الكتابة والقراءة الفلسفيتين: قواعد وضوابط منهجية
الكتابة والقراءة الفلسفيتين: قواعد وضوابط منهجية
تقديم ذ. محمد شيكر
(مقتطف من كتاب دروس الجذوع المشتركة لمحمد الشيكر)
عنوان النص :
يتحدد عنوان نص ما بوصفه ملفوظا لغويا موازيا للنص ، paratextuel ، من خلاله نتعرف إلى أطروحة النص، وعبره ننفذ إلى مضمونه الإجمالي. يحدد ليو هويك العنوان “كمجموعة من العلامات (الألفاظ) اللسانية… التي يمكن أن تتصدر نصا من النصوص، وذلك من أجل تعيينه، وبيان محتواه الإجمالي، واستمالة الجمهور لقراءته.”
Leo Hoek : Marque du titre , Moutor 1981p17.
ولا يكون العنوان مناسبا للنص، إلا حين يصبح عتبة نصية تمكننا من الإطلالة الأولية على النص، والإمساك بمنطوقه في عبارة مكثفة ومقتضبة .
أطروحة النص Thèse :
فكرته الأساسية أو محتواه الفكري العام. وتأخذ الأطروحة صورة موقف فلسفي أو جواب فلسفي عن سؤال صريح أو مفترض بشأن قضية ما.
قضية النص Thème :
وتشير إلى الموضوع الذي يطرحه النص ويأمل التفكير فيه ومعالجته والمحاججة من خلاله على موقف ما. مثال:
• قضية النص : نشأة الفلسفة
– المأمول التفكير فيه هو: مكان النشأة.
– الإشكال المطروح : هل كان ميلاد الفلسفة في الشرق القديم؟ أم أن نشأتها التاريخية الفعلية لم تكن إلا في الجزر الأيونية ببلاد اليونان؟ .
الموقف المحاجج عليه:
موقف برتراند راسل (1970. 1872): الفلسفة ظهرت في بلاد اليونان، وكان أول فيلسوف أنجبته الإنسانية هو طاليس الملطي. لأنه أول من قدم تفسيرا طبيعيا لأصل الكون، وأول من أرجع التعدد إلى الوحدة (الماء)، وأول من حاول التفلت من أحابيل التفكير الميثولوجي.
– موقف فكتور كوزان (1792-1867): الفلسفة نشأت في بلاد اليونان، ليس في الجزر الأيونية مع طاليس، بل في أثينا مع سقراط لأن سقراط هو أول أنزل الحكمة من السماء إلى الأرض وجعلها شأنا من شؤون العالم.
– موقف هيجل: ينبغي النظر إلى الفلسفة “كتجميع متجدد”، إنها بالفعل، قد تفتقت في عالم الإغريق لكن العالم الإغريقي
” قد سبقته عوالم وجهزت لقدومه امبراطورية الصين، ذات الكتابة النثرية وعالم الرؤى الشعرية الهندي وعالم الوحدة العضوية في بلاد فارس. بدءا من هنا فقط تصبح بلاد الإغريق جسرا عابرا إلى مقبل التاريخ ويظهر الإغريق بمظهر أهل الوساطة يستلمون “صولجان المدنية” ممن سبقهم فيورثونه خلائفهم القادمين.
جان بوفري: في قصيد بارمنيدس. إلى ينابيع الفلسفة. ترجمة يوسف الصديق. دار الجنوب. تونس. ص. 48
– موقف شارل فرنر C . Werner ( 1969 . 1878 ): الفلسفة نشأت أول نشأتها في الشرق القديم، لأنه سبق اليونان إلى ابتداع الحضارة والتقنية وسائر الصناعات والعلوم، ولأن الشرقيين القدامى سبقوا اليونان في معالجة مسائل فلسفية تتصل بالألوهية والبعث والخير والشر والمبدأ والمعاد والسعادة والخلاص…
الإشكالية problématique :
هي مجموعة من الإشكالات المحايثة لحقل من الحقول المعرفية، سواء كان علميا أو فلسفيا. وتتحدد إشكالية حقل من الحقول المعرفية بشروط التقدم التاريخي الخاصة وتطور التصورات الإيديولوجية ونمط رؤية العالم، وإنتاج المعرفة. فالإشكالية الموجهة لفيلسوف مسلم ينتمي إلى العصر الوسيط ليست هي إشكالية فيلسوف غربي سليل الأزمنة الحديثة.
الإشكال problème :
هو عبارة عن مسألة أو قضية استفهامية تستوي على إحراج Aporie ، أي تتضمن أكثر من إجابة واحدة. وبين الإجابات المفترضة يقوم نوع من التضاد أو نوع من المفارقة على صعيد المقدمات وأدوات التحليل والتعليل. والأشكلة هي بناء حقل تساؤلي أو صياغة جملة من التساؤلات يسكنها إحراج فلسفي، ويوحدها إشكال محدد.
