المحور الثاني الوعي واللاوعي (مفهوم الوعي)

المجزوءة الأولى مجزوءة ما الإنسان؟
المفهوم الأول مفهوم الوعي
المحور الثاني محور الوعي واللاوعي
إعداد ذ. مراد الكديوى

الحلم هو الطريق الملكي للاشعور” سيغموند فرويد

تأطير إشكالي:

تكشف الفلسفة عبر تاريخها الطويل عن مفارقة أساسية في بحث مسألة الوجود الإنساني من حيث الماهية والأصل. فهذه الأخيرة عملت على الإعلاء من قيمة العقل وتمجيده، بحيث جعلت الوعي الخاصية المميزة لوجوده. في مقابل الحط من قيمة الجسد وجعله مجرد سجن للنفس تتوق هذه الأخيرة للتحرر منه. هذا التقابل بين العقل والجسد كان من نتائجه تثبيت فهم واحد للإنسان يكون الوعي محدده. وهو ما عملت الفلسفات قديما وحديثا على تثبيته سواء مع ‘افلاطون’ (في تمييزه وإعطاء الأولوية للنفس العاقلة على النفس الشهوانية والغضبية.) و’ارسطو’ (الإنسان حيون عاقل) أو حديثا مع ‘ديكارت’ الذي جعل من وجود الذات وجودا مفكرا. إن هذا التثبيت المستمر جعل من الإنسان وجودا متأرجحا بين الحضور الكامن في الوعي. والغياب المتضمن في الجسد الناتج عن تهميشه وقمع رغباته، فالقمع المستمر لهذه الرغبات أحدث شرخ في البنية النفسية للإنسان بين متطلبات العقل ورغبات الجسد. الشيء الذي سيتطور إلى بنيتين متقابلتين: الأولى تتمثل في الوعي وتعبر عن خطاب العقل. والثانية تتمثل في اللاوعي وتعبر عن الوجود المنسي للجسد ورغباته المكبوتة. ضمن هذا التقابل –بين بنية الوعي وبنية اللاوعي- تطور الإشكال الذي يتساءل على أساس البنية النفسية والشيء الذي يحكم وجود الذات. وضمنه يتم التناول الإشكالي لمجال الإنسان في بعده الواعي، كبعد محدد لماهيته. لكن هل يمكن المطابقة بين الإنسان ككائن مركب والوعي كخاصية مفردة لهذا الوجود المركب. وعموما فيمكننا الصياغة الإشكالية لأساس البنية النفسية من خلال مجموعة من التساؤلات:

  •  فيما يكمن أصل الوجود الذاتي للإنسان؟ هل في الوعي كبعد عقلي-فلسفي. أم في اللاوعي كبعد جسدي مقموع-سيكولوجي؟
  •  هل يمكن تفسير الوجود الإنساني بالوعي أم أن هذا التفسير يكشف عن قصوره كلما اصطدمنا بالمنسي من رغبات وشهوات جسدية مقموعة؟
  •  ما طبيعة العلاقة بين الوعي واللاوعي كأصلين ممكنين للوجود الذاتي؟
  •  ألا يمكن القول أن الوعي هو اختزال وتقزيم للذات الإنسانية. ثم أليس اللاوعي من جهة أخرى هدم لتعالي الإنسان وانحدار به إلى الحياة الحيوانية التي تتغيا الإشباع فقط؟

الإنسان وسؤال الأصل النفسي-الذاتي.

يحيل الإشكال المتعلق بأصل الوجود الذاتي للإنسان على تصورين على الأقل: الأول فلسفي (خصوصا مع فلسفات الوعي) يجعل من الوعي أصل وجود الذات وهو ما يمثله التراث الفلسفي. والثاني سيكولوجي (خصوصا مع التحليل النفسي) والذي يجعل أصل الوجود النفسي كامن في اللاوعي.

 

أولا: الوعي أصل الوجود الذاتي للإنسان.

