الفلسفة الإسلامية: محور محطات من تاريخ الفلسفة
موضوع الدرس
- المجزوءة الأولى: مجزوءة الفلسفة
- المحور الثاني: محور محطات من تاريخ الفلسفة
- العنصر الأول: الفلسفة الإسلامية
- إعداد الأستاذ: مراد الكديوى
محاور الدرس
- مدخل عام حول محور محطات من تاريخ الفلسفة
- المقطع الأول: الفلسفة الإسلامية – الفلسفة والدين
- أولا: الإمام الغزالي: العلاقة بين الفلسفة والدين علاقة انفصال
- ثانيا: ابن رشد: علاقة الفلسفة بالدين علاقة اتصال – تحليل نص بن رشد ص 26
مدخل عام حول محور محطات من تاريخ الفلسفة
إذا كان العلم لا ذاكرة له بمعنى أنه لا يفكر في تاريخه، فإن الفلسفة على خلاف ذلك لا يمكن أن تستشكل حول موضوعاتها إلا هي انطلقت من تاريخها و رجعت إليه فالفيلسوف محكوم عليه بالتكرار والعودة للأصل(تاريخ الفلسفة) وبذلك تتخذ الفلسفة طابعا تلازميا مع تاريخها بحيث لا يمكن الفصل بينهما. إنهما وجهان لعملة واحدة.
إن الفلسفة بما هي تاريخ تؤلف سلسلة من المحطات الفكرية عبر هذا التاريخ الطويل التي تتصل وتنفصل فيما بينها. فهي تتصل على المستوى النظري حيث تكون كل فلسفة هي تفكير بطريقة جديدة في أفكار قديمة، أما على مستوى الإنفصال فإن ذلك يتمظهر من خلال الإشكال العام الذي تعنى كل محطة من محطات الفكر الفلسفي بمعالجته، فإذا كان إيبستمي(مجموع الإطارات الفكرية المكونة لحقبة ما على المستوى النظري و الثقافي و الإجتماعي…) الفلسفة اليونانية هو بحث إشكال أصل الوجود في علاقة استشكالية بين الميتوس و اللوغوس. فإن إشكالية الفلسفة الإسلامية تقوم في بحث العلاقة بين الفلسفة و الدين كسؤال قيمي حول المجالين معا، في حين أن ظهور الفلسفة الحديثة كان بمثابة إعلان لإشكال العلاقة بين الفلسفة والمنهج ضمن مبحث المعرفة وذلك بالنظر إلى كون أن مختلف التصورات الفلسفية في العالم أصبحت تبنى انطلاقا من الخلفيات المنهجية للعلم(الرياضيات- الفيزياء- البيولوجيا) هذا في حين أن الفلسفة المعاصرة قامت كتساؤل حول طبيعة العلاقة بين الفلسفة و العلم ايبستمولوجيا و قيميا.
إن الثابت في السطور الماضية هو أن الفلسفة تؤلف في سيرورتها التاريخية جملة من المحطات التي تعبر عن الإهتمامات الفكرية الإنسانية في مرحلة من المراحل و التي تؤكد أن الفلسفة في جوهرها هي التعرج الإشكالي أو الإنزياح عن إشكالية في اتجاه إشكالية أخرى، و عموما فإنه يمكننا التعبير عن جملة الإشكالات هذه كأن نتساءل فنقول:
- هل الفلسفة وحدة كلية منسجمة أم أنها مجموعة من المراحل التي تختلف عن بعضها البعض؟
- بأي معنى تكون كل محطة من هذه المحطات تعبير عن إشكالية محددة دون غيرها من الإشكاليات؟
- كيف تكون إشكالية العلاقة بين الفلسفة و الدين و العلاقة بين الفلسفة و المنهج ثم بين الفلسفة و العلم هي تعبير بالتتالي عن الفلسفة الإسلامية(وكذا المسيحية) و الحديثة و المعاصرة؟
المقطع الأول: الفلسفة الإسلامية – الفلسفة والدين