الرهان L’enjeu :
يقصد برهان النص أو رهان الإشكال الأهمية التي ينطوي عليها النص أو القيمة التي يحملها الإشكال، أو ما يمكن أن نفيده منهما (ما نربحه أو نخسره).
الحجة Argument :
الحجة لغة هي كل “ما دوفع به الخصم” ويعرفها الأزهري قائلا : “الحجة هي الوجه الذي به الظفر عند الخصومة” ويرى بأنها ما سميت حجة إلا لأنها تُحج أي تُقصد لأن القصد لها وإليها”. ويعرف أوليفييه روبول الحجة قائلا: “هي قضية موجهة إلى المحاور لجعله يقبل بواسطتها قضية أخرى. وتعتبر الفلسفة خطابا حجاجيا، لأن الفيلسوف لا يكف في تحليلاته وتأويلاته ومناظراته عن بلورة جملة من التقنيات والأساليب الحجاجية يسوغ بها أطروحاته ويدفع بها أطروحات خصومه .
“غير أن هذه الأساليب تتسم بأنها متعددة ومتنازعة، ولا تنفك عن المحتوى ذاته أو عن الأطروحات الفلسفية. بحيث إن المناظرة الفلسفية تصبح أيضا معركة تفرض فيها الأنماط الخطابية والأساليب البرهانية والتقنيات البلاغية التربوية”.
( جاك دريدا ) .
لهذا فقد يعمد الفيلسوف إلى الاستعارات وكل صنوف المجاز والتشبيه والمحسنات اللغوية، ليس على سبيل الترف الجمالي، بل بغرض الاثبات والتوكيد وإبطال دعوى الخصم. وترى المدرسة المشائية (الأرسطية) أن التصديق لا يُنال، عامة، إلا بثلاثة أصناف من الحجج، أوثقها القياس فالاستقراء، ثم المثال. والقياس كما يعرفه ابن زرعة هو “تبين جزئي من كلي” أي استنباط مطلوب جزئي من معلوم كلي، انطلاقا من “أقاويل ألفت تأليفا (وتسمي المقدمات) يلزم من تسليمها بالذات قول آخر اضطرارا (ويسمى النتيجة) . الغزالي (مقاصد الفلاسفة): مثال ذلك: العالم مصوَّر وكل مصوّر محدث. فهذان قولان مؤلفان على هيئة مقاس متين إحداهما كبرى والثانية صغرى، ويلزم من تسليمهما القبول ضرورة بنتيجة منطقية هي: أن العالم محدث. أما الاستقراء فهو “إظهار كلي بجميع جزئياته” أي تتبع جملة من الجزئيات لاستنتاج حكم عام ينسحب عليها جميعا.
مثال ذلك:
الحديد معدن يتمدد بالحرارة .
الرصاص معدن يتمدد بالحرارة .
القصدير………………………….
إذن كل المعادن تتمدد بفعل الحرارة.
أما المثال فهو “إظهار مقدمة كلية بأحد جزئياتها” أي استخلاص حكم عام أو مطلوب كلي بضرب المثال بحالة جزئية.
وتنحلّ أصناف الحجج حسب شاييم بيرلمان إلى أربعة أصناف كبرى:
1- صنف الحجج شبه المنطقية، ومن بينها :
أ. حجة النقض الذاتي: وهي حجة يراد بها دفع أطروحة الخصم ببيان تهافتها، وتناقضها الداخلي. مثال ذلك:
سنسأل الفلاسفة الوضعيين الذين يؤكدون بأن كل قضية صحيحة هي قضية تحليلية أو ذات طبيعة تجريبية، ما إذا كانت هذه القضية التي يثبتون هي بدورها قضية تحليلية أو تجريبية. ذكره:
Ch . perelman et obbrechts : traite de l ‘ argumentation . La nouvelle rhetorique . Ed . UB et vrin . 1976p275 ) .
ب. حجة الإحراج : وهي بدورها حجة يراد بها دفع دعوى الخصم، بصورة توقعه في التناقض على نحو ساخر. مثال:
في حفل شعبي بمسرح من مسارح الريف الفرنسي، أخذ الجمهور الحاضر يردد بحماس نشيد لا مارساييز. فإذا بأحد رجال الشرطة يصعد إلى خشبة المسرح معلنا على الفور، منع كل نشاط، لم يسطر من قبل، في جدول الأنشطة، فقاطعه أحد الحاضرين قائلا:
وأنت أيها الشرطي ؟ هل أنت مسطر في جدول الأنشطة ؟
أورده – بيرلمان – مرجع سابق .
