الصحة والايدولوجيا بقلم سلامة عبيد الزريعي
التمركز حول الذات هو الشر بعينه، ويبقى الأشرار يستغلون الصحة لغرض الايدولوجيا في عالم يحكمه الاستهلاك الشرير
سلامة عبيد الزريعي
تبعا للمقال السابق، والموسوم بجائحة كورونا: هي الشر السائل في العصر الذي نعيشه والذي تتسم ظواهره بالسيولة، وتبعا لمشاهدتنا لأحد الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي لإحدى الطبيبات العربيات وهي تتساءل وبحرقة ممزوجة بالحسرة والألم عن سر الخروج الجماعي للتسوق من قبل المواطنين، رغم النداءات المتكررة لالتزام البيوت، تفاديا لإجبارهم بفعل القوة العمومية على دخول بيوتهم، وعدم تعرضهم للضرب المبرح كما حدث في بعض الدول، لمساعدتهم على أداء واجباتهم مع رجال الحماية المدنية، خط الدفاع الأول في مواجهة الشر، مضحين بأرواحهم فداءا للجميع وعلى أن تبقى أسماؤهم خالدة شهداء للواجب الصحي في هذا العصر الاستهلاكي الشرير. نواصل في ذات السياق “سيولة الشر” مقالنا هذا عن الصحة والايدولوجيا. مما يدعونا للتساؤل: حول إمكانية ربط الصحة بالايدولوجيا وهل الفشل في رعاية الجسد وصمة عار ؟ وأين موقع الفردية وسيادة الحكم في السيولة الراهنة ؟
يستمد الاقتصاد الاستهلاكي العون والدعم من فلسفة الصحة، علما بان هذه الصحة في هذه الأيام لا تعني كبح الرغبات الآثمة للجسد، بل تعني العيش بصحة جيدة … إن العنصر الإيديولوجي لصحة الجسد يظهر وبشكل جدي في الأفراد الذين يخفقون في العناية بأجسادهم، حيث يجري شيطنتهم باعتبارهم أناسا كسالى وواهنين وأصحاب إرادة ضعيفة… وعندما تصبح الصحة أيديولوجيا يتحول الفشل في الالتزام بها إلى وصمة عار.[1]
فليس هناك إيديولوجيا كاملة من دون تحديد وشيطنة الكافرين بها ومنتقصيها ومخربيها، وفي اجتماعهم وحده، يشكلون شبكة من الأوعية الشعيرية التي تربطهم، وهذه الأوعية تخترق الكائن العضوي بأسره، تغذيه شرابا وتشبعه طعاما، فهي رفيعة إلى درجة أن خلايا الدم لا يمكنها إلا أن تمر عبرها في صف منتظم.[2]
النزعة الفردية
إن الشر في صورته السائلة إنما يملأ شبكة الأوعية الشعيرية لمجتمع المستهلكين المتمركزين حول أنفسهم والخاضعين للنزعة الفردية والمهووسين بصحة الجسد، على غرار المدينة الفاضلة “دير تيليم” للكاتب الفرنسي “فرانسوا رابيليه”[3]، كما يمكن القول أيضا بان السائل الذي يملأ الأوعية الشعيرية لذلك المجتمع وتوصله تلك الأوعية إلى ذلك المجتمع، هو سائل يولد أثار ابيضاض الدم أو اللوكيمياء بدلا من التوزيع الطبيعي للدم.[4]