إذا كانت الفلسفة اليونانية ظهرت أساسا كتجاوز للأسطورة(الميثوس) أو كنزع للطابع الغرائبي عن العالم الناتج عن وجود فراغ نظري حول طبيعة الحقيقة و الوجود و القيم…فإن الفلسفة الإسلامية انبثقت كصورة مكتملة التفسير لموضوعات العالم ما دامت تستند إلى القرآن و السنة كمرجعية نظرية. غير أن مثل هذا الإستناد يطرح سؤال الحاجة إلى الفلسفة في مجتمع يشكل الدين ثقافته الرسمية، بمعنى اخر لماذا الحاجة إلى الحقيقة العقلية إذا كانت هناك حقيقة نقلية؟ زما طبيعة العلاقة بينهما؟
لقد شكلت العلاقة بين النقل و العقل بين الحكمة و الشريعة محور اهتمام الفلسفة الإسلامية وفلاسفتها. فكانت هذه العلاقة تارة توافقية و تارة تعارضية بينما كانت تارة أخرى منفصلة حيث يكون لكل من الفلسفة و الدين مجاله الخاص الذي لا يجب أن يتعداه. إن ما يمنح لهذه العلاقة أصالتها في الفكر الإسلامي هو طبيعتها الجدلية فبين الإختلاف في الطرق و المناهج يظهر الإتفاق في الغاية التي هي البحث عن الحقيقة. إلا أن القول بالإتفاق الغائي لم يمنع زمرة من فلاسفة الإسلام من إقصاء الفلسفة و وجوب ترك الإشتغال بها كونها في مثل هذا الرأي تشكل خطرا على الدين ولعل ذلك يجد تعبيره في قول الفقهاء التالي:”من تمنطق تزندق“.
عموما إن الحديث عن إشكال العلاقة بين الفلسفة و الدين داخل الفلسفة الإسلامية يضطرنا إلى الوقوف عند لحظتين أساسيتين:
1 – لحظة النكسة أو قتل الفلسفة: ويمثل هذه اللحظة الإمام الغزالي لقوله بوجوب تكفير الفلاسفة و قتل من يعتقد إعتقادهم. وقد قامت دعواه هذه على ثلاث مسائل: مسألة قدم العالم- مسألة العلم الإلهي- مسألة البعث.
2 – لحظة إحياء الفلسفة: ويمثلها الحفيد الأندلسي ابن رشد لأنه أعاد ربط العلاقة بين الفلسفة و الدين على أساس التوافق حيث أنهما لايختلفان ما دام هما معا نظر في الموجودات من حيث الدلالة على وجود الصانع. وقد صدر ابن رشد في موقفه هذا بالنظر إلى المسائل الثلاث التي قال بها الغزالي فهي لاتتجاوز أن تكون تهم كونها تصنف ضمن الظنيات أي من الأمور النظرية التي لاسبيل إلى إثباتها على وجه اليقين ثم لأن قول الغزالي لا يصدر عن إجماع الفلاسفة بهذه المسائل، وكذلك لأنها تنبني على مقدمات جدلية.
خلاصة القول أن الإشكال العام للفلسفة الإسلامية هو بحث العلاقة بين الحكمة والشريعة من الرؤى النظرية لكل من هما. فما هي إذن طبيعة العلاقة بين الفلسفة والدين؟ هل هي علاقة توافق ام علاقة تعارض؟ وما موقف الشرع من فعل التفلسف؟
أولا: الإمام الغزالي: العلاقة بين الفلسفة والدين علاقة انفصال
يرى الإمام الغزالي في كتابه “تهافت الفلاسفة” أن الإشتغال بالفلسفة في المجتمع الإسلامي يشكل خطرا على الإعتقاد. إذ أن الفلاسفة بمحاولة تعميمهم للمنطق في بحث الأمور النظرية الميتافيزيقية يقوض الأسس التي يقوم عليها الدين. ويعرض الغزالي لهذا التعارض بين طبيعة القول الفلسفي والقول الديني من خلال ثلاث مسائل أعلن فيها تكفيره للفلاسفة.
