات الوحدة السّعيدة والوحدة البائسة يرى كل هذه “الإرتكاسات” تلتفت. ففي عودة كلّ السّعادة وكلّ الشّجاعة صدمة. أي نعم، هذه الشجرة وهذا الزيزفون المرتعش ممتلئ بالأغصان، ممتلئ بأوراق ما تزال حيّة – ولاشيء منها لك ! وكي تكون لك إحدى هذه الأوراق، لزم أن يقطفها كائن بشري ويهبها لك. كلّ هبة تتأتّى من أنت. وكل العالم دون أنت لا يمكن أن يهب شيئا.  تمرّ نسائم المساء عليك . وحيد أنت، وحيدا في ظلمة الليل: جملة من قصّة أطفال، فقيرة جدّا، جاهزة- جدّ حقيقيّة !

    هل للروح الرومنسية فيّ أن ترتخي ؟ نسمع بيسر عالم الهمسات، حينما تنطفئ الصّور ! إنّ لهذه الليلة أيضا أصوات جسديّة شهوانية. كيف لا نسمع في الحدائق المجاورة، كلّ هذا الصّخب، صخب الأجنحة، وعشق عصافير الليل؟ هل يمكن للأذن أن تنكر، بحركة جفن مثل العين، هذا الكون المتجانس للحبّ المهموس الذي يجمع تقريبا في صوت واحد شكوى القطط المغتاضة الهائجة لحبّ الحمائم اللطيف والثمل ؟

   لكن تكفي صيحة حادّة حتّى تسرق أحلام. نحسّ فجأة بالرّعب. لست أدري لماذا احتفظ في ذاكرتي بقصيد “لسيبارفيو”Supervielle :

  مقبرة هوائية، غبار سماوي…

   أترجم هذا الشعر بكلّ كياني، في صورة سمعيّة لليْلي. إنّها هوائيةّ ومتحرّكة، هذه المقبرة السوداء.و في الهواء الأسود تمتلئ سماء اللاإنسانيّ:

      حينما يأتي الريح من السّماء

      أسمع وطء 

     الحياة والموت تقايض سجنائها

     في مفترق الطرق التائهة

         ومهما تكن الرّياح التي تهبّ في هذا الخريف الطويل. ومهما تكن الرّسائل الألف لطبيعة زاهية، المثال الحسن لثمار عسيرة الهضم، وزهور فات أوانها. هذه الليلة عندي خالية وصامتة. لقد فقدت جنّة السّعادة. لستُ إلاّ عزلة تحتاج الشّفاء.

                                     V    І

             لا يوجد هنا أيّ تعبير عن الطّبيعة فاقدة الحسّ، واللامبالية. مادمنا لا نملك أيّ شعور نبوح به. إنّ الدليل على عزلتك قادم هذه الساعة حيث تتّحد مع سِلْم الأشياء في ليلة هادئة. إنّها رهنية هذه اللحظة الدقيقة، والقاسية والخالصة مثل العبث –  سهم ! –  حيث  يضيّق تموّج العزلة السعيدة والعزلة البائسة إلى حدّ يتكثّف فيه عبث الألم الإنساني في تناقض: العزلة السعيدة هي عزلة بائسة. لقد حفر القلب الأكثر هدوءا أمام الليل الأكثر لامبالاة، جحيمه. من أجل لاشيء، فوق لاشي وفي قلبي السّاكن، كلمة صغيرة للعزلة، الكلمة وحدها قد غيّرت مزاجها. إنّها نادرة ولكن ما أكثر إنسانيتها ! تلك الكلمات التي تكون حساسيّتها نقيّة جدّا و”قيمتها ” هشّة جدّا !   

      لكن، إذا أزال هذا التناقض غرور الكائن، عبّرنا عنه في اتجاه معاكس لنبرة الشجاعة، لماذا يتخّذ لنفسه حياة أخرى: العزلة البائسة عزلة سعيدة. للبؤس معنى ووظيفة ونبل. وحالما يتهيأ للتأمل في ذات الوقت، المثاليّةَ والصورة، وحالما يغيّر نبرته بالذهاب من القناعة الحزينة إلى القناعة الشّجاعة ، تقدّم التناقضات تأليفا إنسانيّا آخر.

