الفلسفة اللامدرسية عند إيفان إيليتش  – بوشعيب بن ايجا

مقدمة عامة :

بوشعيب بن ايجا
بوشعيب بن ايجا

لم تعد مسألة التربية و أثرها في السلوك المستقبلي للإنسان مسألة عملية أو علمية غامضة ، فهي من أوضح القضايا في منطق العلم ، فالعناصر التربوية في الحياة المدرسية لها أكبر ألأثر في تكوين الشخصية و تشكيل هويتها ، فالطفل في عالمنا المعاصر يقضي الشطر الهام كن حياته في أجواء المدرسة ، فهو يبدأ حياته في أحضانها فهو يقضي حياة الطفولة و المراهقة و الشباب في نظام حياتي مخطط و مصمم وفق أسس و أهداف و منهج محدد ، لذا فهو ينشأ و ينمو و تتكون شخصيته وفق فلسفة التربية و النظرية الحياتية التي تتبناها المدرسة، فالمدرسة التي تتبنى الفكر المادي من خلال منهجها و الاجواء التربوية فيها و طريقة الممارسات السلوكية المختلفة و تربي الفردية و الاباحية و لا تعتني بقيم الأخلاق و الإيمان بالله فإنها تنتج شخصية إباحية تبحث على مستوى السلوك الفردي عن المتعة و اللذة و إتباع الشهوات و الغرائز ، و هي على الصعيد المادي ، الاجتماعي و السياسي تنتج عقلية مادية رأسمالية ، لذا فإن الاصلاح و التغيير العام يبدأ بشكل أساس من المدرسة في فلسفتها التربوية و مناهجها و طرق الحياة فيها ، كما تقوم المدرسة التي تبني الحياة التربوية فيها على اسس فلسفة محددة بغربلة الاوضاع الاجتماعية و انتخاب ما يوافق فلسفتها ، و رفض ما لا ينسجم و أهدافها ، لذا فهي نموذج مصغر لمجتمع الدولة ، و الاكثر من ذلك تشكل المدرسة بالنسبة للطالب الوسيلة الاساسية التي يحقق من خلالها أهدافه الحياتية و طموحاته المستقبلية ، لكن هذا الامر تغير مع تغير الزمن و تطور العلم و تعقد الحياة ، حيث لم يعد معلموا الامس قادرين على تعليم المحتاجين للمعرفة ، لأنهم في الأصل يعلمون ما يعرفون و ما يعرفونه في الغالب قليل ، و اليوم تنطلق الرؤى التربوية من جديد للعودة إلى المجتمع اللامدرسي ، فهل يستطيع هذا المجتمع الحديث إذا خلا من المدارس أن يقدم مالم يستطع تقديمه المجتمع القديم ( مجتمع بلا مدارس)

