الفلسفة الغربية الحديثة (محطات من تاريخ الفلسفة) ذ. مراد الكديوى

المجزوءة: الفلسفة
المحور الثاني: محطات من تاريخ الفلسفة
العنصر الثاني: الفلسفة الغربية الحديثة (الفلسفة والمنهج)

إعداد: الأستاذ مراد الكديوى

 

مدخل عام حول الفلسفة الحديثة

شهد الفكر الفلسفي ولادة جديدة خلال العصر الحديث. ولادة ظهرت معها الفلسفة كصورة مغايرة للفلسفات التقليدية التي كانت سائدة قبلها. ويبدو هذا الإختلاف واضحا من خلال تأمل طبيعة الإهتمامات الفكرية و الإشكالات التي اهتمت الفلسفة الحديثة بمعالجتها. فهذه الأخيرة قامت بالإنزياح عن الإشكال التقليدي للفلسفة الوسطوية المتمثل في بحث علاقة الفلسفة بالدين إلى استشراف أفاق المعرفة الإنسانية و حدودها، فكان الإنسان كذات معرفية (مبحث المعرفة) هو محور هذه الفلسفة.
            غير أنه تجدر الإشارة إلى أن القول بتجاوز الفلسفة الحديثة للإشكال الكلاسيكي المتعلق بطبيعة العلاقة بين الفلسفة و الدين نحو مبحث المعرفة لم يكن وليد فراغ بل ارتبط بمقدمة أساسية هي عصر النهضة التي شكلت الخلفية النظرية لإنبثاق الفلسفة الحديثة. كيف ذلك؟
            عرف عصر النهضة ثورة حقيقية في مجال العلم و الفلسفة. إذ تم الإنتقال من تفسير الطبيعة تفسيرا لاهوتيا إلى تفسيرها تفسيرا علميا و تسخير المعرفة لخدمة الإنسان و تحسين حياته الدنيوية، لقد كان عصر النهضة بمثابة عودة إلى الإنسان بعد طول نسيان عبر إحياء الفنون و الآداب و العلوم اليونانية القديمة. وعموما فإن هذا التحول يبدو واضحا إذا ما توقفنا عند الحركات الفكرية لعصر النهضة:
·       حركة الإصلاح الديني.
·       الحركة الإنسية.
·       الثورة العلمية مع كوبرنيك.
تشكل هذه العتبات الثلاثة مجتمعة المدخل لفهم الفلسفة الحديثة من حيث موضوعها و اشكالها ما دامت جميعها تركز على الإنسان و قدرته على المعرفة في سبر أغوار الطبيعة و اكتشاف أسرارها، لذلك فليس غريب في شيئ أن يكون الإشكال العام للفلسفة الحديثة هو إشكال العلاقة بين الفلسفة و المنهج. فحضور المنهج في هذه الفلسفة هو الحضور الذي يشكل غياب الموضوع الرئيسي ألا وهو المعرفة. وقد انبثق هذا الإشكال من صميم الثورة الكوبرنيكية في نظام الكون. فإذا كان العلم قادر على وصول الحقيقة باعتماد مناهج علمية دقيقة فإن هذه الضرورة أصبحت ملحة في الفلسفة مادامت هي الآخرى تسعى إلى بلوغ الحقيقة وهو الأمر الذي اقتضى استعارة المناهج العلمية في مجال البحث الفلسفي فصارت بذلك إشكالية الفلسفة الحديثة هي إشكالية المنهج. ويمكن أن نعبر عنها بالسؤال التالي: ما طبيعة العلاقة بين الفلسفة و المنهج؟

تحليل نص رونيه ديكارت “الفلسفة والمنهج” ص28

 

التعريف بصاحب النص

رنيه ديكارت (1596-1650) فيلسوف فرنسي. يسمى عادة بأب الفلسفة الحديثة و مؤسس الإتجاه العقلاني. له مجموعة من المؤلفات الفلسفية من قبيل: “مبادئ الفلسفة”، “مقال في المنهج”، “تأملات ميتافيزيقية”، “انفعالات النفس”.
البنية المفاهيمية للنص:
العقل: ملكة للحكم و التمييز بين الأشياء( الصواب-الخطأ، الخير-الشر)
المنطق: الة لعصمة العقل من الوقوع في الزلل.
الأقيسة: جمع قياس. وهو القول الذي ننتقل فيه من مقدمتين إلى نتيجة عبر حد وسط.
البداهة: هو ما يفرض نفسه على العقل و يدفعه إلى الأخذ به و قبوله بصورة مباشرة ويدل على الفكرة الموسومة بالوضوح و التمايز عند ديكارت.
الوضوح: ما يكون ماثلا لعقل يقظ و متجليا أمامه.
التمايز: هو ما بلغ من الدقة و الاختلاف عن سواه من الأشياء بحيث لا يشمل إلا على ما هو واضح.

 

السؤال الذي يجيب عنه النص (إشكال النص)

ماهي الطريقة الصحيحة للوصول إلى معرفة جميع الأشياء؟

 

الفكرة العامة للنص (أطروحة النص)

يرى ديكارت بأن الطريقة الصحيحة لمعرفة جميع الأشياء دون الوقوع في الخطأ لا يمكن في المنطق. بل تتمثل في اتباع الخطوات المنهجية الأربعة: قاعدة الشك أو اليقين- التحليل- التركيب- الإحصاء أو المراجعة، شريطة عدم التسرع و التعجل و ضرورة اتخاذ الحيطة و الحذر.