يجد الوعي كأصل للوجود الذاتي-الإنساني تعبيره في الفلسفة الديكارتية كفلسفة تتخذ من الوعي أساسا لها. فديكارت في بحثه لسؤال الأنا يتخذ من الشك طريقا له بحيث تكون ماهية الأنا الثابتة اليقينية هي أصل الوجود الذاتي للإنسان. وهو من أجل ذلك يتخذ من المسلمة التالية أساسا لبحثه “من الحكمة الا نثق في شيئا خدعنا ولو لمرة واحدة” فديكارت يضع كل الأشياء موضع شك إلى حد تملكه اليأس (شهادة الحواس. شهادة العقل نفسه في الإستدلالات الرياضية. الشك في وجود الذات والعالم والله). لكن الثابت في تمظهرات الشك هاته هو أنه لا يستطيع الشك في الشك نفسه. فالشك حقيقة يقينية أولى يستنتج منها الفكر، باعتبار الاول فعل من افعال الثاني. ومن تم ينتقل لإستنتاج الوجود من الفكر فالشيء المفكر لا بد له من أن يكون موجودا. فالفكر بهذا المعنى ملازم للذات إذ يشكل حقيقتها الثابتة التي لا تتغير. وهو ما يزداد وضوحا حينما يميز ديكارت بين الجوهر المادي الذي خاصيته الإمتداد والتغير والجوهر الروحي الذي خاصيته التفكير والثبات. فالأول يتعلق بالأعراض المتغيرة (مثال الشمعة) في حين أن الثاني يرتبط بالخصائص الثابتة التي لا تتغير. وعليه تكون حقيقة الوعي قائمة في الوعي والفكر.

في نفس السياق الذي يؤكد الوعي كأصل للوجود الإنساني نجد تصور الفيلسوف الألماني “فيورباخ” الذي يجعل من الوعي الخاصية التي تميز الوجود الإنساني عن الوجود الحيواني. فإذا كان الوعي عند الحيوان يطلق على معنى الشعور بالذات (كالشعور بالألم مثلا) فإن مثل هذا الشعور لا يجعله كائن واع. لأنه يجعل من ذاته الفردية فقط موضوعا لهذا الشعور. أما الوعي بالمعنى الدقيق فهو ذلك الذي يقال على الإنسان لأنه يتخذ من ذاته موضوعا لا من حيث الفردية بل من حيث النوع والماهية. فالإنسان يسأل عن نوعه “ما الإنسان؟” كما يسأل عن ماهيته “ما الوعي؟” وهو ما لا يتأتى لأحد غيره. فالوعي إذن هو ما يميز الإنسان كونه يحمله على التفكير في ذاته كنوع وماهية تتجاوز الوجود الفردي المنغلق.

 

في قيمة التصور وحدوده:

يتضمن تصور الوعي كأساس للوجود الذاتي للإنسان قيمة فلسفية جوهرية. فهو من ناحية يجعل الوعي خاصية إنسانية يتعالى بها عن باقي الموجودات الأخرى، وبذلك يكون هو الكائن الوحيد الذي يعي وجوده ويتأمله. ومن ناحية أخرى يكون الوعي بمثابة إمساك بمعنى الوجود الإنساني إذ في غيابه يكون هذا الوجود وجودا عبثيا لا قيمة له.

لكن الإعلاء والمبالغة في ربط الماهية الإنسانية بالوعي. هو بمثابة خصي واختزال لهذا الوجود بحيث يتم ربطه بعجلة الفكر فقط، الشيء الذي يعني تغييب الجسد وقمع رغباته الطبيعية الغريزية بحجة الوعي. هذا القمع المستمر للرغبات الجسدية يكشف عن جانب اخر أكبر وأفسح هو اللاوعي الذي يعبر عن ذاته في الأشياء التي تبدو تافهة للوعي كالحلم وفلتات اللسان والنكت وكبوات القلم…أليست هذه التمظهرات تعبير عن أصل مقموع يشكل أساس البنية النفسية التي يكون الوعي مجرد جزء منها؟

 

ثانيا: اللاوعي كأصل للحياة النفسية.