إن اللامدرسية قضية لم تكن وليدة هذا العصر ، بل كان لها إرهاصات بدءا من القرن الثامن عشر على يد الفيلسوف الشهير جان جاك روسو الذي رأى أن التعليم الذي يقدم في المدارس يفسد الأطفال لأنها لا تقدم الصورة الحقيقية لما يحدث في المجتمع من أمور سلبية و سيئة، و الاتجاه اللامدرسي يعني عدم الاعتماد على المؤسسات التعليمية النظامية للقيام بمهمة التربية و التعليم ، بل لا بد أن تستثمر كافة القوى و المؤسسات في هذه المهمة ، كما تجدر الاشارة إلى أن اللامدرسية كفكرة دعا إليها بعض المفكرين ليست صورة واحدة ، بل إن لها صورتان إحداهما المعتدلة ، و هي ما تم تعريفه آنفا ، و الأخرى المتطرفة و هي التي تنادي بإلغاء هذه المؤسسة النظامية ليكون المجتمع كله هو المدرسة الكبرى للجميع ، و لم يكن إيليتش وحده الذي مهد لهذه الفلسفة التربوية ، بل ساعده في ذلك زميله ايفرت ريمر، هذا الاخير الذي له كتاب تحت عنوان وفاة المدرسة و الذي قضى به على المؤسسة المدرسية ، فهذا كارل روجرز يحاول إلغاء سلطة المدرس بقوله ” ليس المطلوب تعليما و إنما أناس يتعلمون و ذلك من خلاب الكتب و تدخلات الشخص المصدر ، أو من خلال الأشياء التي يتبادلونها فيما بينهم”[1] و هو ما ذهب إليه هولت أيضا حين دعا إلى ضرورة التخلي عن إكراه الطلاب على التعلم بقوله ” إننا لا نستطيع أن نوفر تعليما حقيقيا في المدرسة ما دمنا نفكر بأن من واجبنا و حقنا أن نفرض على الطلاب ما ينبغي تعلمه ” [2] لقد تنبه ريمر إلى أن المدرسة إن هي إلا أداة في يد الطبقات البرجوازية لكي تحكم سيطرتها على المجتمع ، فأصدر ريمر كتابه المعروف وفاة المدرسة ، أما إيليتش فقد سمى أشهر كتبه بمجتمع بلا مدارس ، و لعل ذلك يظهر من خلال رؤيته للمدرسة ، إذ بالنسبة له فهي تشكو من الفاعلية ذلك أن إلزاميتها تفقد الأشخاص طعم التعلم و هي ضارة أيضا لأنها إن فشلت بشكل كبير في تعليم الفقراء ، إلا أنها نجحت مع ذلك في مذهبتهم من خلال تلقينهم الشعور بالنقص الذي يستعصي مداواته .

ينتقد إيليتش المدرسة من جهة إلزاميتها و كذا من جهة احتكاريتها على اعتبار أن المدرسة الإجبارية تدمر لدى الشباب الرغبة في التعلم و تعارض هكذا الغاية التي تدعي أنها تخدمها [3] ، و لا بد من الاشارة إلى أن هجوم إيليتش على المدرسة لم يكن يستهدف هذه المؤسسة وحدها في حد ذاتها و إنما كان ذلك في إطار نقد عام للاتجاه المؤسسي في المجتمع الغربي الصناعي ، و على العكس من ذلك فإن المدرسين في نظر إيليتش هم الذين يعطلون تعلم التلاميذ ، هذه الأشياء نتيجة عملهم الروتيني النمطي، إن التلاميذ لا يدينون كثيرا بالفضل في تعلمهم للمدرسين ذلك أن غالبيتهم قد اعتمدوا على الحفظ و الاستظهار لمجرد أن يجتازوا الامتحان و يحصلوا على شهادة ، لقد ساعد وجود المدارس على تعزيز مهنة التدريس و إضفاء هالة من التقدير الزائد على ممارسيها دون اعتبار لما يتعلمه التلاميذ منهم [4]   و ستشهد إيليتش بمثال يمكن أن نفهم منه أنها ظهرت حاجة في عام 1956 لتعليم اللغة الأساسية لبعض الاشخاص ، فقد تم تدريبهم على استخدام احدى الكتب في اللغة الذي تم إعداده في احدى المراكز و بعد القيام بمجهودات شخصية استطاعوا تعلم اللغة [5] ، يركز إيليتش على طريقتين لتعلم وتبادل الخبرات في الحياة الاجتماعية خارج المدرسة و ذلك من خلال المراكز و شبكات التواصل و هما تسهلان عمليات تبادل الخبرات : الاولى أن ننشئ مراكز حرة لتبادل الخبرات تفتح أبوابها أمام الجمهور ، و يمكن بل يجب أن تفتح هذه المراكز في المناطق الصناعية على لخدمة تلك الخبرات التي تعتبر شرطا أساسيا لتلمذة ما و هي خبرات القراءة و الطباعة و مسك الحسابات و اللغة الاجنبية و برمجة الكومبيوتر ، و الثانية أن تعطى الفرص لبعض الفئات ذات الخبرات و المهارات الجيدة لتعليم غيرهم داخل مراكز تبادل الخبرة مقابل أجر معين [6] ، حسب هذا القول فإن أغلبية الناس يمكنهم الحصول على بعض المعارف خارج النظام المدرسي ، و لا ينفي ذلك أنهم يحصلون على بعض المعارف في المدرسة ، المؤسسة التي أصبحت في كثير من الدول الغنية كمكان لاعتقال التلاميذ ، و نجد أن اللامدرسيين قد نجحوا إلى حد كبير في تعرية الواقع التعليمي المدرسي و كشفوا عن مساوئه و سلبياته .