 

الأفكار الأساسية للنص

ضرورة امتلاك طريقة صحيحة تقود إلى معرفة جميع الأشياء تقوم على الحيطة و الحذر و عدم التسرع.
الطريقة الصحيحة لقيادة العقل لا تكمن في المنطق لأنه يتألف من قواعد متعددة ، و لأنه لا ينفعنا في تعلم أمور جديدة.
الطريقة الصحيحة لمعرفة جميع الأشياء تقوم على القواعد الأربعة: قاعدة الشك أو اليقين- التحليل- التركيب- الإحصاء أو المراجعة.

 

البنية الحجاجية للنص

ينبني النسيج الداخلي للنص على بنية حجاجية ترتكز بالأساس على التمثيل كحجة وظيفتها تقريب المعنى بالجمع بين حدين حسي وآخر مجرد، ويتضح ذلك من خلال الجدول التالي:
الرجل
الظلمات
السير
الحيطة
السقوط
ديكارت
العوائق
المعرفة
المنهج
الخطأ
إن هذا التمثيل هو التأسيس النظري لحاجة ديكارت إلى منهج يهتم به لعدم الوقوع في الخطأ

 

تعليق حول النص

يعكس نص ديكارت اهتماما من بين الاهتمامات الجوهرية للفلسفة الحديثة، والمتمثلة في مسألة المنهج، حيث إن الوصول إلى الحقيقة لا يمكن أن يتم في هذا السياق إلا إذا تسلح العقل بمنهج يعصمه من الوقوع في، ولذلك فإنه ليس غريبا أن نجد معظم الفلسفات في بنيتها تستند على خلفية منهجية مستمدة من العالم، والمترجمة في سؤال المعرفة، إن سؤال المعرفة هو تعبير عن تلازم المنهج مع الفلسفة الحديثة، ويكفي أن نبحث في نظرية المعرفة، حتى نتبين الحضور القوي فيها وهو ما سنتعرض له في التالي:

سؤال المعرفة في الفلسفة الحديثة

يكتسي سؤال المعرفة في الفلسفة الحديثة الأهمية ذاتها التي تفرد بها سؤال الوجود مع طاليس. ذلك أن تاريخ الفلسفة هو تاريخ تعرج الإشكالية من حقل استفهامي إلى اخر حسب القضايا التي يحملها الفكر البشري في كل مرحلة.
            إن الخوض في سؤال المعرفة هو خوض في نظرية المعرفة التي تختص بالبحث في إمكانية قيام المعرفة و حدودها و قيمتها. لقد أدى البحث في هذه القضايا إلى تشكيل الإتجاهات الفلسفية التي تناولت مشكلة المعرفة بالبحث وهي:

 

1 – الاتجاه العقلاني:

ويمثله ديكارت (اسبينوزا- لايبنتز…) و يرى أن مصدر المعرفة هو العقل كونه يحوي أفكار فطرية و استعدادات قبلية سابقة على كل تجربة. بمعنى أن المعرفة اليقينية لا يمكن الحصول عليها إلا عن طريق العقل دون الحاجة إلى الحواس التي توقعنا في الخطأ.

 

الاتجاه التجريبي

و يحمل لواءه كل من “دافيد هيوم” و “جون لوك”… وينبني تصور المعرفة فيه على نقد مفهوم العقل كما قدمه ديكارت. فليس العقل يتضمن أفكار فطرية لأن العقل ماهو إلا صفحة بيضاء تأتي التجربة لتكتب عليها ما تشاء، وعليه فليست هناك معرفة سابقة على الحواس و التجربة وما اعتقادنا بوجود أفكار فطرية إلا وهم ناتج عن التكرار و الدليل على ذلك هو غياب الإجماع حول الأفكار (مثال: المجنون و الطفل ).
            في ظل هذا الإختلاف ظل النزاع قائما بين العقلانيين و التجريبيين حول أصل و مصدر المعرفة مما أنتج نزعة وثوقية دوغمائية تعتقد في أصل مطلق للمعرفة، و هو ما حاول أن يتجاوزه الإتجاه النقدي.

 

3 – الاتجاه النقدي

و يتمثل في صورة “إيمانويل كانط”. وهو نقدي لأنه يقوم بنقد الأساس العقلي و التجريبي للمعرفة على حد سواء. ويعرض كانط لنظرية المعرفة من خلال:
أ الحساسية: و هي القدرة العقلية على الإدراك الحسي. و يميز كلنط فيها بين عنصر بعدي تتلقاه الحواس من العالم الخارجي و بين عنصر قبلي يشكل صورة الحساسية المتمثل في الزمان و المكان باعتبارهما الشرطين الضروريين لإمكان قيام المعرفة.
ب الفهم: و هي القدرة على تحويل المدركات الحسية إلو مدركات عقلية عبر إدخال مقولات تتفرد بالضرورة و الكلية تمكننا من الفهم كمقولة السببية.
            تتألف المعرفة من مادة و صورة. تكون الحساسية مادتها و الفهم صورتها. ولا تقوم المعرفة إلا باجتماعهما و هو ما يعبر عنه “كانط” بقوله:” المفاهيم بدون حدوس حسية تظل جوفاء، والحدوس الحسية بدون مفاهيم تبقى عمياء”.
ج العقل الخالص: ويقوم حين يحاول العقل أن يعمم قدرته على المعرفة بالإستناد إلى مقولات الفهم، و فيها ينتج العقل الأغاليط و الجدل بدل أن ينتج اليقين كما هو الحال في الفهم نظرا لغياب التجربة، هذا و تقوم أفكار العقل الخالص في ثلاثة أفكار: فكرة الذات المفكرة (النفس)- فكرة السلسلة الكاملة عن العالم (بدلية العالم في الزمان)- فكرة أسمى الموجودات (الله).

 

إغلاق