ليس الوعي إلا جزء يسير من قارة كبرى من وجودنا هي اللاوعي. بهذه الحقيقة قلب التحليل النفسي مع “سيغموند فرويد” رأسا على عقب تصور الإنسان حيث أصبح هذا الأخير مثله مثل جبل الجليد يكون الوعي قمته البارزة بينما يكون اللاوعي قاعدته العريضة التي لا ترى، فاستعاد بذلك الجسد المنسي بل وجعل رغباته المقموعة أساس وجودنا النفسي. وبذلك لم يعد الوعي محدد الوجود النفسي إنه مجرد جزء يخفي حقيقة الذات الكامنة في اللاوعي. فإذا كان الوعي هو ذلك الشعور العاقل للذات الذي نعمل على جعله مطابقا للواقع، فإن اللاوعي هو مجموع تلك الرغبات والميولات التي تم قمعها كونها لا تنسجم مع الواقع المجتمي ومعاييره التي غالبا ما تتمظهر في صورة مطالب أخلاقية وقانونية ودينية. بهذا التقابل المحكوم بالصراع بين الوعي (مبدأ الواقع الذي يقمع كل ما يخالف معاييره) واللاوعي (مبدأ اللذة بحيث تكون الغاية هي إشباع الرغبات دون الإكتراث للواقع). لفت فرويد لأول مرة انتباهنا بأن الحياة النفسية ليست واحدة كامنة في الوعي بل هي محط صراع بين الذات الواعية-العاقلة كجزء والذات اللاواعية ككل يضم هذا الكل.

إن هذا الصراع بين الوعي واللاوعي من شأنه خلق توتر وانفصام في علاقة الإنسان بذاته، وهو الأمر الذي حاول فرويد حله في الموقعية الثانية التي تحدد مكونات البنية النفسية. والتي تتكون من:

الهو (ID): تعبير عن مجموع الرغبات والدوافع والغرائز التي تم كبتها بفعل الحضارة ومعايير الثقافة. وتكمن الغاية القصوى للهو في تحقيق اللذة واجتناب الألم (مبدأ اللذة) وهو ما يعبر عنه فرويد مفهوميا ب”الليبيدو“.

الأنا (EGO): وهي الجانب العاقل من وجودنا الشعوري الذي يلامس الواقع. وتعمل على إقامة نوع من التوازن بين دوافع الهو(اللاوعي-اللاشعور) ورغباته الجامحة التي تنزع للتعبير عن ذاتها وتحقيق اللذة. وبين متطلبات الأنا الأعلى المتمثلة في مجموع المعايير الأخلاقية التي تشكل مقاومة تمنع من ظهرر تلك الرغبة.

الأنا الأعلى (SUPER EGO): وتعبر عن مجموع المعايير والقوانين والأعراف المجتمعية التي تحدد طبيعة الفعل بين القبول والرفض. إذ تشكل مبدأ الواقع.

يكمن أساس الحياة النفسية في تصور فرويد؛ إذن في اللاوعي. باعتباره أوسع منطقة من وجودنا. إلا أنه يقابل بالقمع المستمر كون رغباته لا تنسجم ومجموع معايير الأنا الأعلى، لذا يلجأ إلى عملية التحويل عبر  التعبير رمزيا عن رغباته المحظورة كالحلم والفن والنكت والنشاط الإبداعي.

في قيمة التصور وحدوده.

تكمن القيمة الفلسفية لتصور فرويد في كونه يوسع الوجود النفسي الإنساني بالشكل الذي لم يعد معه ممكنا اختزاله في الوعي فقط. فهذا الإختزال هو قمع للجسد ورغباته التي يتم تغييبها. وبذلك فإن فرويد يستعيد مفهوم الجسد والرغبة في تشكيل فهم متكامل للوجود الإنساني. وهو من جهة أخرى يكشف حقيقة الذات فليست هذه الأخيرة بنية نفسية واحدة تكمن في الوعي. بل هي على العكس مجموع بنيات متمايزة فيما بينها يكون الوعي مجرد مكون من هذه المكونات. وعليه ففرويد يهدم ذلك اليقين الفلسفي الذي عمل على ربط الوجود الإنساني ومطابقته بالوعي فقط.