الفلسفة اللامدرسية هي عودة للبساطة و الشمولية و الواقعية و عودة إلى الجذور التربوية التي تجعل تعلم المهارات الحياتية أساس المناهج الدراسية .

  • الأسباب التي دعت إيفان إيليتش لإلغاء المدرسة

إن المدرسة حسب إيليتش لا تقوم بالوظيفة الأساسية التي تتصور أنها قد وجدت من أجلها و هي التعليم و أن أهم ما يستطيع الإنسان أن يفعله في الوقت الحاضر هو أن يسترد مسؤولية تربية أبنائه و أن يقوم بمكافحة المدرسة ، كما ذكر إيليتش عدة أسباب لإلغاء المدرسة و هي :

  • التعليم المدرسي لا يحقق العدالة الإجتماعية

يتحيز التعليم المدرسي عادة ضد الفقراء و يستفيد منه أبناء الاغنياء بدرجة أكبر في برامج الرعاية الاجتماعية التي يقصد منها خدمة أبناء الفقراء ، و هكذا نرى الفقراء لا يحصلون على المساواة نتيجة للتعليم المدرسي الالزامي

  • المدرسة لا تحقق التعلم

ما تفعله المدرسة هو تقسيم عملية التعلم إلى مراحل تعطى في نهايتها شهادات و يتم توزيع الادوار الاجتماعية على أساس الحصول على هذه الشهادات

  • نحن نعيش عصر المدرسة

فجميع وسائل التوجيه الاجتماعي تشحن الجميع للالتحاق بالمدرسة و الحصول على أعلى الدرجات ثم على الشهادات ، التضحية بقيم و ميول و قدرات و اهتمامات في سبيل الكتاب و الشهادة من جهة و في سبيل الفوز برضى الاهل و المجتمع من جهة اخرى ، و بعد ذلك كله قد تأتي النتائج العملية مخيبة لكل هذا الجهد و العناء

  • الطابع التكراري النمطي الممل للحياة المدرسية

من توزيع منتظم لساعات الدروس و من خطة دراسية محددة سلفا و من وظائف إجبارية و من درجات مدرسية من شأنها أن تحيي من جديد ضروب الذل التي فرضت من قبل الشهادات التي ترسل إلى أولياء الامور لتخبرهم بنتائج تحصيل أبنائهم و من إعداد الامتحانات بكل ما تحمله من مظاهر القلق و الخوف و التوتر

  • المنهج الخفي

هو منهج اخر يتعلمه الطلاب في المدرسة  بجانب ما هو مكتوب و معلن في الكتب و المقررات يضم كما كبيرا من القيم و المفاهيم و الاتجاهات التي تبث في التلاميذ من خلال الممارسات اليومية بطريقة غير مباشرة و كثيرا ما يتجه هذا المنهج الخفي توجهات مضادة لما هو معلن

إن البديل للمدرسة كما يقول إيفان إيليتش ليي خلق مؤسسات تعليمية جديدة ، بل تكوين علاقات تربوية بين الانسان و بيئته فمن الممكن التخلي عن المدرسة و الاعتماد على التعليم الذاتي بدلا من استخدام المدرسين ، و يجب ألا يبدأ التخطيط للمؤسسات التعليمية المقترحة التي يسميها إيليتش ( شبكات التعليم ) بالسؤال التقليدي الشهير: لماذا يتعلم الإنسان؟ ، بل يجب أن يبدأ بالسؤال: أي نوع من الاشياء أو الناس يجب أن يتصل بهم المتعلمون خلال عملية التعليم ؟ يحتاج الشخص الذي يريد أن يتعلم إلى شيئين : هما المعلومات و الاستجابة النقدية إلى كيفية استخدامها و تدعو اللامدرسية إلى التعلم الذاتي و المفتوح .

