المحور الثالث: نموذجية العلوم التجريبية
- المجزوءة: مجزوءة المعرفة
- المفهوم: مسألة العلمية في العلوم الإنسانية
المحور الثالث: نموذجية العلوم التجريبية
الإشكال المحوري:
هل يمكن للعلوم الانسانية اعتماد العلوم التجريبية وخاصة منهجها التجريبي كنموذج لها؟ أم أن العلوم الإنسانية في حاجة إلى ابتكار واعتماد نموذج خاص بيها يراعي خصوصيتها وخصوصية موضوعها الذي هو الإنسان؟
الموقف الأول: إمكانية اعتماد العلوم التجريبي كنموذج للعلوم الانسانية
تأثر مجموعة من علماء الإنسان بما حققته العلوم الطبيعية من نتائج مبهرة، وذلك ما جعلهم ينظرون إلى العلوم التجريبية كنموذج يمكن الاقتداء به في دراسة الظاهرة الإنسانية. ومن بين الذين تبنوا هذا الموقف القائل بإمكانية اعتماد العلوم التجريبية كنموذج للعلوم الإنسانية، نجد عالما الاجتماع الفرنسيين أوجست كونت وإميل دوركايم، وعالم النفس الأمريكي جون واطسون. يذهب هؤلاء إلى اعتبار الظواهر الإنسانية كأشياء، قابلة للملاحظة والتجريب وتخضع لقوانين ثابتة، يمكن الكشف عنها مثل الظواهر الطبيعية، وفي هذا السياق يقول إميل دوركايم في كتابه قواعد المنهج في علم الاجتماع: “إن الظواهر الاجتماعية تشكل أشياء، ويجب أن تدرس كأشياء”.
الموقف القائل بصعوبة اعتماد النموذج العلمي في حقل العلوم الإنسانية
يرفض مجموعة من الفلاسفة وعلماء الإنسان القول بإمكانية اعتماد النموذج العلمي المعتمد في العلوم التجريبي في دراسة الظاهرة الإنسانية، نظرا لخصوصية الظاهرة الإنسانية. فالظاهرة الإنسانية لها خصائص تميزها عن الظاهرة الطبيعة من بينها الوعي والحرية والقصدية. وكما يقول كلود ليفي ستراوس “الوعي هو العدو الخفي للعلوم الإنسانية”.
من بين الفلاسفة الذين يؤكدون على صعوبة اعتماد النموذج العلمي في دراسة الظاهرة الإنسانية نجد الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي، والذي يرى أن العلم قاصر عن النفاذ إلى جوهر وعمق الوجود الإنساني، كما أن العلم يلغي العالم المعيش كما يلغي الذات التي تشكل مركز الوجود والعالم وتمنحه المعنى ، والتي تعتبر مصدر معرفته.
الموقف القائل بضرورة تكييف النموذج العلمي مع الظاهرة الإنسانية
بين المتحمسين لاعتماد العلوم التجريبية كنموذج للعلوم الإنسان، والرافضين له، ذهب مجموعة من علماء الإنسان من بينهم فيليب لابورت إلى وجوب تكييف النموذج العلمي مع الظاهرة الإنسانية. ومعنى ذلك أنه يمكن اعتماد العلوم التجريبية كنموذج، لكن ولابد من شروط إضافية تأخذ في الاعتبار الوضعية المعقدة لعلوم الإنسانية، خصوصا على مستوى تداخل الذات والموضوع، هذا التداخل ينبغي الوعي به والتحكم فيه. إضافة إلى الوعي بغنى وعدم انتظام الواقع الحسي الذي يفترض هو الآخر حذرا عقليا ومنهجيا. ذلك أن الظاهرة الإنسانية معقدة ومركبة تتداخل فيها أبعاد متعددة ومختلفة ومتناقضة.
خلاصة تركيبية للمحور
تأسيسا على ما سبق نستنتج أن العلوم الإنسانية يمكنها الاستعانة بالنموذج العلمي الذي تقدمه العلوم التجريبية، والاستفادة من التراكمات التي حققتها طيلت تاريخها الطويل. لكن الاستعانة بالعلوم التجريبية لا يجب أن تكون على حساب خصوصية العلوم الإنسانية وعلى حساب موضوعها المتفرد والمتميز والذي هو الإنسان. فالعلوم الإنسانية مطالبة بتطوير وتكييف النموذج العلمي الذي تقدمه العلوم التجريبية، حتى يلائم الظواهر الإنسانية التي تتميز بالوعي والحرية والقصدية…