لكن الإقرار بالقيمة الفلسفية لا يمنعنا من المساءلة النقدية لتصور فرويد وإلا كان التحليل النفسي حقيقة يقينية مقدسة،ثابتة وهو الأمر الذي لا يستقيم ومبادئ التفكير الفلسفي كتساؤل ونقد. وعموما فالقول باللاوعي كأصل للوجود النفسي هو بمعنى من المعاني هدم للتعالي الإنساني، إذ يصبح مثله مثل الحيوان التي تكون غايته اجتناء اللذة واجتناب الألم مدفوعا في ذلك بمجموع الدوافع الغريزية-الجنسية. وهو من ناحية أخرى يرسخ فهم ميكانيكي للسلوك الإنساني بحيث يتم إرجاع مختلف أنواع النشاط الإنساني من عبقرية وفن وإبداع إلى الرغبات الجنسية المكبوتة التي تم تحويلها في صورة رمزية. أليس الفنان مثلا مجرد شخص تسامى بغريزته الجنسية فحولها إلى نشاط إبداعي.

إن المبالغة في تقدير اللاوعي هو افتقاد لمعنى الوجود الإنساني وقيمته وهو الامر الذي عبر عنه “اريك فايل” بحيث لا يكون هناك معنى للوجود في غياب الوعي الذي يخلق هذا المعنى، فالتركيز على اللاوعي هو تركيز على الحيوان فينا الذي لا يتأمل ذاته ولا يهتم لمعنى وجوده. ثم إن ربط الواقع النفسي باللاوعي كما هو الحال مع “آلان” يجعل من هذا الأخير وحشا مخيفا يتمظهر في أبسط مظاهر السلوك الإنساني كالحلم والخطأ. يقود اذن افتراض اللاوعي إلى اعتباره “أنا” اخر. “أنا” راغب وحالم وهو ما يحدث انفصاما في الذات نفسها. فلا وجود إلا لذات واحدة هي الذات الفاعلة.

 

ثالثا: تركيب:

كخلاصة يمكننا القول إن الوعي كمحدد ماهوي للإنسان يميزه عن باقي الموجودات الأخرى. يطرح إشكالا على مستوى المقاربة النفسية لأصل الوجود الذاتي للإنسان. فمن جهة يجد هذا الأصل تعبيره في الخلفية الفلسفية لفلسفات الوعي انطلاقا من أن الذات فيها هي ذات مفكرة يتحدد ويتوقف وجودها على الوعي. ومن جهة أخرى نجد اللاوعي مع التحليل النفسي كتوسيع لهذه الأنا المنغلقة التي وضع ديكارت خطوطها العريضة. فليست الانا فقط مجرد مجموع لعمليات الوعي إن هذا مجرد جزء بسيط يخفي حقيقة الذات المقموعة الكامنة في الوجود اللاوعي. وبين هذا وذاك يقع إشكال الاختزال وتقزيم الوجود الإنساني في الأصل الاول (الوعي) وإشكال هدم التعالي الإنساني وهدم تعاليه بجعل وجوده الحق وجود غريزي يقيني. وعليه يكون السؤال عن أصل الوجود الإنساني سؤالا فلسفيا بامتياز. لكن سواء كان هذا الأصل هو الوعي أو اللاوعي فإن الذات لا تعيش منعزلة ومنغلقة عن ذاتها إنها تعيش داخل مجتمع وواقع يفرض ذاته. إذن: ما طبيعة العلاقة التي يقيمها الوعي مع الواقع؟ هل هي علاقة مطابقة وتماهي أم هي علاقة تزييف وتشويه تعمل فيها الإيديولوجيا على خلق الوهم؟

إغلاق