 

  • مبادئ وأسس النظرية اللامدرسية عند إيفان إيليتش
  • أن التعليم يجب أن يقوم على أساس التفاعل و المشاركة لا على أساس الفرض و الارغام
  • تغيير العملية التعليمية ( التدريب و التعليم ) بحيث تصبح إبداعية استكشافية تهتم بالنمو الشخصي
  • أن المجتمع ككل هو المدرسة الكبرى للجميع
  • التعليم الفعال يجب أن يتيح للمتعلمين اختيار ما يتعلمون و متى يتعلمون
  • أن التعليم الذاتي يجعل الفرد يحقق ذاته و تزداد ثقته بنفسه

و قد لمست اللامدرسية كثيرا من الاعصاب الحية و أثارت استجابات حماسية عديدة لسببين :

  • أولهما : أنها تعرضت للنظام التعليمي و المبادئ التربوية الاساسية
  • وثانيهما: الأزمة التي يواجهها التعليم في العالم المعاصر

الكثير من اللامدرسيون يؤمنون بأن المدارس العامة التقليدية تطبق على البشر منطق المصانع ، و هو مقاس واحد يناسب الجميع و أنها ليست جديرة باستغلال أوقات هؤلاء الأطفال لأنها تحصر مهاراتهم الإدراكية في نطاق معرفي واحد و تطالبهم بتعلم موضوع محدد بأسلوب محدد و بخطوات محددة و في وقت محدد بغض النظر عن اهتمامات الطفل و أهدافه و احتياجاته الحالية أو المستقبلية أو درايته المسبقة بالموضوع محل التعلم لذلك طالبوا بإلغائها

لقد شرح إيليتش سمات المتعلم في الفلسفة اللامدرسية حيث ذكر أن المتعلم :

  • يقترب من بيئته بشكل كبير و يتفاعل معها إيجابيا
  • يتعلم من خلال تجاربه و يستفيد من أخطائه
  • يتعلم من أقرانه
  • يحقق ذاته و تزداد ثقته بنفسه
  • يتعلم من خارج أسوار المدرسة و هذا أساس الفلسفة التربوية و من ثم فإن الحياة كلها هي المدرسة الفعلية
  • المنهج

ترفض اللامدرسية المناهج المدرسية التقليدية و تطالب بالسماح للأطفال بالتعلم من خلال تجاربهم الحياتية الطبيعية بما في ذلك نشاط موجه أو التعلم باللعب أو تجربة العمل أو المسؤوليات المنزلية أو التفاعل الاجتماعي أو اختيار منهج يرغبون في دراسته و سيكونون محظوظين في حال توفر معلم خبير في بيئتهم يساعدهم في عملية التعلم ، و تتمحور فلسفة اللامدرسية حول كلمتين هما : التربية البيئية و هي في أدبيات الرواد ، فالتربية البيئية تحاول أن تجيب على سؤال هام جدا و هو : كيف يمكن للإنسان أن يعيش بانسجام مع بيئته الطبيعية ؟ و يربط إيليتش بين التحرر من المدرسة و رفض السيطرة الثقافية و بين رفض التصنيع المفرط و سيطرة حياة المدينة و إحالة الشخص إلى مجرد أداة للعمل و قلبه إلى محض دولاب من دواليب الانتاج أيا كان مستوى كفاءته و أيا كان وضعه و هو يرفض الانتاجية العمياء .