يرى أهل الطب أن المصابين باللوكيمياء يفرزون خلايا دم بيضاء غير طبيعية، وأن هذه الخلايا تتراكم في مخ العظم وتمنع إفراز خلايا دم آخر مهمة، وأغلب المشكلات المرتبطة باللوكيمياء تعود إلى نقص الخلايا الطبيعية في الدم وليس إلى خلايا اللوكيمياء نفسها… فخلايا اللوكيمياء يمكن أن تتجمع في كثير من الأنسجة والأعضاء، كالجهاز الهضمي، والكلى، والرئتين، والعقد اللمفاوية، وغيرها من أجزاء الجسم، بما في ذلك العينان والمخ والخصيتين. .. والسمة الخبيثة التي تتسم بها اللوكيمياء تكمن في إخفاء مساراتها حتى تدمير الوظيفة الطبيعية لتوزيع الدم “وظيفة توزيع الدم المؤكسد من الشرايين إلى أنسجة الجسم وإعادة توزيع الدم المنزوع الأكسجين من الأنسجة إلى الأوعية”.[5]
عندما تظهر الأعراض فإنها تكون معتدلة في بداية الأمر، وتتفاقم تدريجيا، ولكن في بعض الأحيان لا تتفاقم إلا بعد سنوات عدة من التشخيص الأولى.[6] … والأدهى أنه مادامت الأعراض المعتدلة تبقى خفيفة وتعجز عن التحول غير الملحوظ، إلى قهر أو إدمان يجرى إدراكه ومعايشته على انه سلوك مكتسب ومتحسن للغاية، فان تلك الأعراض المعتدلة يمكن أن تبدو ممتعة بوضوح، وتمزج الجاذبية الحسية المشبعة الممتعة بالإحساس المغتر بالواجب المتقن أيما إتقان “الواجب المتمركز حول الذات، والذي يجرى رفعه إلى منزلة الواجب الاجتماعي، بل الإنساني”… فهناك صعود مذهل لما يسمى بالأخلاقيات البيولوجية، وأخلاق المشاعر والعواطف، التي تحتفي بالقاعدة الذهبية لديهم وهي: “إن الشخص الذي يشعر بأنه صحيح صحة جيدة “وسعيد” هو شخص جيد والشخص الذي يشعر انه بصحة سيئة هو شخص سيئ”.[7]
إن ما يضع الشر ويبقي عليه في ذلك الوضع السائل الشعيري، واللوكيمي في نهاية المطاف، هو” الفردية”، بمعنى خصخصة الاهتمامات والالتزامات المستمدة من تحديات الوجود الإنساني.
السيادة والحكم:
إذا كان ما سبق يؤدي إلى نوع من الحكم ينظر إليه منذ “توماس هوبز”[8] على الأقل بأنه لم يعد ممكنا وهو حكم لا يستمد شرعيته من الوعد بالحماية والأمن، فعلى العكس من الحكم القديم لسيادة تتطلب الطاعة في مقابل الحماية، يعيش حكم الليبرالية الجديدة بالأساس عبر انعدام الأمن الاجتماعي، عبر تنظيم الحد الأدنى من الأمان وزيادة عدم الاستقرار في آن معا. وفي أثناء تفكيك وإعادة تشكيل دولة الرفاه والحقوق المرتبطة بها، يجري تأسيس حكم على اكبر قدر ممكن من انعدام الأمن، ويعزز ذلك الادعاء بغياب البدائل.[9]
وبسبب هذا التحول المشؤوم في إستراتيجية السيادة والحكم، لم تعد سيولة الشر بحاجة إلى الشرعية، بل أصبحت وضعا يشكلنا جميعا، ووضعا وقعنا فيه جميعا، ونشترك جميعا في إعادة إنتاجه الدائم.[10] … ففي المجتمع الذي يخضع تماما للفردية بالمعنى الذي تم تحديده تصبح إعادة إنتاج الشر السائل مهمة نؤديها معا كأفراد على طريقة ” افعلها بنفسك”، مع اختزال دور الحكومات إلى مساعدتنا في القيام بهذه المهمة ودعمنا وإجبارنا على القيام بهذه المهمة والقيام بها كما ينبغي.
