المحور الأول: الإدراك الحسي والشعور
المحور الأول: الإدراك الحسي والشعور
التأطير الإشكالي للمحور:
حاولت الفلسفة منذ بداياتها الأولى وخاصة مع سقراط الإجابة عن سؤال مركزي هو ما الإنسان؟ وكانت إحدى الإجابات عن ذلك السؤال هو أن الإنسان كان واعي، غير أن هذا التحديد ليس بالبديهي، لذلك، حاول البحث الفلسفي أن يوجه سهام النقد والتساؤل لهاته الخاصية الجوهرية التي هي الوعي، فكان من بين ما بحث فيه هو أساس الوعي، أي أساس وعي الذات لذاتها أولا، وللعالم الخارجي ثانيا، وخاصة إن كان الوعي مرتبطا بالفكر المجرد أم بالشعور، أم بما هو عصبي فيزيولوجي. هذه الإشكالات هي ما سنحاول الإجابة عنه. فهل يرتبط الوعي بما هو عقلي مجرد (الفكر) أم بالإدراك الحسي؟ ألا يرتبط الوعي بما هو عصبي فيزيولوجي؟
أولا: في دلالة مفهومي الشعور والإدراك الحسي:
- الشعور: هو ذلك الجانب من العمليات العقلية التي ندركها ونعيها.
- الإدراك الحسي: هو الفعل الذي ينظم به الفرد إحساساته ليدرك موضوعا بشكل مباشر، ويؤوله ويستعمله بواسطة صور وذكريات.
ثانيا: تحليل نص رونيه ديكارت
تأطير النص
يعود النص للفيلسوف الفرنسي روني ديكارت، الذي ينتمي للمذهب العقلاني في المرحلة الحديثة، هذا الأخير يعتبر العقل نورا فطريا ومصدرا للمعرفة.
إشكال النص:
- الإشكال الصريح: ما الأنا وبما يرتبط وجودها؟
- الإشكال الضمني: بما يرتبط وعي الأنا، هل يرتبط بالتفكير؟
أطروحة النص:
يؤكد رونيه ديكارت أن وعي الذات مرتبط بالتفكير
تحليل الأطروحة
- التحليل المفاهيمي للأطروحة:
تتشكل البنية المفاهيمية للنص من عدة مفاهيم أساسية لعل أبرزها مفهومي الأنا والفكر، أما مفهوم الأنا فيشير حسب النص إلى الذات المفكر، بينما يدل مفهوم الفكر على الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات، أو يطلق على المعقولات نفسها. ومنه يتبين لنا أن الفكر أساس وجوهر الذات، لأنه هو الذي يمكنها من تعقل ذاتها.
- التحليل الحجاجي للأطروحة
الحجة | مضمونها | وظيفتها |
التأكيد | التأكيد أن الأنا موجودة ما دامت تفكر | روبط وجود الأنا بالفكر |
التساؤل | التساؤل عن ماهية الأنا | استشكال ماهية الأنا (الذات) |
التأكيد | التأكيد على أن الذات هي شيء مفكر | جعل الفكر جوهر وماهية الذات |
التساؤل | التساؤل عن ماهية الشيء المفكر | البحث في قيمة وأهمية الفكر |
التأكيد | التأكيد على أن الشيء المفكر هو شيء يشك ويفهم ويتصور ويثبت…. | التأكيد على رتباط كل قدرات الذات بجوهرها الذي هو الفكر |
استنتاج:
يتبن لنا بعد تحليل النص، أن رونيه ديكارت يرى في الفكر جوهرا للذات، أساس وجودها. ومنه يتبين لنا أن الوعي هو وعي ذاتي، وعي مرتبط بالذات، فالذات لها ما يمكنها من وعي ذاتها دونما حاجة إلى الإدراك الحسي، وهو الفكر. ولهذا الموقف قيمته الفلسفية، فقد جعل الذات مستقلة في وعيها، وغير مرتبطة بما هو خارجي.
ثالثا: تحليل نص جون بيير شونجو
تأطير النص:
يدخل النص ضمن الكتابات العلمية التي تنتمي إلى مجال فيزيولوجيا الأعصاب، ويعود لصاحبه الفيزيزلوجي الفرنسي جون بيير شونجو
إشكال النص:
بما ترتبط الأنشطة العقلية من وعي للذات وشعور وانفعال؟ هل ترتبط بالفكر المجرد أم بالنشاط العصبي الفيزيلولجي؟
أطروحة النص:
ترتبط الأنشطة العقلية بما فيها الوعي بالذات بالنشاط العصبي الفيزيلولوجي.
تحليل الأطروحة:
التحليل المفاهيمي للأطروحة:
- اللاهوت: علم يبحث في وجود الله وذاته وصفاته.
- الفيزيزلوجيا: علم دراسة الأعصاب
- الوعي: أي وعي الذات بذاتها، وهو نشاط عقلي مرتبطا بالنشاط العصبي الفيزيولوجي.