ترى اللامدرسية أن البديل للمدرسة ليس هو استخدام الموارد العامة لإيجاد أسلوب جديد يتعلم به الناس و بين البيئة و حتى توجد هذه الطريقة لابد أن تتغير الاتجاهات نحو فكرة النمو للوسائل المتاحة للتعلم بالإضافة إلى تغير نوعية و بنية الحياة اليومية ، إن إيليتش عندما يدعو إلى إلغاء المدرسة فهو يعتبر الحياة مدرسة و هو هكذا يحتفظ بشعار المدرسة في الحياة ، إن المدرسة في الحياة حسب روبول هي شعار ضد بيداغوجي [7]  فكارل روجرز أراد أن تسير المدرسة في هذا الاتجاه بإلغاء التعليم و ترك التلاميذ ينتظمون من أجل أن يتعلموا بشكل حر ، و آخرون كإيفان إيليتش ذهبوا كما رأينا إلى حد المناداة بإلغاء المدرسة لصالح الحياة ، إن صقل و تطوير المعرفة إنما يمكن أن يتم بمعرفة النظريات و الأسس الاكاديمية و المذاهب المتعددة في مجال التعلم ، بالإضافة إلى هذا فالطفل عندما يترك المدرسة فإن إيليتش ينسى هنا تلك الحقائق التي كشفت عنها الابحاث و الدراسات السيكولوجية عن خطورة مرحلة الطفولة و يكفي أن ما نتعلمه و ما ننجزه أثناءها يكاد يتحكم إلى حد كبير في مسار شخصيتنا [8] و هنا يبدو دور المدرسة و الذي لا يمكن تعويضه خاصة و أنها تتضمن تكوينا أخلاقيا خاصا ، فهي تعلم قيما لا نجدها لا في الاسرة و لا في عالم الشغل مثل المساواة [9]إلا أننا كما يقول روبول : ” لا نصير علماء جغرافيا أو متخصصين في علم الهندسة بواسطة هذه المحاولات و الأخطاء ، بل لا بد من المدرسة”[10]

إن المدرسة مؤسسة أساسية لاسيما بالنسبة لأولئك الذين لا توفر لهم العائلة أساسا جوهريا مكينا من التعليم ، أليس مشروع إذن خلافا لأهدافه الاصيلة مشروعا لا يفيد سوى أصحاب الحظوة ؟ و أخيرا إذا نحن استبدلنا المدرسة العامة بشبكات خاصة من الاتصال ، أفلا يؤدي ذلك إلى زيادة عدد المستمعين من شأنها أن تيسر سيطرة تلك الاوساط المسيطرة التي يود إيليتش تفادي هيمنتها [11]

إن أجوبة إيليتش تبدو غامضة في كثير من الاحيان و ما يقوله ينطبق على المجتمعات الغربية الصناعية ذات الامكانات التكنولوجية العالية و التي تسمح للمتعلم أن يتعلم خارج المدرسة ، لكن ماذا عن مجتمعات العالم الثالث المتخلفة في معظمها ؟ إنها مجتمعات غير متعلمة و غير معلمة ، و إنما على العكس من ذلك يمكن أن تكون تربة خصبة لغرس قيم التخلف و الجمود الفكري و التفكير الخرافي و العديد من صور القهر و الاستغلال ، فضلا عن فقرها المدقع في المعرفة و الثقافة ، فالمعرفة تخضع لطرائق و مناهج و لا يمكن اكتسابها مرة واحدة ، و إنما بشكل تدريجي ، إذ ليس بزيارتنا لمعمل نتعلم الفيزياء و ليس بملاحظة الزهور نفهم النباتات ، فالحياة جد غامضة لكي تعلم [12] و لعل هذا ما يجعل المعرفة المدرسية منظمة و مترابطة بشكل منطقي ، فليس هناك كيمياء بدون أسس رياضية و لا أدب بدون كفاءة لغوية و بلاغية ، أي ليس هناك تعليم بدون محتوى و مكتسبات أولية ، بالإضافة إلى هذا فالحياة جائرة متعسفة مستلبة و دور المدرسة هو الضبط و التعليم ، فليس هناك تعليم بدون مدرسين يتمتعون بكفاءة عالية في ميدانهم ، فكرة أن أي أحد يمكنه تدريس أي شيء هو شيء مناقض للتعليم .

إن التربية الجديدة في دعوتها لشعار مدرسة الحياة تنسى أن الحياة ليست مدرسة و إنما هي معركة شاقة على المدرسة أن تهيئنا لها ، فإذا كانت هناك مدارس فالضبط لأن الحياة ليست واحدة ، و تتجلى أكثر ميزة خاصة بالمدرسة في تفادي الخطر بامتلاك و اكتساب الحس النقدي الذي يتعلمه التلميذ نفسه في المدرسة و الجامعة بالضبط ، فالتساؤل عن أقوال الآباء و الزملاء ، عن أي سيادة كيفما كانت فهذا معناه المجازفة بإيذاء النفس و الآخر في حين أنه عندما ينتقد الطالب قيمة قول ما فهو يقوم بذلك دون أن يؤدي أي شخص آخر .