   أوَليست هذه الهشاشة وهذا التحوّل لقيم العزلة، دليلا على أن العزلة هي الملهمة الأساسية للقيمة الميتافيزيقيّة لكلّ حساسيّة إنسانية؟ تحدّد الكلمة الصغيرة لوحدها، في كلّ الأحاسيس وكلّ الأهواء وفي جميع الإرادات، التموّجات اللامتناهية. ويظلّ الشكّ المدروس عامّة بكثرة من قبل الفلاسفة، أكثر غرابة عن عصرنا من انطباع العزلة، والإهمال، والقلق. وإذا كان التفلسف كما نعتقد، أن نبقى، لا في حالة تأمّل دائم فحسب، بل أيضا في حالة تأمّل أوّل، وجب أن ندمج من جديد العزلة الأوليّة في كلّ الظروف النفسيّة. أن ندسّ في كل أحاسيسنا الفرح والخوف من العزلة، فإنّنا نضع هذا الإحساس في تذبذب التحليل الإيقاعي. وبتحويل اليأس إلى شجاعة بواسطة ضجر مفاجئ للسعادة، يولد في الكائن الإنساني المتوحّد نغميّة الحياة التي تهدأ وتتأجّج دوريّا، تتهيّج أوتبتهج. وتشوّش هذه الإيقاعات التي تخفيها غالبا الحياة الاجتماعية، الكائن الحميميّ، وتعدّله. يجب على ميتافيزقيّ أن يذيع الأصداء العميقة. غير أنّ معارفنا الميتافيزيقيّة بالإيقاع قصيرة وسطحيّة. نحن نخلط بين ألإيقاعات الحيّة وبين تموّجات أو تقلّبات المزاج. إنّ التحليل الإيقاعي والذي تتمثّل وظيفته في تخليصنا من الإهتياجات العرضيّة، يجعلنا بهذا الخلاص أمام خيارات حياة نشطة حقّا. وبواسطة التحليل الإيقاعي وبفضل الإيقاعات العميقة ذات الرّجع الحسن، فإنّ المراوحات التي يسمها علم النفس التحليلي كتناقضات يمكن أن تُدمج، ويتغلّب عليها. وتتجلّى إذن مراوحاتُ قيمٍ، بمعنى قيما متعارضة تنشّط كياننا على أقصى حافتين، من جهة الشّقاء ومن جهة الفرح. إنّ العزلة ضروريّة كي تفكّنا من الإيقاعات الظرفيّة. و تقودنا العزلة، بجعلنا قبالة ذواتنا، إلى أن نتحدّث مع أنفسنا، وإلى أن نحيا إذن تأملا تموّجيّا يردّد في كل مكان تناقضاته الخاصّة ويسعى باستمرار إلى تأليف جدليّ حميميّ. فالفيلسوف يتناقض مع نفسه بشكل أفضل حينما يكون لوحده.  

                                             V

     أهذه هي غاية حياتك، أيّها الخيال البائس؟  هل يكون مصيرك كفيلسوف أن تعثر على وضوحك في تناقضاتك الحميميّة؟ هل أنت محكوم عليك بأن تعرّف كينونتك بالتردّد والتذبذب واللاّيقين؟ هل عليك أن تبحث عن مرشدك ومواسيك من بين ظلال الليل؟

   أجيب عن هذه الأسئلة مقدّما صفحة “لرالك” Rilke.

يضيف رالك لمأساته ” الآن وفي ساعة موتناMaintenant et à l’heure de notre mort (في ترجمة أنجلولوزAngelloz) :” وأنت، ترفع بصرك وتقول لي:” يا ابن الشعب، آه ! لم تحفظ العهد يا صديقي…لقد وعدتني في الكراس الأول من الهندباء        المتوحشّةChicorées sauvages ، بالنور والمواساة، بينما ترسم لنا هنا اللّيل والمعاناة. أجيب: يا ابن الشعب، آه، استمع صديقي لقصّة قصيرة. التقى روحان وحيدان في العالم. بثّت إحداهما للأخرى شكواها وطلبت منها المواساة. التفت إليها الغريبة وهمست: هو اللّيل أيضا بالنسبة إليّ.”             أليست هذه مواساة؟” 

 « Mélanges d’esthétique et de science de l’art »

« Les premières pages d’un manuel de solitude »

«fragment d’un journal de l’homme »- Gaston Bachelard – p 23-30

  • من كتاب “مزيج من الاستيتيقا وعلم الفن ” مُهْدى إلى ” ايتيان سوريو” من زملائه وأصدقاءه وتلامذته. – مكتبة نيزات 1952 باريس

إغلاق