- النشاط العصبي الفيزيولوجي: هو النشاط الذي تقوم به الذات اعتمادا على الجهاز العصبي الذي يتشكل من النخاع الشوكي والدماغ…
- السيالة العصبية: تيار عصبي كهربائي ينقل الإشارات من خلية عصبية إلى أخرى.
التحليل الحجاجي للنص
الحجة | مضمونها | وظيفتها |
النقد | نقد الأطروحات الفلسفية واللاهوتية التي تناولت الوعي الإنساني | نقد التناول الفلسفي واللاهوتي للوعي الإنساني، وإخراج هذا الأخير من دائرة الفلسفة والدين والأدب إلى دائرة العلم |
التعريف | تعريف النشاط العقلي بكونه نشاط عصبي مشروط فيزيولوجيا | ربط كل نشاط عقلي سواء كان وعيا بالذات أو شعورا أو انفعالا بالجهاز العصبي للإنسان. |
السلطة المعرفية | استحضار موقف جاك مونو | تدعيم الموقف وإثباته، عبر تدعيمه بسند علمي. |
التأكيد | التأكيد على كل نشاط عقلي عبارة عن نشاط عصبي مشروط فيزيولوجيا. | نقد التصورات التي ربط الوعي بما هو مجرد (التفكير) وبما هو لاهوتي، والتأكيد على أن الوعي وباقي النشاطات العقلية رهينة بما هو مادي، أي بما هو عصبي فيزيولوجي. |
استنتاج
يتبين لنا بعد تحليل النص، أن جون بيير شونجو يتبنى موقفا مضمونه أن الوعي وباقي النشاطات العقلية الأخرى، ما هو إلا نشاط عصبي مشروط فيزيولوجيا. معنى ذلك، أن قدرة الإنسان على وعي ذاته مرتبط بالجهاز العصبي (النخاع الشوكي، الدماغ…) ولولاه لما أمكن ذلك. إن جون بيير شونجو بموقفه هذا ينتقد كل التصورات الفلسفية واللاهوتية، فالأولى ربطت الوعي بما هو مجرد والمثال على ذلك تصور رونيه ديكارت، الذي جعل من الفكر المجرد جوهرا للذات، وأساسا لوعي ذاتها، والثانية جعلته مرتبطا بما هو لاهوتي. بينما منحها جون بيير شونجو أساسا ماديا، حيث اعتبر أن كل نشاط عقلي، -كيفما كان، سواء كان تفكيراً، أو اتخاذا لقرار، أو انفعالا، أو شعوراً أو وعيا بالذات- عبارة عن نشاط عصبي مشروط فزيولوجيا. كما أكد على أن الصور العقلية هي موضوعات مادية محددة بفضل «خريطة» دينامية للخلايا العصبية وللسُّيَالات العصبية التي تغذيها وتسري داخلها.
رابعا: موقف برتراند راسل:
يرتبط الوعي حسب الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل بمثيرات العالم الخارجي أو بالإدراكات الداخلية التي تستبطن فيه الذات ذاتها. لكنه يؤكد أن مفهوم الوعي مفهوم غامض يصعب تحديده بدقة، إذ يتطلب مزيدا من التوضيحات والكتابات. فكل ما يمكن أن نصل إليه بخصوص الوعي هو تحديدات ودلالات عامة، كتحديد الوعي بكونه خاصية إنسانية ترتبط باليقظة أو اعتباره مجموع إدراكات.
وهكذا يتبر لنا أن راسل يختلف مع رونيه ديكارت كما يخلف مع دافيد هيوم وأيضا جون بيير شونجو. فهؤلاء قد عرفوا الوعي بشكل وثوقي، حيث عرفه ديكارت بإراجعه إلى الفكر وعرفه هيوم بإرجاعه إلى الشعور والإحساس، وعرفه شونجو بإرجاعه إلى النشاط العصبي الفيزيولوجي.
استنتاج عام:
استنادا إلى ما سبق، يتضح لنا أن مفهوم الوعي مفهوم إشكالي، طرح جملة من التساؤلات والإشكالات، لعل أبرزها أساس الوعي وعلاقته بالفكر والشعور وغيرهما، وأيضا إن كان مرتبطا بما هو ذاتي محض أم بما هو خارجي أيضا. أم بغير ذلك. إضافة إلى ذلك، يتبين لنا أن الإجابات عن تلك الإشكالات اختلفت وتعددت، فهناك من جعل اساس الوعي هو الفكر، وهناك من جعل أساسه النشاط العصبي الفيزيولوجي، بينما هناك من ذهب إلى صعوبة تحديد ماهيته. وبين هذا الموقف وذاك يمكن أن نؤكد أن الوعي رغم اختلاف التصورات حوله، يبقى محددا أساسيا من محددات الذات الإنساني، فالحديث عن الوعي حديث عن وعي الذات في اختلاف وضعياتها، وعي الآخر، وعي العالم…