و أخيرا و بخلاف الفكرة الأكثر تداولا التي تعتبر أن الحياة ذاتها تربية ، فالحياة ليست عادلة في الحياة الحدث يمكن أن يكافئ المخطئ و يسحق البريء ، الحياة هي أيضا الاستغلال و سحق الضعفاء ، لقد رأينا أن هناك ابتكارات في النظريات التربوية لكن حسب أوليفي روبول لابد لأي ابتكار أو تجديد أن يحافظ على ما هو أساسي و ثابت في العملية التربوية ، و هو ينتقد بذلك عددا من المفكرين الذين حاولوا إلغاء سلطة المدرس و المدرسة روجرز كمثال ،ثم هناك إيليتش الذي دعا ليس فقط إلى ضرورة إلغاء سلطة المدرسة و إنما إلغاء المدرسة بشكل عام لأنها تقيد حرية الابداع و الابتكار و لا تحترم التراكمات المعرفية عند المتلقين و الطموحات و الرغبات عند المتلقين ، هذا النوع من التجديد يعتبره روبول خارج أو ضد التعليم في حين أن الابتكار الحقيقي هو الذي ينطلق من داخل المؤسسة باعتبارها الثابت ، و حتى تكون الابتكارات بيداغوجية لا بد لها من الحفاظ على هذا الثابت الذي هو التعليم الذي يستوجب وجود مدرسة و مدرس و محتوى حيث يقول : ” يمكنكم أن تغيروا كل ما تريدون و لابد من ترك علاقة سليمة ، من دونها لن يكون الابتكار بيداغوجيا هذا الثابت هو التعليم في الابتكارات الاكثر جذرية خاصة مع إيليتش الثابت نفسه تم المساس به ، لم نعد نبتكر داخل التعليم و إنما ضده”  

 

نجح اللامدرسيون إلى حد كبير في تعرية الواقع التعليمي المدرسي ، و كشف الكثير من مساوئه و سلبياته ، إلا أنه لا بد أن نقف عند جذور هذه الفلسفة التي ظهرت في مجتمع يختلف كثيرا عن مجتمعنا في عاداته و أنظمته ، فلو فكرنا قليلا سنجد أن تطبيق مثل هذه الفلسفة في مجتمعنا قد يعيده للوراء و يكون سببا في إنتشار الجهل و الخرافات مرة أخرى.

[1] Reboul Olivier , Qu ‘ est ce qu’ apprendre ? PUF . 1980

[2] غي أفان زيني ، الجمود و التجديد في التربية المدرسية ، ترجمة عبد الله الدايم ، ص 436

[3] روبول أوليفيي ، لغة التربية : تحليل الخطاب البيداغوجي ، ترجمة عمر أوكان ، إفريقيا  الشرق ، 2002 ، الدار البيضاء ، ص 177 

[4] سعيد إسماعيل علي ، فلسفات تربوية معاصرة ، عالم المعرفة ، ص 200

[5] إيليتش ، مجتمع بلا مدارس ، يوسف نور عوض و زميله ، ص 21 عن سعيد إسماعيل علي ، عالم المعرفة ، 1995 ، ص 203

[6] سعيد إسماعيل علي ، فلسفات تربوية معاصرة ، ص 204

[7] روبول أوليفي ، لغة التربية : تحليل الخطاب البيداغوجي ، ترجمة عمر أوكان ، إفريقيا الشرق، 2002 ، الدار البيضاء، ص 127

[8] سعيد إسماعيل علي، فلسفات تربوية معاصرة، عالم المعرفة، 1995،ص 208

[9] Reboul Olivier , la philosophie de l’éducation .PUF, 1989 Paris,P 41-42

[10] Reboul Olivier,Qu est ce qu’ apprendre ? PUF ,1980  Paris ,P 103

[11] غي أفان زيني ، الجمود و التجديد في التربية المدرسية ، ترجمة عبد الإله الدايم ، ص 460

[12] روبول أوليفي ، لغة التربية : تحليل الخطاب البيداغوجي ، ص 71

إغلاق