ج- حجة التعدية : مثال :
أصدقاء أصدقائي هم أصدقائي ( + X + = + )
وأصدقاء أعدائي هم أعدائي ( + X – = – )
وأعداء أصدقائي هم أعدائي ( – x + = – )
وأعداء أعدائي هم أصدقائي ( – X – = + )
2- صنف الحجج التي تتأسس على بنية الواقع
( أي تقوم على معطيات التجربة وعلى العلاقات القائمة بين الأشياء) من بينها:
أ . الحجة النفعية : وهي حجة يراد بها تسويغ أمر ما وقبوله أو دفعه ورفضه بالنظر إلى عواقبه وإلى ما يترتب عنه سلبا أو إيجابا.
مثال ذلك : قول إخوان الصفاء :
“إن الشريعة الإسلامية تدنست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة. رسائل إخوان الصفاء).
ب . حجة الأحرى : ويمكن التمثيل عليها بقول ابن رشد :
“وإذا كان الفقيه يفعل هذا (التأويل) في كثير من الأحكام الشرعية فكم من الحري أن يفعل ذلك صاحب علم البرهان، فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني والعارف عنده قياس يقيني”.
(فصل المقال ـ تحقيق محمد عمارة ص : 32 – 33 )
أو بقول لايبنز:
“إن الله الذي شمل الجواثيم من الطير بعنايته ولطفه لن يهمل مخلوقاته العاقلة التي آثرها على غيرها بشكل غير محدود”
ذكره بيرلمان – مرجع سابق ، ص 456 .
ج . حجة السلطة: وتقوم في تسويغ إثبات ما لقيمة صاحبه وعلو منزلته، أو التسليم به لأنه صادر عن شخص “حجة”. وصيغته الصورية هي : قال أرسطو Dixit Aristoteles أو مصداقا لقول أرسطو.
مثال : نقرأ في كتاب ” تهافت التهافت” لابن رشد ما يلي :
“وهذا من كلام الفلاسفة بين، فإنه قد صرح رئيسهم الأول وهو أرسطو ، أنه لو كانت للحركة حركة، لما وجدت الحركة”
(“تهافت التهافت” تحقيق سليمان دنيا . القسم 1 . دار المعارف ط ص 85.)
ويقول ابن رشد في نفس الكتاب معتمدا كذلك على حجة السلطة:
“ولو جاز أن يوجد عظم لا آخر له، لوجد عظم بالفعل لانهاية له. وذلك مستحيل . وهذا شيء قد صرح به أرسطو. أعني أن التزيد في العظم إلى غير نهاية مستحيل” نفس المرجع ص 173.
3 . صنف الحجج التي تؤسس بنية الواقع
وتقيم بين الأشياء علاقات لا نلحظها في الظاهر، ومن أهمها:
أ . حجة المثال ( وقد سبق ذكرها ).
ب . حجة التمثيل “والتمثيل عملية فكرية، تقوم على تشبيه أمر بآخر في العلة التي كانت هي السبب في حدوث ظاهرة من ظواهره واعتبار هذا الشبه كافيا لقياس الأمر على الآخر في أن له مثل ظاهرته”
عبد الرحمان حنبكة الميداني : ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة ، دار القلم ، بيروت 1988 ، ط 3 ص 288.
ج . الاستعارة : وهي حسب تعريف ابن قتيبة “أن تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة، إذا كان المسمى بها بسبب من الأخرى أو مجاورا لها، أو مشاكلا… فيقولون ضحكت الأرض، إذا أنبتت لأنها تبدي من حسن النبات وتتفتق عن الزهر كما يفتر الضاحك عن الثغر”.
ابن قتيبة . تأويل مشكل القرآن ۔ تحقيق السيد أحمد صقر المكتبة العلمية السعودية . ط 3 . 1981 . ص 135 – 136 .
4. صنف الحجج التي لا تماثل ولا تشاكل:
ولا تقيم مقايسات بل تفصل بين المفاهيم، وتفرق بين الحدود وتقيم تشقيقات وتقابلات وتمايزات بين الكلمات والأطروحات والمواقف.
مثال أ : تفكيك المفاهيم في صورة أزواج تراتبية ( مظهر / حقيقة = وسيلة / غاية ، حرف / روح ، كتابة / صوت … )
مثال : ب . في الفصل والتمييز بين الأقاويل والمواقف يقول ابن رشد :
“أما هذه الأقاويل كلها التي هي أقاويل ابن سينا، ومن قال بمثل قوله، فهي أقاويل غير صادقة، ليست جارية على أصول الفلاسفة.
تهافت التهافت . القسم اص 411 .