“إن الدولة تحصر دورها إلى حد كبير في خطابات وممارسات الحراسة الشرطية والعسكرية، والتي تعتمد إلى حد كبير على السيطرة الانضباطية وأساليب المراقبة، وكلما جرى تقليل سبل الأمان الاجتماعية إلى الحد الأدنى، وكلما زادت سياسة عدم الاستقرار والأمان، اشتدت المعركة من اجل زيادة الأمن الداخلي إلى أقصاه.[11]
السيولة الراهنة:
هناك شروط مسبقة للسيولة الراهنة التي يتسم بها الشر، وهي الانتشار العام للأوعية الشعيرية الموصلة للشر وكثافة شبكتها، وهذه الشروط ترتبط ارتباطا وثيقا بالتطبيع الراهن الذي تدعمه الحكومات لعدم الأمن الاجتماعي الوجودي، “فثمة شعور بعدم الاستقرار وعدم الأمن، في العمل، وفي الأمور المالية، وفي الثقافة بوجه عام، شعور بالتعليق الذي يبدو أنه يشبه أحد قوانين الطبيعة لا شيئا من صنع البشر”
“وهذه الحالة من فقدان الأمان تضرب في أعماق مخاوفنا ورغباتنا، مثلما يقوم العصاب على اللاوعي ويشوهه، وهي تستمد بقاءها بصورة مفتعلة، في حين يجري تقديمها على إنها حالة لا يمكن اجتنابها كأنها قدر مقدر”.[12] وفي ظل تلك الظروف فان الاستعانة بالاستمرار في الطفو يتطلب ” فردية الغرق أو السباحة”. وتحرص المصالح السياسية والتجارية حرصا شديدا على الاستفادة من تلك الظروف، والاستسلام شبه الكامل لوقت المرء وطاقته “وربما مقاصد الحياة بأسرها” يمكن تحليته، وجعله مغويا، وعرضه للاستهلاك من خلال تصويره على أنه فعل التحرر التام.[13]
وأخيرا يمكن القول: بأن التمركز حول الذات هو الشر بعينه، ويبقى الأشرار يستغلون الصحة لغرض الايدولوجيا في عالم يحكمه الاستهلاك الشرير… وهذا هو الغرب الذي يصدر إلينا نظرياته ونتمتع بعرضها وسردها في مؤتمراتنا وملتقياتنا العلمية والفكرية تحت شعار علميتها، يتخبط إنسانيا وعلميا وتكنولوجيا سواء قصدا أو اخذ على حين غرة، وكما لا يسعنا إلا أن نحيي أطقم الإسعاف الإنسانية في العالم والجيوش الطبية ممرضين وعمال بسطاء في جميع بلادنا العربية الشقيقة.
إعداد: سلامة عبيد الزريعي
[1] زيجمونت باومان وليونيداس دونسكيس، الشر السائل العيش اللابديل، تر، حجاج أبو جبر، تقديم: هبة رءوف عزت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2017م.
[2] المصدر نفسه.
[3] فرانسوا رابليه(1493/4-1553) François Rabelais كاتب وروائي وأحد أعلام الحركة الإنسانية في فرنسا. وكان والده أنطوان صاحب أراضٍ ومحامياً معروفاً فيها. من أقواله: العلم بلا ضمير ليس سوى هلاك للنفس, والحكمة لا تدخل نفسا شريرة. وكيف أكون قادرا على قيادة الآخرين,إذا لم تكن لدي القدرة على قيادة نفسي؟! https://ar.rasekhoon.net
[4] زيجمونت باومان وليونيداس دونسكيس، الشر السائل العيش اللابديل، المصدر السابق.
[5] المصدر نفسه.
[6] المصدر نفسه.
[7] المصدر نفسه.
[8] توماس هوبز(1588 – 1679) أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر ولد في بانجلترا، درس الفلسفة في جامعة أكسفورد وتخرّج منها سنة 1608. تميّزت الفترة التي عاش فيها بنشوب الكثير من الحروب والثورات الداخليّة، هذا فضلا عن معايشته لنقاشات حادة حول سلطة الملك وتفسير الكتاب المقدّس والتعصّب الديني بين أنصار حقّ الملك الإلهي في الحكم ومعارضيه.. وتمكّن من زيارة غاليليو بإيطاليا واستوحى منه فكرة تعميم علم الحركة على الإنسان والمجتمع، وتعتبر نظريّة العقد الاجتماعي مفتاحا رئيسيا لفهم فلسفته السياسيّة والاجتماعيّة،من أهمّ مؤلّفاته:- كتاب الليفياتان (Leviathan)،- كتاب “المواطن”، – كتاب “مبادئ القانون الطبيعي والسياسي”، – “العناصر الفلسفيّة للمواطن”. – “الحرّيّة والضرورة والصدفة”، توفي هوبز في هاردويك سنة 1679. راجع: مؤسسة مؤمنون بلا حدود، https://www.mominoun.com
[9] زيجمونت باومان وليونيداس دونسكيس، الشر السائل العيش اللابديل، المصدر السابق.
[10] المصدر نفسه.
[11] المصدر نفسه.
[12] المصدر نفسه.
[13] المصدر نفسه.