مسألة قدم العالم: يقوم أساس الإختلاف في هذه المسألة في تصور العالم بين القدم والحدوث. فبالنسبة للفلاسفة فالعالم قديم بموجب المبدأ التالي: “استحالة صدور الحادث عن القديم قدما مطلقا” بمعنى أن القديم إما ألا يصدر عنه شيىء وإما أن يصدر عنه على وجه التناقض فالقول بحدوث العالم يفضي لمجموعة من التناقضات المنطقية في تصور الوجود الإلهي. وعموما فإن قول الفلاسفة ينبني على أربع حجج أساسية:
• حجة العلة: ومضمونها استحالة تأخر المعلول عن علته وهذا معناه أن العالم كمعلول لله يستحيل أن يتأخر عنه في الوجود فهو مساوق له بمالمعنى الذي يكون فيه العالم معلولا قديم غير متأخر عن علته (الله)
• حجة الأحوال الإلهية: ومفاذها أن الأحوال الإلهية هي أحوال متشابهة وثابتة غير متغيرة فالله مطابق لذاته، ومن تم فإن القول بحدوث العالم معناه التغير في الأحوال الإلهية والتغير نقص وفساد لا يمكن أن يقال عن الوجود الإلهي وبالتالي فالعالم قديم.
• حجة الإرادة: وفيها يرى الفلاسفة أن الإرادة الإلهية إرادة قديمة أزلية وثابتة لا تتغير وهذا مناقض للقول بحدوث العالم، فهذا الحدوث يعني أن الله لم يريد العالم لكنه توفرت له الإرادة بعديا فخلقه. ومن تم تكون الإرادة الإلهية متغيرة وهذا غير ممكن.
• حجة المرجح: ومعناه أن القول بحدوث العالم يرتبط بوجود مرجح رجح وجوده عن عدم وجوده. الشيىء الذي يعني أن الله كان عاجزا عن خلق العالم بدون وجود الة رجحت وجود العالم عن عدم وجوده.
هذا ويرد الغزالي على قول الفلاسفة في قدم العالم باعتراضين:
• اعتراض الإبطال: وفيه يهدم الغزالي قول الفلاسفة في حجة العلة. فالحوادث لا يمكن أن تتداعى إلى ما لا نهاية لأن هذا التداعي معناه نفي الوجود الإلهي وهو ما يتعارض مع قول الفلاسفة أنفسهم. وعليه فلا بد من وجود علة كافية تستند عليها باقي المعلولات الأخرى.
• اعتراض المطالبة: وفيه يثبت الغزالي أن القول بحدوث العالم لا يعني تغير في الإرادة. فالله خلق العالم بإرادة قديمة اقتضت أن يوجد في الوقت الذي وجد فيه مثلما يقرر المسافر قبليا أن يسافر فيما بعد.
مسألة العلم الإلهي: يرتبط الجانب الإشكالي في هذه المسألة في تصور المعرفة الإلهية. ففي الوقت الذي يتصورها الفلاسفة بأنها معرفة بالكليات فقط لأن الله إما أن يعلم ذاته وإما أن يعلم الأشياء من حيث هي كلية، فالله لا يعلم الجزئيات لأن علمها يعني تعدد في الذات الإلهية، ثم لأن الجزئيات واقعة تحت الزمان والمكان. فمعرفتها إذن: تعني أن وجود الله وجود زماني. أما الغزالي فلا يرى في تعدد المعارف تعدد للذات فالعلم الإلهي علم واحد وكلي وشامل.
مسألة البعث: إن الإختلاف الأساسي في هذه المسألة راجع لتصور الحساب. هل سيتم بالروح أم بالروح والجسد. ففي الوقت الذي يتصور الفلاسفة أن البعث سيتم بالأرواح لأن الروح عنصر أولي على خلاف الجسد الفاني، حيث يكون الروح هو مصدر الأفعال فإن الغزالي يرى على النقيض بأن البعث سيتم بالروح والجسد معا.
خلاصة القول أن العلاقة بين الدين والفلسفة هي علاقة انفصال نظرا لإختلاف كل من القول الديني والفلسفي في المسائل الثلاث. ومن تم عمل الغزالي على تهميش الفلسفة ودوراها داخل المجتمع الإسلامي.
ثانيا: ابن رشد: علاقة الفلسفة بالدين علاقة اتصال – تحليل نص بن رشد ص 26
معاينة نص ابن رشد
تعريف الفيلسوف بن رشد
هو الإمام محمد ابن أحمد بن رشد الحفيد الأندلسي، و يلقب ب(أبو الوليد)ولد سنة 520 هجرية(1126م) بقرطبة وتلقى تكوينه العلمي و المعرفي فيها درس القضاء و زاوله كما تعلم الفقه و علم الكلام و النحو، بالإضافة إلى دراسته الطب و الموسيقى و الفلك و العلوم الرياضية له عدّة مؤلفات من بينها: تلخيص و شرح كتاب ما بعد الطبيعة- الكليات- المسائل- فصل المقال-مناهج الأدلة- تهافت التهافت….
البنية المفاهيمية للنص
- النظر: التأمل العقلي
- الصانع: الخالق (الله)
- الشرع: المقصود به الدين
- الندب: حكم شرعي يفيد المستحب ويقابله المكروه
- الوجوب: حكم شرعي يفيد الأمر ويقابله النهي
- القياس: استدلال عقلي يتم فيه الانتقال من مقدمتين بينهما حد وسط، إلى نتيجة متضمنة في المقدمتين مثال: كل إنسان فان، سقراط إنسان، سقراط فان.
- القياس البرهاني: هو القياس الأكثر صدقا بالنظر إلى المقدمات اليقينية التي ينبني عليها.
إشكال النص
ما طبيعة العلاقة بين الفلسفة و الدين هل هي علاقة انفصال و قطيعة أم علاقة ترابط و اتصال؟ و بصيغة اخرى ماهو موقف الشرع من فعل التفلسف هل يحرمه أم أنه يدعو إليه و يأمر به؟
أطروحة النص
يرى ابن رشد أن العلاقة بين الفلسفة و الشرع هي علاقة توافق ما دام كلاهما نظر في الموجودات لإثبات نفس الغاية وهي وجود الصانع، وبذلك فإن الشرع لا يعترض على فعل التفلسف بل يوجبه و يحث عليه بالأحكام الشرعية و الآيات القرآنية التي تحث على النظر و التأمل.
البنية الحجاجية للنص
ارتكز ابن رشد في بحث العلاقة بين الحكمة و الشريعة على بنية حجاجية تشكل نسيج النص و بناءه المنطقي الداخلي، ويمكن أن نجمل ذلك في المعطيات التالية:
التعريف: تعريف الفلسفة بأنها نظر في الموجودات لدلالتها على وجود الصانع.
التلازم المنطقي: بين المصنوعات و الصانع. حيث أن وجود المصنوعات يدل ب الضرورة على وجود الصانع.
حجة السلطة (الإستشهادات القرآنية): “فاعتبروا يا أولي الأبصار“….
الإستدلال المنطقي: الإنطلاق من تعريف الفلسفة و بيان مجالها ثم الإنتقال إلى الشرع و بيان خصائصه من حيث أنه يدعو إلى النظر في الموجودات، ومن تم الخروج بإستنتاج منطقي و هو التالي:
الفلسفة نظر في الموجودات لدلالتها على وجود الصانع— الشرع يدعو إلى النظر في الموجودات بالأدلة القرلآنية لدلالة على الصانع— النتيجة: الفلسفة و الدين منسجمان و يهدفان لنفس الغاية.
تعليق حول نص بن رشد
يمثل نص ابن رشد مرافعة نقدية أراد من خلالها الدفاع عن مشروعية الفلسفة في المجتمع الإسلامي. و الأخد بالعقل إلى جانب النقل لأنهما يسعيان لنفس الغاية التي هي إثبات وجود الصانع. وإذا كان الإتفاق حاصل على مستوى الغاية فإن الإعتراض على فعل التفلسف بحجة الشرع يصبح لاغيا، لأن هذا الأخير نفسه يقدم الآدلة القرآنية⁄ النقلية و الأحكام الشرعية(الندب- الوجوب) على وجوب النظر و التأمل في الموجودات.
إن نص ابن رشد هذا هو بمثابة ردّ على الإمام الغزالي الذي كان فيما قبل قد حرم الإشتغال بالفلسفة و كفّر فلاسفتها لبثهم في الأمور النظرية، وهو الأمر الذي لا يتفق مع المنظور الشرعي الذي ندب و أوجب النظر و التأمل.
خلاصة القول أن الشرع لا يعترض على فعل التفلسف لأن مجالهما واحد( النظر في الموجودات) و غايتهما واحدة( الدلالة على وجود الصانع ) حيث يكون بحث الموجودات هو الوسيلة لإثبات وجود الصانع وهو ما عرض له ابن رشد بالتلازم المنطقي بين المصنوعات و الصانع.
تتمة المحور